موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نماذِجُ مِن صِدقِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


أبو ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه صادِقُ اللَّهجةِ:
كان أبو ذَرٍّ رَضِيَ الله عنه صادِقَ اللَّهجةِ [5801] اللَّهجةُ: هي لغةُ الإنسانِ التي جُبِل عليها فاعتادها. ومعنى صادِقِ اللَّهجةِ: أنَّه لا يذهَبُ إلى التوريةِ والمعاريضِ في الكلامِ، فلا يُرخي عِنانَ كلامِه، ولا يحابي مع النَّاسِ ولا يسامِحُهم، ويظهِرُ الحَقَّ البحتَ، والصِّدقَ المحْضَ. يُنظَر: ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (10/206)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (3/2041). ؛ فقد قال عنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما أقلَّتِ الغَبراءُ ولا أظَلَّتِ الخَضراءُ من رجُلٍ أصدَقَ لهجةً من أبي ذَرٍّ)) [5802] رواه الترمذي (3801)، وابن ماجه (156) واللفظ له، وأحمد (6630) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (156)، وحسَّنه الترمذي، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6630). .
كَعبُ بنُ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه ينجو بالصِّدقِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ كَعبِ بنِ مالكٍ، وكان قائدَ كَعبٍ من بنيه حينَ عَمِيَ، قال: سمِعتُ كَعبَ بنَ مالكٍ يحَدِّثُ حينَ تخلَّف عن قصَّةِ تبوكَ، قال كعبٌ: ((لم أتَخَلَّفْ عن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَزوةٍ غَزاها إلَّا في غَزوةِ تَبوكَ، غَيرَ أنِّي كُنتُ تَخَلَّفتُ في غَزوةِ بَدرٍ، ولم يُعاتِب أحَدًا تَخَلَّف عنها، إنَّما خَرَجَ رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم يُريدُ عِيرَ قُرَيشٍ، حَتَّى جَمع اللهُ بَينَهم وبَينَ عَدوِّهم على غَيرِ ميعادٍ، ولقد شَهدتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةَ العَقَبَةِ، حينَ تَواثَقنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهدَ بَدرٍ، وإن كانَت بَدرٌ أذكَرَ في النَّاسِ مِنها، كانَ مِن خَبَري: أنِّي لم أكُنْ قَطُّ أقوى ولا أيسرَ حينَ تَخَلَّفتُ عنه في تِلكَ الغَزاةِ، واللهِ ما اجتَمعتْ عندي قَبلَه راحِلتانِ قَطُّ، حَتَّى جَمعتُهما في تِلكَ الغَزوةِ، ولم يكُنْ رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم يُريدُ غَزوةً إلَّا ورَّى بغَيرِها، حَتَّى كانَت تلك الغَزوةُ، غَزاها رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَرٍّ شَديدٍ، واستَقبَل سفرًا بَعيدًا، ومَفازًا وعَدوًّا كَثيرًا، فجَلَّى للمُسلمينَ أمرَهم ليتَأهَّبوا أُهبةَ غَزوِهم، فأخبَرَهم بوجهِه الذي يُريدُ، والمُسلمونَ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَثيرٌ، ولا يجمَعُهم كِتابٌ حافِظٌ، يُريدُ الدّيوانَ. قال كَعبٌ: فما رَجُلٌ يُريدُ أن يتَغَيَّبَ إلَّا ظَنَّ أن سيخفى له، ما لم ينزِلْ فيه وحيُ اللهِ، وغَزا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تلك الغَزوةَ حينَ طابَتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، وتَجَهَّزَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلمونَ معه، فطَفِقتُ أغدو لكي أتَجَهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شَيئًا، فأقولُ في نَفسي: أنا قادِرٌ عليه! فلم يزَل يتَمادى بي حَتَّى اشتَدَّ بالنَّاسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلمونَ معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شَيئًا، فقُلتُ أتَجَهَّزُ بَعدَه بيومٍ أو يومَينِ ثُمَّ ألحَقُهم، فغَدَوتُ بَعدَ أن فصَلوا لأتَجَهَّزَ، فرَجَعتُ ولم أقضِ شَيئًا! ثُمَّ غَدَوتُ، ثُمَّ رَجَعتُ ولم أقضِ شَيئًا! فلم يزَل بي حَتَّى أسرَعوا وتَفارَطَ الغَزوُ، وهمَمتُ أن أرتَحِلَ فأدرِكَهم، وليتَني فعلتُ! فلم يُقدَّرْ لي ذلك، فكُنتُ إذا خَرَجتُ في النَّاسِ بَعدَ خُروجِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فطُفتُ فيهم، أحزَنَني أنِّي لا أرى إلَّا رَجُلًا مَغموصًا عليه النِّفاقُ، أو رَجُلًا مِمَّن عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفاءِ، ولم يذكُرْني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى بَلغَ تَبوكَ، فقال وهو جالسٌ في القَومِ بتَبوكَ: ما فعل كَعبٌ؟! فقال رَجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رَسولَ اللهِ، حَبَسه بُرداه، ونَظَرُه في عِطفِه، فقال معاذُ بنُ جَبَلٍ: بئسَ ما قُلتَ! واللهِ يا رَسولَ اللهِ ما عَلِمْنا عليه إلَّا خَيرًا! فسكَتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال كَعبُ بنُ مالكٍ: فلمَّا بَلغَني أنَّه تَوجَّه قافِلًا حَضَرَني همِّي، وطَفِقتُ أتَذَكَّرُ الكَذِبَ، وأقولُ: بماذا أخرُجُ مِن سخَطِه غَدًا؟! واستَعنتُ على ذَلكَ بكُلِّ ذي رَأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أظَلَّ قادِمًا زاحَ عني الباطِلُ، وعَرَفتُ أنّي لن أخرُجَ مِنه أبَدًا بشَيءٍ فيه كَذِبٌ، فأجمعتُ صِدقَه، وأصبَحَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قادِمًا، وكانَ إذا قَدِمَ مِن سفَرٍ بَدَأ بالمَسجِدِ، فيركَعُ فيه رَكعَتَينِ، ثُمَّ جَلس للنَّاسِ، فلمَّا فعل ذَلكَ جاءَه المُخَلَّفونَ، فطَفِقوا يعتَذِرونَ إليه ويحلفونَ له، وكانوا بضعَةً وثَمانينَ رَجُلًا، فقَبل مِنهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علانيتَهم، وبايعَهم واستَغفرَ لهم، ووكَل سرائِرَهم إلى اللهِ، فجِئتُه فلمَّا سلَّمتُ عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغضَبِ! ثُمَّ قال: تَعال، فجِئتُ أمشي حَتَّى جَلستُ بَينَ يدَيه، فقال لي: ما خَلَّفكَ، ألم تَكُنْ قد ابتَعتَ ظَهرَكَ؟! فقُلتُ: بَلى، إنِّي واللهِ لو جَلستُ عندَ غَيرِكَ مِن أهلِ الدُّنيا لرَأيتُ أن سأخرُجُ مِن سخَطِه بعُذرٍ، ولقد أُعطِيتُ جَدَلًا، ولكِنِّي واللهِ لقد عَلِمتُ لئِنْ حَدَّثتُكَ اليومَ حَديثَ كَذِبٍ تَرضى به عني، ليوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَكَ عليَّ، ولئِنْ حَدَّثتُكَ حَديثَ صِدقٍ تَجِدُ عليَّ فيه، إنِّي لأرجو فيه عَفوَ اللهِ، لا واللهِ ما كانَ لي مِن عُذرٍ، واللهِ ما كُنتُ قَطُّ أقوى ولا أيسرَ مِنِّي حينَ تَخَلَّفتُ عنكَ! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَّا هذا فقد صَدَقَ، فقُم حَتَّى يقضيَ اللهُ فيك. فقُمتُ، وثارَ رِجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناكَ كُنتَ أذنَبتَ ذَنبًا قَبلَ هذا، ولقد عَجَزتَ ألَّا تَكونَ اعتَذَرتَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما اعتَذَرَ إليه المُتَخَلِّفونَ! قد كانَ كافيَكَ ذَنبَكَ استِغفارُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لك، فواللهِ ما زالوا يُؤَنِّبوني حَتَّى أرَدتُ أن أرجِعَ فأكَذِّبَ نَفسي! ثُمَّ قُلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي أحَدٌ؟ قالوا: نَعَم، رَجُلانِ قالا مِثلَ ما قُلتَ، فقيل لهما مِثلُ ما قيل لك، فقُلتُ: من هما؟ قالوا: مُرارَةُ بنُ الرَّبيعِ العَمْريُّ، وهلالُ بنُ أمَيَّةَ الواقِفيُّ، فذَكَروا لي رَجُلينِ صالحَينِ قد شَهدا بَدرًا، فيهما أُسوةٌ، فمَضَيتُ حينَ ذَكَروهما لي، ونَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُسلمينَ عن كَلامِنا -أيُّها الثَّلاثَةُ- مِن بَينِ مَن تَخَلَّف عنه، فاجتَنَبَنا النَّاسُ، وتَغَيَّروا لنا حَتَّى تَنَكَّرَت في نَفسي الأرضُ، فما هي التي أعرِفُ! فلَبِثْنا على ذلك خَمسينَ ليلةً، فأمَّا صاحِباي فاستَكانا وقَعَدا في بُيوتِهما يبكيانِ، وأمَّا أنا فكُنتُ أشَبَّ القَومِ وأجلدَهم، فكُنتُ أخرُجُ فأشهدُ الصَّلاةَ مع المُسلمينَ، وأطوفُ في الأسواقِ ولا يُكَلِّمُني أحَدٌ، وآتي رَسولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم فأسلِّمُ عليه وهو في مَجلسِه بَعدَ الصَّلاةِ، فأقولُ في نَفسي: هل حَرَّكَ شَفتَيه برَدِّ السَّلامِ عليَّ أم لا؟ ثُمَّ أصَلّي قَريبًا مِنه، فأُسارِقُه النَّظَرَ، فإذا أقبَلتُ على صَلاتي أقبَلَ إليَّ، وإذا التَفتُّ نَحوه أعرَضَ عني! حَتَّى إذا طال عليَّ ذَلكَ مِن جَفوةِ النَّاسِ مَشَيتُ حَتَّى تَسوَّرتُ جِدارَ حائِطِ أبي قَتادَةَ، وهو ابنُ عَمّي وأحَبُّ النَّاسِ إليَّ، فسلَّمتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السَّلامَ، فقُلتُ: يا أبا قَتادَةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلمُني أحِبُّ اللهَ ورَسولَه؟ فسكَتَ، فعُدتُ له فنَشَدتُه فسكَتَ، فعُدتُ له فنَشَدتُه، فقال: اللهُ ورَسولُه أعلمُ، ففاضَت عَيناي! وتَولَّيتُ حَتَّى تَسوَّرتُ الجِدارَ، قال: فبَينا أنا أمشي بسوقِ المَدينَةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن أنباطِ أهلِ الشَّأمِ، مِمَّن قدمَ بالطَّعامِ يبيعُه بالمَدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كَعبِ بنِ مالكٍ، فطَفِقَ النَّاسُ يُشيرونَ له، حَتَّى إذا جاءَني دَفعَ إليَّ كِتابًا مِن مَلكِ غَسَّانَ، فإذا فيه: أمَّا بَعدُ، فإنَّه قد بَلغَني أنَّ صاحِبَكَ قد جَفاكَ، ولم يجعَلْكَ اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِكَ، فقُلتُ لمَّا قَرَأتُها: وهذا أيضًا مِنَ البَلاءِ! فتَيمَّمتُ بها التَّنُّورَ فسجَرتُه بها، حَتَّى إذا مَضَت أربَعونَ ليلةً مِنَ الخَمسينَ، إذا رَسولُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأتيني، فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمُرُك أن تَعتَزِلَ امرَأتَكَ، فقُلتُ: أطَلِّقُها؟ أم ماذا أفعلُ؟ قال: لا، بَل اعتَزِلها ولا تَقرَبْها، وأرسَل إلى صاحِبَيَّ مِثلَ ذلك، فقُلتُ لامرَأتي: الحَقي بأهلِك، فتَكوني عندَهم، حَتَّى يقضيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال كَعبٌ: فجاءَتِ امرَأةُ هلالِ بنِ أمَيَّةَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رَسولَ اللهِ: إنَّ هلالَ بنَ أمَيَّةَ شَيخٌ ضائِعٌ، ليس له خادِمٌ، فهل تَكرَه أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكِن لا يقرَبْكِ. قالت: إنَّه واللهِ ما به حَرَكَةٌ إلى شَيءٍ، واللهِ ما زال يبكي مُنذُ كانَ مِن أمرِه ما كانَ إلى يومِه هذا! فقال لي بَعضُ أهلي: لوِ استَأذَنتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في امرَأتِك كما أذِنَ لامرَأةِ هلالِ بنِ أمَيَّةَ أن تَخدُمَه؟ فقُلتُ: واللهِ لا أستَأذِنُ فيها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما يُدريني ما يقولُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استَأذَنتُه فيها، وأنا رَجُلٌ شابٌّ؟ فلبثتُ بَعدَ ذَلكَ عَشرَ ليالٍ، حَتَّى كَمَلتْ لنا خَمسونَ ليلةً مِن حينَ نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن كَلامِنا، فلمَّا صَلَّيتُ صَلاةَ الفجرِ صُبحَ خَمسينَ ليلةً، وأنا على ظَهرِ بَيتٍ مِن بُيوتِنا، فبَينا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذَكَرَ اللهُ، قد ضاقَت عليَّ نَفسي، وضاقَت عليَّ الأرضُ بما رَحُبَت، سمعتُ صَوتَ صارِخٍ، أوفى على جَبَلِ سَلْعٍ بأعلى صَوتِه: يا كَعبُ بنَ مالكٍ أبشِر! قال: فخَرَرتُ ساجِدًا، وعَرَفتُ أن قد جاءَ فرَجٌ، وآذَنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَوبةِ اللهِ علينا حينَ صَلَّى صَلاةَ الفجرِ، فذَهبَ النَّاسُ يُبَشِّرونَنا، وذَهبَ قِبَلَ صاحِبَيَّ مُبَشِّرونَ، ورَكَضَ إليَّ رَجُلٌ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلمَ، فأوفى على الجَبَل، وكانَ الصَّوتُ أسرَعَ مِنَ الفرَسِ، فلمَّا جاءَني الَّذي سمعتُ صَوتَه يُبَشِّرُني، نَزَعتُ له ثَوبَيَّ، فكَسوتُه إيَّاهما ببُشراه، واللهِ ما أملكُ غَيرَهما يومَئِذٍ! واستَعَرتُ ثَوبَينِ فلَبِستُهما، وانطَلقتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيتَلقَّاني النَّاسُ فوجًا فوجًا، يُهنُّوني بالتَّوبةِ، يقولونَ: لِتَهْنِكَ [5803] التَّهنئةُ: خلافُ التعزيةِ. يقال: هنَأَه بالأمرِ والوِلايةِ هَنْأً، وهَنَّأه تهنِئةً وتهنيئًا: إذا قُلْتَ له: لِيَهْنِئْكَ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 185). تَوبةُ اللهِ عليك! قال كَعبٌ: حَتَّى دَخَلتُ المَسجِدَ، فإذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جالسٌ حَوله النَّاسُ، فقامَ إليَّ طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهروِلُ حَتَّى صافحَني وهنَّاني، واللهِ ما قامَ إليَّ رَجُلٌ مِنَ المُهاجِرينَ غَيرَه، ولا أنساها لطَلحةَ! قال كَعبٌ: فلمَّا سلَّمتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يبرُقُ وجهُه مِنَ السُّرورِ: أبشِر بخَيرِ يومٍ مَرَّ عليك مُنذُ ولدَتكَ أمُّك! قال: قُلتُ: أمِن عندِكَ يا رَسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ قال: لا، بَل مِن عندِ اللهِ. وكانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سُرَّ استَنارَ وجهُه، حَتَّى كأنَّه قِطعةُ قَمَرٍ، وكُنَّا نَعرِفُ ذلك منه، فلمَّا جَلستُ بَينَ يدَيه قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوبَتي أن أنخَلعَ مِن مالي صَدَقةً إلى اللهِ وإلى رَسولِ اللهِ، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمسِك عليك بَعضَ مالك؛ فهو خَيرٌ لك». قُلتُ: فإنّي أمسِكُ سهمي الذي بخَيبَرَ، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما نَجَّاني بالصِّدقِ، وإنَّ مِن تَوبَتي أن لا أحَدِّثَ إلَّا صِدقًا ما بَقيتُ؛ فواللهِ ما أعلمُ أحَدًا مِنَ المُسلمينَ أبلاه اللهُ في صِدقِ الحَديثِ مُنذُ ذَكَرتُ ذلك لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسنَ ممَّا أبلاني، ما تَعَمَّدتُ مُنذُ ذَكَرتُ ذلك لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى يومي هذا كَذِبًا، وإنِّي لأرجو أن يحفظَني اللهُ فيما بَقيتُ، وأنزَل اللهُ على رَسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرينَ وَالْأَنْصَارِ [التوبة: 117] إلى قَولِه: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] ، فواللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نِعمَةٍ قَطُّ بَعدَ أن هداني للإسلامِ أعظَمَ في نَفسي مِن صِدقي لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنْ لا أكونَ كَذَبتُه فأهلِكَ كما هلكَ الذينَ كَذَبوا؛ فإنَّ اللهَ قال للذينَ كَذَبوا -حينَ أنزَل الوحيَ- شَرَّ ما قال لأحَدٍ، فقال تبارك وتعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ [التوبة: 95] إلى قَولِه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 95- 96] )) [5804] أخرجه البخاري (4418) واللفظ له، ومسلم (2769). .
وقد ذكَرَ ابنُ القَيِّمِ الفوائدَ المستنبَطةَ من هذه القِصَّةِ، فقال: (ومنها عِظَمُ مِقدارُ الصِّدقِ، وتعليقُ سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ والنَّجاةِ من شَرِّهما به، فما أنجى اللهُ من أنجاه إلَّا بالصِّدقِ، ولا أهلك من أهلكه إلَّا بالكَذِبِ، وقد أمرَ اللهُ سُبحانَه عبادَه المُؤمِنين أن يكونوا مع الصَّادقينَ، فقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ [التوبة: 119] وقد قسَّم سُبحانَه الخَلقَ إلى قِسمَين: سعداءَ، وأشقياءَ. فجعل السُّعداءَ هم أهلَ الصِّدقِ والتَّصديقِ، والأشقياءَ هم أهلَ الكَذِبِ والتَّكذيبِ، وهو تقسيمٌ حاصِرٌ مطَّرِدٌ منعَكِسٌ؛ فالسَّعادةُ دائرةٌ مع الصِّدقِ والتَّصديقِ، والشَّقاوةُ دائرةٌ مع الكَذِبِ والتَّكذيبِ. وأخبر سُبحانَه وتعالى أنَّه لا ينفَعُ العبادَ يومَ القيامةِ إلَّا صِدقُهم، وجعل عَلَمَ المُنافِقين الذي تميَّزوا به هو الكَذِبَ في أقوالِهم وأفعالِهم، فجميعُ ما نعاه عليهم أصلُه الكَذِبُ في القولِ والفعلِ، فالصِّدقُ بريدُ الإيمانِ، ودليلُه، ومركبُه، وسائقُه، وقائدُه، وحِليتُه، ولباسُه، بل هو لُبُّه ورُوحُه. والكَذِبُ بريدُ الكفرِ والنِّفاقِ، ودليلُه، ومركبُه، وسائقُه، وقائدُه، وحِليتُه، ولباسُه، ولُبُّه؛ فمُضادَّةُ الكَذِبِ للإيمانِ كمضادَّةِ الشِّركِ للتوحيدِ، فلا يجتَمِعُ الكَذِبُ والإيمانُ إلَّا ويَطرُدُ أحدُهما صاحِبَه، ويستقِرُّ مَوضِعَه، واللهُ سُبحانَه أنجى الثَّلاثةَ بصِدقِهم، وأهلك غيرَهم من المخلَّفين بكَذِبهم، فما أنعَم اللهُ على عبدٍ بعدَ الإسلامِ بنِعمةٍ أفضَلَ من الصِّدقِ الذي هو غذاءُ الإسلامِ وحياتُه، ولا ابتلاه ببليَّةٍ أعظَمَ من الكَذِبِ الذي هو مَرَضُ الإسلامِ وفسادُه) [5805] يُنظَر: ((زاد المعاد)) (3/480). .
صِدقُ بِلالٍ:
وخطب بِلالٌ على أخيه امرأةً من بني حِسلٍ من قُرَيشٍ، وقال: (نحن من قد عرَفتُم، كُنَّا عبدَينِ فأعتَقَنا اللهُ، وكُنَّا ضالَّينِ فهدانا اللهُ، وفقيرينِ فأغنانا اللهُ، وأنا أخطُبُ على أخي خالدٍ فُلانةَ، فإن تَنكِحوه فالحمدُ للهِ، وإن تردُّوه فاللهُ أكبَرُ، فأقبَل بعضُهم على بعضٍ فقالوا: هو بلالٌ، وليس مِثلُه يُدفَعُ، فزوَّجوا أخاه. فلمَّا انصَرَفْنا قال خالِدٌ لبلالٍ: يغفِرُ اللهُ لك! ألَا ذكَرْتَ سوابِقَنا ومشاهِدَنا مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم! قال بلالٌ: مَهْ! صدَقْتَ فأنكَحَك الصِّدقُ!) [5806] يُنظَر: ((الطبقات الكبير)) لابن سعد (3/ 218)، ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (4/ 72)، ((التذكرة الحمدونية)) لابن حمدون (3/ 78). .

انظر أيضا: