موسوعة الأخلاق والسلوك

 أ- من القرآنِ الكريمِ


الإعراضُ عن السُّفَهاءِ والجاهِلينَ من الآدابِ الجليلةِ والأخلاقِ النَّبيلةِ التي حَثَّ عليها القرآنُ الكريمُ وأمَر بها، والمسلِمُ يحتاجُ إلى هذا الخُلُقِ الكريمِ دائِمًا، فيترفَّعُ بأخلاقِه عن مجاراةِ السُّفَهاءِ، والرَّدِّ على الجُهَلاءِ، بل يُعرِضُ ويُنَزِّهُ نفسَه عن مساواةِ الجَهَلةِ والحَمقى من النَّاسِ.
1- قال تعالى حاثًّا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الإعراضِ عن الجاهِلينَ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] .
قال الزَّمَخشريُّ: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ: ولا تكافِئِ السُّفَهاءَ بمِثلِ سَفَهِهم، ولا تُمارِهم، واحلُمْ عنهم، وأَغْضِ على ما يَسوؤك منهم) [545] ((الكشاف)) (2/ 190). .
وقال القُرطبيُّ: (وفي قولِه: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ الحَضُّ على التَّخَلُّقِ بالحِلمِ، والإعراضُ عن أهلِ الظُّلمِ، والتَّنزُّهُ عن منازعةِ السُّفَهاءِ، ومُساواةِ الجَهَلةِ الأغبياءِ، وغيرُ ذلك من الأخلاقِ الحميدةِ والأفعالِ الرَّشيدةِ) [546] ((الجامع لأحكام القرآن)) (7/ 344). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (وهذه الآيةُ فيها جِماعُ الأخلاقِ الكريمةِ؛ فإنَّ الإنسانَ مع النَّاسِ إمَّا أن يفعَلوا معه غيرَ ما يحِبُّ، أو ما يَكرَهُ، فأُمِرَ أن يأخُذَ منهم ما يحِبُّ ما سَمَحوا به، ولا يُطالِبَهم بزيادةٍ، وإذا فعَلوا معه ما يَكرَهُ أعرَض عنهم، وأمَّا هو فيأمُرُهم بالمعروفِ) [547] ((مجموع الفتاوي)) (30/370- 371). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (فلو أخذَ النَّاسُ كُلُّهم بهذه الآيةِ لكَفَتْهم وشَفَتْهم؛ فإنَّ العفوَ ما عفا من أخلاقِهم وسمَحَت به طبائِعُهم، ووَسِعَهم بَذلُه من أموالِهم وأخلاقِهم، فهذا ما منهم إليه، وأمَّا ما يكونُ منه إليهم فأمْرُهم بالمعروفِ، وهو ما تَشهَدُ به العقولُ وتَعرِفُ حُسنَه، وهو ما أمَرَ اللهُ به، وأمَّا ما يتَّقي به أذى جاهِلِهم فالإعراضُ عنه وتَركُ الانتقامِ لنَفسِه والانتصارِ لها، فأيُّ كمالٍ للعبدِ وراءَ هذا؟ وأيُّ مُعاشَرةٍ وسياسةٍ لهذا العالَمِ أحسَنُ من هذه المعاشَرةِ والسِّياسةِ؟ فلو فكَّر الرَّجُلُ في كُلِّ شَرٍّ يَلحَقُه من العالَمِ -أعني الشَّرَّ الحقيقيَّ الذي لا يوجِبُ له الرِّفعةَ والزُّلفى من اللهِ- وجَدَ سَبَبه الإخلالَ بهذه الثَّلاثِ أو بعضِها) [548] ((الرسالة التبوكية)) (ص: 76). .
2- وقال تعالى في مَدحِ عبادِه لاتِّصافِهم بالحِلمِ والإعراضِ عن الجاهِلينَ: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] .
(أي: وإذا خاطَب السُّفَهاءُ عِبادَ الرَّحمنِ بما يَكرَهونه، أجابوهم بقولٍ سَدادٍ وصوابٍ، ويَعْفون عنهم ويَصفَحون؛ فيَسْلَمون من الإثمِ، ومن مُقابلةِ جَهلِهم بالإساءةِ إليهم، ومن تطاوُلِهم في أذيَّتِهم) [549] ((التفسير المحرر - الدرر السنية)) (ص: 20/316). .
3- وقال تعالى في وَصفِ عبادِه المؤمِنين: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [القصص: 54] .
قال السَّعديُّ: (ومِن خصالِهم الفاضِلةِ التي من آثارِ إيمانِهم الصَّحيحِ: أنَّهم وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: دَأْبُهم وطريقتُهم الإحسانُ لكُلِّ أحَدٍ حتى للمُسيءِ إليهم بالقولِ والفعلِ، يقابِلونه بالقولِ الحميدِ والفِعلِ الجميلِ؛ لعِلمِهم بفضيلةِ هذا الخُلُقِ العظيمِ، وأنَّه لا يوفَّقُ له إلَّا ذو حظٍّ عظيمٍ) [550] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 620). .
4- وقال تعالى واصِفًا عبادَه المُحسِنين بالتَّجاوُزِ والعَفوِ عن النَّاسِ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134] .
قال ابنُ كثيرٍ: (فقَولُه: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أي: لا يُعمِلون غَضَبَهم في النَّاسِ، بل يَكفُّون عنهم شَرَّهم، ويحتَسِبون ذلك عِندَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، ثمَّ قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ أي: مع كفِّ الشَّرِّ يَعْفون عمَّن ظلَمَهم في أنفُسِهم، فلا يبقى في أنفُسِهم مَوجِدةٌ على أحَدٍ، وهذا أكمَلُ الأحوالِ؛ ولهذا قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا من مقاماتِ الإحسانِ) [551] ((تفسير القرآن العظيم)) (2/ 122). .
5- وقال تعالى نادِبًا إلى مقابلةِ الإساءةِ بالإحسانِ والجَهالةِ بالحِلمِ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] .
قال الواحِديُّ: (المعنى: ولا تَستوي الحَسَنةُ والسَّيِّئةُ، يعني: الصَّبرَ والغَضَبَ، والحِلمَ والجَهلَ، والعَفوَ والإساءةَ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كدَفعِ الغَضَبِ بالصَّبرِ، والإساءةِ بالعَفوِ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أي: فإذا فعَلْتَ ذلك ودفَعْتَ السَّيِّئةَ بالتي هي أحسَنُ، صار الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كالصَّديقِ القريبِ) [552] ((التفسير الوسيط)) (4/ 35، 36). .
6- قال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] ، قال ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ: (إنَّ اللهَ أخبر عن هؤلاء المؤمِنين الذين مدحَهم بأنَّهم إذا مرُّوا باللَّغوِ مَرُّوا كِرامًا، واللَّغوُ في كلامِ العَرَبِ هو كُلُّ كلامٍ أو فِعلٍ باطِلٍ لا حقيقةَ له ولا أصلَ، أو ما يُستقبَحُ؛ فسَبُّ الإنسانِ الإنسانَ بالباطِلِ الذي لا حقيقةَ له: مِنَ اللَّغوِ... وسماعُ الغناءِ ممَّا هو مُستقبَحٌ في أهلِ الدِّينِ، فكُلُّ ذلك يدخُلُ في معنى اللَّغوِ... فتأويلُ الكلامِ: وإذا مرُّوا بالباطِلِ فسَمِعوه أو رأَوه مرُّوا كرامًا. مُرورُهم كِرامًا في بعضِ ذلك بألَّا يَسمَعوه، وذلك كالغِناءِ، وفي بعضِ ذلك بأن يُعرِضوا عنه ويَصفَحوا، وذلك إذا أُوذوا بإسماعِ القبيحِ من القولِ، وفي بعضِه بأن يَنْهوا عن ذلك...) [553] ((جامع البيان)) للطبري (17/ 526). .
7- وقال تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55] ، (قولُه: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ أي: لا يُخالِطون أهلَه ولا يُعاشِرونَهم، بل كما قال تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] ، وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، أي: إذا سَفِه عليهم سَفيهٌ، وكَلَّمهم بما لا يليقُ بهم الجوابُ عنه، أعرَضوا عنه ولم يُقابِلوه بمِثلِه من الكلامِ القبيحِ، ولا يَصدُرُ عنهم إلَّا كلامٌ طيِّبٌ؛ ولهذا قال عنهم: إنَّهم قالوا: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ، أي: لا نريدُ طريقَ الجاهِلينَ ولا نحِبُّها) [554] ((تفسير ابن كثير)) (6/ 245). .

انظر أيضا: