موسوعة الأخلاق والسلوك

هـ- نماذِجُ أُخرى من الصِّدقِ


- جعفَرٌ الصَّادِقُ بنُ محمَّدٍ الباقِرِ بنِ عَليٍّ زينِ العابدينَ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنهم، سمِّيَ الصَّادِقَ لصِدقِه في مقالتِه [5807] يُنظَر: ((مرآة الجنان وعبرة اليقظان)) لليافعي (1/ 238)، ((تاريخ ابن الوردي)) (1/ 187(. .
- أحمدُ بنُ يحيى بنِ زيدٍ، أبو العبَّاسِ الشَّيبانيُّ مولاهم، ثعلَبٌ النَّحْويُّ، إمامُ أهلِ الكوفةِ، اتَّفَقوا على صِدقِه، وصلاحِه، وأمانتِه، وثقتِه، وكان يُسَمَّى فاروقَ النُّحاةِ لصِدقِه [5808] ((مرآة الزمان في تواريخ الأعيان)) لسبط ابن الجوزي (16/ 299، 200). .
- سُلَيمانُ بنُ مِهرانَ أبو محمَّدٍ الكوفيُّ الأعمَشُ، أحَدُ الأعلامِ الحُفَّاظِ والقُرَّاءِ، كان يُسمَّى «المُصحَفَ»؛ لصِدقِه [5809] ((تاريخ إربل)) لابن المستوفي (2/ 105)، ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (4/ 223)، ((خلاصة تذهيب تهذيب الكمال)) للخزرجي (ص: 155). .
- و(خطب الحجَّاجُ فأطال فقام رجلٌ فقال: الصَّلاةُ؛ فإنَّ الوقتَ لا ينتَظِرُك، والرَّبُّ لا يَعذِرُك! فأمَر بحبسِه، فأتاه قومُه زعموا أنَّه مجنونٌ، وسألوه أن يخَلِّيَ سبيلَه، فقال: إنْ أقَرَّ بالجنونِ خلَّيتُه، فقيل له، فقال: مَعاذَ اللهِ لا أزعُمُ أنَّ اللهَ ابتلاني، وقد عافاني! فبلغ ذلك الحَجَّاجَ فعفا عنه لصِدقِه) [5810] يُنظَر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 211)، ((محاضرات الأدباء)) للراغب (1/ 296)، ((المستطرف)) للأبشيهي (2/ 16). .
- وقال الأصمَعيُّ: (أتى رجُلٌ الحجَّاجَ فقال: إنَّ رِبعِيَّ بنَ حِراشٍ زَعَموا لا يَكذِبُ، وقد قَدِم ولداه عاصِيَين. قال: فبَعَث إليه الحجَّاجُ، فقال: ما فعل ابناك؟ قال: هما في البيتِ، واللهُ المستعانُ! فقال له الحَجَّاجُ بنُ يوسُفَ: هما لك. وأعجبه صِدقُه [5811] يُنظَر: ((مكارم الأخلاق)) لابن أبي الدنيا (ص: 50)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/ 360). وينظر أيضًا: ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) لأبي نعيم (4/ 369). .
- وقيل: (أُتيَ الحجَّاجُ بأسيرينِ من أصحابِ ابنِ الأشعَثِ، فأمر بقَتلِهما، فقال أحدُهما: إنَّ لي عندك يدًا. قال: وما هي؟ قال: ذَكَر ابنُ الأشعَثِ يومًا أمَّك بسوءٍ فنَهَيتُه. قال: ومَن يعلَمُ ذلك؟ قال: هذا الأسيرُ الآخَرُ، فسأله الحَجَّاجُ، فصَدَّقَه، فقال له الحَجَّاجُ: فلمَ لم تفعَلْ كما فعَل؟ قال: وينفَعُني الصِّدقُ عندَك؟ قال: نعم. قال: منعني البُغضُ لك ولقومِك. قال: خلُّوا عن هذا لفِعلِه، وعن هذا لصِدقِه) [5812] يُنظَر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (3/ 512)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (12/525). .
- وقال المنصورُ لهشامِ بنِ عُروةَ: يا أبا المنذِرِ، تذكُرُ يومَ دخَلْتُ عليك وإخوتي مع أبي الخلائِفِ -يعني أباه- وأنت تشرَبُ سَويقًا بقَصبةِ يراعٍ، فلمَّا خرَجْنا قال لنا أبونا: اعرِفوا لهذا الشَّيخِ حَقَّه؛ فإنَّه لا يزالُ في قومِكم خيرٌ ما بَقِيَ؟! قال: لا أذكُرُ ذلك يا أميرَ المُؤمِنين. فلامه بعضُ أهلِه، وقالوا: يُذَكِّرُك أميرُ المُؤمِنين بما يَمُتُّ به إليك، فتقولُ: لا أذكُرُه! فقال: لم أذكُرْ ذلك، ولم يُعَوِّضْني اللهُ من الصِّدقِ إلَّا خيرًا [5813] ((التذكرة الحمدونية)) (3/62). .
- وعن مضاءٍ قال: (ما فاق إبراهيمُ بنُ أدهَمَ أصحابَه بصَومٍ ولا صلاةٍ، ولكن بالصِّدقِ، والسَّخاءِ) [5814] ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) لأبي نعيم (7/ 384). .
- وعن أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ قال: (إنما رفعَ اللهُ عَفَّانَ وأبا نُعَيمٍ بالصِّدقِ، حتى نوَّه بذِكرِهما) [5815] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (10/ 150). .
صِدقُ عبدِ القادِرِ الجِيلانيِّ:
قال عبدُ القادِرِ الجيلانيُّ: (بنَيتُ أمري على الصِّدقِ، وذلك أني خرجتُ من مكَّةَ إلى بغدادَ أطلُبُ العِلمَ، فأعطتني أمي أربعين دينارًا وعاهدَتْني على الصِّدقِ، فلمَّا وصَلْنا أرضَ هَمدانَ خرج علينا عربٌ، فأخذوا القافلةَ فمَرَّ واحدٌ منهم وقال: ما معك؟ قلتُ: أربعون دينارًا، فظنَّ أني أهزأُ به فتركني، فرآني رجلٌ آخَرُ فقال: ما معك؟ فأخبَرتُه فأخذني إلى كبيرِهم، فسألني فأخبَرْتُه، فقال: ما حملَك على الصِّدقِ. قُلتُ: عاهدَتْني أمِّي على الصِّدقِ، فأخاف أن أخونَ عَهدَها! فصاح ومزَّق ثيابَه، وقال: أنت تخافُ أن تخونَ عَهدَ أمِّك، وأنا لا أخافُ أن أخونَ عهدَ اللهِ! ثمَّ أمر برَدِّ ما أخذوه من القافلةِ، وقال: أنا تائبٌ لله على يديك! فقال من معه: أنت كبيرُهم في قَطعِ الطَّريقِ وأنت اليومَ كبيرُنا في التَّوبةِ، فتابوا جميعًا ببركةِ الصِّدقِ!) [5816] ((نزهة المجالس ومنتخب النفائس)) للصفوري (1/ 145). .
صِدقُ العلَّامةِ أحمدَ بنِ عيسى:
العلَّامةُ أحمدُ بنُ إبراهيمَ بنِ حَمدِ بنِ محمَّدِ بنِ حَمَدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عيسى، كان يتردَّدُ على مكَّةَ للتجارةِ وعلى جُدَّةَ، وكان غالِبُ تجارتِه الأقمِشةَ القُطنيَّةَ، وعامَل في التِّجارةِ والشِّراءِ عبدَ القادِرِ بنَ مصطفى التِّلِمْساني أحدَ تجَّارِ جُدَّةَ ومن ذوي الأملاكِ في القُطرِ المصريِّ، كان يدفَعُ له أربعَمائةِ جُنيهٍ ويشتري بألفٍ، ويُسَدِّدُ الباقيَ أقساطًا، ودام التَّعامُلُ بينَه وبينَ التِّلِمْساني زمنًا طويلًا. وكان لصِدقِه وأمانتِه ووفائِه أثرٌ طيِّبٌ في نفسِ التِّلِمْسانيِّ حتى أخَذ يبيعُه كُلَّ ما يحتاجُ إليه مؤجَّلًا يسَدِّدُه فيما بعدُ أقساطًا، وقال له التِّلِمْسانيُّ: إني عامَلتُ النَّاسَ أكثَرَ من ثلاثين عامًا، فما وجدتُ أحسَنَ من التَّعامُلِ معك يا وهَّابيُّ! ويظهَرُ أنَّ ما يُشاعُ عنكم يا أهلَ نجدٍ مبالَغٌ فيه من خصومِكم السِّياسيِّين بسَبَبِ الحُروبِ التي وقَعَت بينكم وبينَ أشرافِ مكَّةَ والمِصريِّين والأتراكِ! فقد أشاعوا عنكم أقوالًا مُنكَرةً [5817] ((مشاهير علماء نجد وغيرهم)) لعبد الرحمن بن عبد اللطيف (ص: 185). .
صِدقُ رِضا اللهِ البدوانيِّ الهِنديِّ:
حين استعَرَت نيرانُ الثَّورةِ ضِدَّ الإنجليزِ في الهندِ كان المُسلِمون هناك يتصَّدرون الصُّفوفَ الأولى للثَّورةِ، ويقُضُّون مضاجِعَ المستعمِرين الإنجليزِ بشجاعتِهم النَّادرةِ وإقبالهم على الاستشهادِ دِفاعًا عن دينِهم وبلادِهم.
وفي يومٍ من أيَّامِ عامِ (1857م)، ألقت السُّلُطاتُ الإنجليزيَّةُ القبضَ على العالِمِ الشَّيخِ رِضا اللهِ البدوانيِّ بتُهمةِ الاشتراكِ في الثَّورةِ ضِدَّ الإنجليزِ.
وجيءَ بالعالمِ الشَّيخِ ليُحاكَمَ أمامَ ضابِطٍ إنجليزيٍّ كبيرٍ، وكان هذا الضَّابطُ يُكبِرُ في الشَّيخِ جرأتَه وشجاعتَه، فأراد أن يلتَمِسَ للشيخِ مُبَرِّرًا قانونيًّا يطلِقُ به سراحَه، فأوعز لبعضِ أصدقاءِ الشَّيخِ أن ينصحوه بأن يُنكِرَ التُّهمةَ أمامَ المحاكِمِ.
وجيء بالشَّيخِ أمامَ المحكمةِ العَسكريَّةِ، فقال له الضَّابطُ الإنجليزيُّ: عَلِمتُ أيُّها الشَّيخُ أنَّك لم تكُنْ مُشتَرِكًا في الثَّورةِ ضِدَّنا، فإن كان هذا الذي سمِعتُه حَقًّا، أطلَقْتُ سبيلَك في الحالِ؟
وابتسم الشَّيخُ وهو يجيبُ الضَّابطَ الإنجليزيَّ: لا واللهِ -أيُّها الحاكِمُ- لا أجحَدُ شَرَفَ المشاركةِ في حَربِكم، وواللهِ لو أطلَقْتَ سَراحي الآن لعُدتُ إليك بعد ساعاتٍ بنفسِ التُّهمةِ التي تحاكِمُني بها الآن!
ولم يجِدِ الحاكِمُ الإنجليزيُّ بُدًّا من الحكمِ بإعدامِ الشَّيخِ رِضا اللهِ البدوانيِّ.
وسيقَ العالِمُ الثَّائِرُ إلى خشَبةِ الإعدامِ ومشى الحاكمُ الإنجليزيُّ إلى جانبِه، والشَّيخُ لا ينفَكُّ يذكُرُ اللهَ ويُثني عليه، حتى إذا اقترب موكِبُ الموتِ من خشبةِ الإعدامِ قال الحاكِمُ الإنجليزيُّ للعالِمِ:
أيُّها الشَّيخُ ما زال أمامك متَّسَعٌ من الوقتِ لتُنقِذَ نفسَك من الشَّنقِ! قُلْ لي الآن: إنَّك لم تشارِكْ في الثَّورةِ ضِدَّنا فأؤجِّلَ تنفيذَ الحُكمِ، ثمَّ أعمَلَ على براءتِك وإطلاقِ سراحِك!
ونظَر الشَّيخُ إلى حَبلِ المِشنَقةِ وهو يبتَسِمُ ابتسامةً تهزأُ بالموتِ، ثمَّ نظر إلى الضَّابطِ الإنجليزيِّ وقال: أتريدُ أن أكذِبَ لأنجوَ من الموتِ، لا أيُّها الحاكِمُ، لن أكذِبَ أبدًا، لقد اشتركتُ في الثَّورةِ ضِدَّكم؛ لأنَّ ديني يأمُرُني بذلك، فافعَلْ ما بدا لك!
وما هي إلَّا لحظاتٌ وجَسَدُ العالمِ الثَّائرِ رضا اللهِ البدوانيِّ يتأرجَحُ في الهواءِ [5818] يُنظَر: ((موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق)) لياسر عبد الرحمن (1/ 46). ونُفِّذ فيه حُكمُ الإعدامِ!

انظر أيضا: