موسوعة الأخلاق والسلوك

هـ- نماذِجُ من شجاعةِ السَّلَفِ والعلماءِ المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ


- دخل سُلَيمانُ بنُ يَسارٍ على هشامِ بنِ عَبدِ الملِكِ، فقال: يا سليمانُ، من الذي تولَّى كِبرَه منهم؟
قال: عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ.
قال: كذَبْتَ، هو عَليٌّ!
فدخَل ابنُ شِهابٍ، فسأله هِشامُ، فقال: هو عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ.
قال: كذَبْتَ، هو عليٌّ!
فقال: أنا أكذِبُ لا أبا لك! فواللهِ لو نادى منادٍ من السَّماءِ: إنَّ اللهَ أحَلَّ الكَذِبَ، ما كَذَبْتُ! حدَّثني سعيدٌ وعروةُ وعُبَيدٌ وعَلقمةُ بنُ وقَّاصٍ عن عائشةَ: أنَّ الذي تولَّى كِبرهَ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ [5093] يُنظَر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (55/ 371)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (5/ 339). .
- وقال الأوزاعيُّ: (لمَّا فرغ عبدُ اللهِ بنُ عَليٍّ -يعني: عمَّ السَّفاحِ- من قَتلِ بني أميَّةَ، بعَثَ إليَّ، وكان قَتَل يومَئذٍ نَيِّفًا وسبعين منهم بالكافركوباتِ جمعُ الكافركوبِ: وهو المِقرَعةُ. فدخَلتُ عليه، فقال: ما تقولُ في دماءِ بني أميَّةَ؟ فحِدتُ [5094] حاد عن الشَّيءِ: تنحَّى وبَعُد. يُنظَر: ((المصباح المنير في غريب الشرح الكبير)) للفيومي (1/ 158). ، فقال: قد عَلِمتُ من حيثُ حِدتَ، فأجِبْ.
قال: وما لَقِيتُ مُفَوَّهًا مِثلَه، فقُلتُ: كان لهم عليك عهدٌ.
قال: فاجعَلْني وإيَّاهم ولا عهدَ، ما تقولُ في دمائِهم؟
قلتُ: حرامٌ؛ لقولِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ...)) [5095] أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676). ، الحديثَ.
فقال: ولمَ، وَيْلَك؟!
وقال: أليست الخلافةُ وصيَّةً من رسولِ اللهِ، قاتَلَ عليها عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه بصِفِّينَ؟
قلتُ: لو كانت وصيَّةً ما رَضِيَ بالحَكَمينِ!
فنكَّس رأسَه، ونكَّستُ، فأطَلْتُ، ثمَّ قُلتُ: البَولَ.
فأشار بيده: اذهَبْ.
فقمتُ، فجعَلتُ لا أخطو خُطوةً إلَّا قُلتُ: إنَّ رأسي يقعُ عندَها!) [5096] يُنظَر: ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (35/ 212)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (7/ 123-125). .
قال الذَّهبيُّ مُعَلِّقًا: (قد كان عبدُ اللهِ بنُ عَليٍّ مَلِكًا جبَّارًا سفَّاكًا للدِّماءِ، صَعبَ المِراسِ، ومع هذا فالإمامُ الأوزاعيُّ يَصدَعُه بمُرِّ الحقِّ كما ترى، لا كخُلُقٍ من عُلَماءِ السُّوءِ الذين يحسِّنون للأمراءِ ما يقتَحِمون به من الظُّلمِ والعَسفِ، ويَقلِبون لهم الباطِلَ حَقًّا -قاتلهم اللهُ- أو يسكُتون مع القُدرةِ على بيانِ الحَقِّ!) [5097] ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 125). .
- وقال أحمدُ بنُ حنبَلٍ: (ابنُ أبي ذئبٍ ثِقةٌ. قد دخل على أبي جعفرٍ المنصورِ، فلم يَهُلْه أن قال له الحَقَّ، وقال: الظُّلمُ ببابِك فاشٍ، وأبو جعفَرٍ أبو جعفَرٍ!) [5098] ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 144). ويُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 347، 348). .
- وضَرَب جَعفَرُ بنُ سُلَيمانَ مالِكَ بنَ أنسٍ في طلاقِ المُكرَهِ، وحكى لي بعضُ أصحابِ ابنِ وَهبٍ، عن ابنِ وهبٍ أنَّ مالِكًا لَمَّا ضُرِب حُلِق وحُمِل على بعيرٍ، فقيل له: نادِ على نفسِك، قال: فقال: ألَا مَن عَرَفني فقد عَرَفني، ومَن لم يعرِفْني فأنا مالِكُ بنُ أنسِ بنِ أبي عامرٍ الأصبَحيُّ، وأنا أقولُ: طلاقُ المُكرَهِ ليس بشيءٍ، قال: فبَلَغ جَعفَرَ بنَ سُليمانَ أنَّه ينادي على نفسِه بذلك، فقال: أدرِكوه أنزِلوه [5099] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (6/ 316). .
- وقال صالحُ بنُ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ: (حُمِل أبي ومحمَّدُ بنُ نوحٍ مقيَّدينِ، فصِرْنا معهما إلى الأنبارِ، فسأل أبو بكرٍ الأحولُ أبي فقال: يا أبا عبدِ اللهِ، إن عُرِضتَ على السَّيفِ تجيبُ. قال: لا) [5100] ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (18/ 97). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والحديثِ فما يُعلَمُ أحدٌ من عُلَمائِهم ولا صالِحُ عامَّتِهم رجَعَ قَطُّ عن اعتِقادِه، بل هم أعظمُ النَّاسِ صَبرًا على ذلك، وإن امتُحِنوا بأنواعِ المحَنِ، وفُتِنوا بأنواعِ الفِتَنِ، وهذه حالُ الأنبياءِ وأتباعِهم من المتقدِّمينَ، كأهلِ الأُخدودِ ونحوِهم، وكسَلَفِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وغيرِهم مِنَ الأئِمَّةِ) [5101] ((مجموع الفتاوى)) (4/ 50). .
- وأبو بكرِ بنُ النَّابلسيِّ سجنه بنو عُبَيدٍ وصلبوه على السُّنَّةِ. وقال أبو تميمٍ صاحِبُ مِصرَ العُبَيديُّ لأبي بَكرٍ النَّابلسيِّ: بلَغَنا أنَّك قلتَ: إذا كان مع الرَّجُلِ عَشرةُ أسهُمٍ وجب أن يرميَ في الرُّومِ سهمًا وفينا تسعةً! فقال: ما قُلتُ هكذا، فظَنَّ أنَّه يرجِعُ عن قولِه، فقال: كيف قُلتَ؟ قال: قلتُ: إذا كان معه عَشَرةٌ وجب أن يرميَكم بتسعةٍ، ويرميَ العاشِرَ فيكم أيضًا! فإنَّكم قد غيَّرتُم الملَّةَ، وقتَلْتُم الصَّالحين، وادَّعَيتُم نورَ الإلهيَّةِ. فشَهَره ثمَّ ضرَبَه، ثمَّ أمَر يهوديًّا فسَلَخه. وكان الدَّارقُطنيُّ يذكُرُه ويبكي ويقول: كان يقولُ وهو يُسلَخُ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الإسراء: 58] ! [5102] ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (8/ 216). .
- دخل القاضي مُنذِرُ بنُ سعيدٍ البلوطيُّ على عبدِ الرَّحمنِ النَّاصِرِ، صاحِبِ الأندَلُسِ، بعد أن فَرَغ من بناءِ الزَّهراءِ وقُصورِها، وقد قعد في قُبَّةٍ مُزخرَفةٍ بالذَّهَبِ، والبناءِ البديعِ الذي لم يُسبَقْ إليه، ومعه جماعةٌ من الأعيانِ، فقال عبدُ الرَّحمنِ النَّاصِرُ: هل بلغَكم أنَّ أحدًا بنى مثلَ هذا البناءِ؟ فقال له الجماعةُ: لم نَرَ ولم نسمَعْ بمِثلِه، وأثنَوا وبالغوا! والقاضي مُطرِقٌ، فاستنطقه عبدُ الرَّحمنِ، فبكى القاضي، وانحدرت دموعُه على لحيتِه، وقال: واللهِ ما كنتُ أظُنُّ أنَّ الشَّيطانَ -أخزاه اللهُ تعالى- يبلُغُ منك هذا المبلَغَ، ولا أن تُمَكِّنَه من قيادِك هذا التَّمكُّنَ، مع ما آتاك اللهُ وفضَّلك به، حتَّى أنزلك منازِلَ الكافِرين!
فقال له عبدُ الرَّحمنِ: انظُرْ ما تقولُ! وكيف أنزَلني مَنزِلَ الكافِرين؟ فقال: قال اللهُ تعالى: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا [الزخرف: 33] إلى قولِه: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 35] .
فوَجَم عبدُ الرَّحمنِ وبكى، وقال: جزاك اللهُ خيرًا، وأكثَرَ في المسلِمين مِثلَك [5103] ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/ 346). .
- وذكر الباجيُّ موقفًا من مواقِفِ ابنِ عبدِ السَّلامِ، فقال: (طلع شيخُنا عزُّ الدِّينِ مرَّةً إلى السُّلطانِ في يومِ عيدٍ إلى القلعةِ، فشاهد العساكِرَ مُصطفِّين بَيْنَ يديه ومجلِسِ المملكةِ، وما السُّلطانُ فيه يومَ العيدِ من الأبَّهةِ، وقد خرج على قومِه في زينتِه على عادةِ سَلاطينِ الدِّيارِ المِصريَّةِ، وأخذت الأمراءُ تُقَبِّلُ الأرضَ بَيْنَ يدَيِ السُّلطانِ، فالتَفَت الشَّيخُ إلى السُّلطانِ، وناداه: يا أيُّوبُ، ما حجَّتُك عِندَ اللهِ إذا قال لك: ألم أُبَوِّئْ لك مُلكَ مِصرَ ثمَّ تبيحُ الخمورَ؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانةُ الفلانيَّةُ يباعُ فيها الخمورُ، وغيرُها من المُنكَراتِ، وأنت تتقَلَّبُ في نعمةِ هذه المملكةِ، يناديه كذلك بأعلى صوتِه والعساكِرُ واقفون! فقال: يا سيِّدي، هذا أنا ما عَمِلتُه، هذا من زمانِ أبي، فقال: أنت من الذين يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] ، فرسم السُّلطانُ بإبطالِ تلك الحانةِ.
يقول الباجيُّ: سألتُ الشَّيخَ لَمَّا جاء من عِندِ السُّلطانِ وقد شاع هذا الخَبَرُ: يا سيِّدي كيف الحالُ؟ فقال: يا بُنَيَّ رأيتُه في تلك العَظَمةِ، فأردتُ أن أُهينَه لئلَّا تكبُرَ نفسُه فتؤذيَه، فقُلتُ: يا سيِّدي، أما خِفتَه؟ فقال: واللهِ يا بُنَيَّ استحضَرْتُ هيبةَ اللهِ تعالى، فصار السُّلطانُ قُدَّامي كالقِطِّ!) [5104] ((طبقات الشافعية)) للسبكي (8/211). .
- وقال أبو حفصٍ البزَّارُ عن ابن تيمية: (كان رحمه اللهُ من أشجَعِ النَّاسِ، وأقواهم قلبًا، ما رأيتُ أحدًا أثبت جأشًا منه، ولا أعظَمَ عَناءً في جهادِ العَدوِّ منه، كان يجاهدُ في سبيلِ اللهِ بقَلبِه ولسانِه ويدِه، ولا يخافُ في اللهِ لومةَ لائمٍ، وأخبر غيرُ واحدٍ أنَّ الشَّيخَ رحمه اللهُ كان إذا حضر مع عسكرِ المسلمين في جهادٍ يكون بَيْنَهم واقيَتَهم، وقُطبَ ثباتِهم، إن رأى من بعضِهم هَلَعًا أو رقَّةً أو جبانةً، شجَّعه وثبَّته، وبشَّره ووعده بالنَّصرِ والظَّفَرِ والغنيمةِ، وبيَّن له فضلَ الجهادِ والمجاهدين، وإنزالَ اللهِ عليهم السَّكينةَ.
 وكان إذا ركِبَ الخيلَ يتحَنَّكُ ويجولُ في العدوِّ كأعظمِ الشُّجعانِ، ويقومُ كأثبتِ الفُرسانِ، ويكَبِّرُ تكبيرًا أنكى في العدوِّ من كثيرٍ من الفتكِ بهم، ويخوضُ فيهم خوضَ رجُلٍ لا يخافُ الموتَ.
 وحدَّثوا أنَّهم رأوا منه في فتحِ عكَّةَ أمورًا من الشَّجاعةِ يَعجِزُ الواصفُ عن وصفِها.
 قالوا: ولقد كان السَّببُ في تملُّكِ المسلمين إيَّاها بفِعلِه ومشورتِه وحسنِ نظَرِه، ولَمَّا ظهر السُّلطانُ غازان على دِمَشقَ المحروسةِ جاءه مَلِكُ الكَرجِ وبذل له أموالًا كثيرةً جزيلةً على أن يمكِّنَه من الفتكِ بالمسلمين من أهلِ دِمَشقَ، ووصل الخبرُ إلى الشَّيخِ، فقام من فورِه، وشجَّع المسلمين ورغَّبهم في الشَّهادةِ، ووعدهم على قيامِهم بالنَّصرِ والظَّفَرِ والأمنِ وزوالِ الخوفِ.
 فانتدب منهم رجالٌ من وجوهِهم وكُبرائِهم وذوي الأحلامِ منهم، فخرجوا معه إلى حضرةِ السُّلطانِ غازان، فلمَّا رآهم السَّلطانُ قال: من هؤلاء؟ فقيل: هم رؤساءُ دِمَشقَ، فأذِنَ لهم فحضروا بَيْنَ يديه، فتقدَّم الشَّيخُ رحمه اللهُ أوَّلًا، فلمَّا أن رآه أوقعَ اللهُ له في قلبِه هيبةً عظيمةً، حتى أدناه وأجلسَه، وأخذ الشَّيخُ في الكلامِ معه أوَّلًا في عكسِ رأيِه عن تسليطِ المخذولِ مَلِكِ الكَرجِ على المُسلمين، وضَمِن له أموالًا وأخبره بحرمةِ دِماءِ المسلِمين، وذكَّره ووعَظه، فأجابه إلى ذلك طائعًا، وحُقِنَت بسببِه دِماءُ المسلمين، وحُمِيت ذراريُّهم، وصِينَ حَريمُهم) [5105] ((الأعلام العلية)) للبزار، بتصرف (ص: 67). .

انظر أيضا: