موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُورُ الإصلاحِ


مِن مظاهِرِ الإصلاحِ وصُورِه:
1- تخليصُ النَّفسِ مِن آفاتِها وأخطائِها بالتَّوبةِ؛ قال تعالى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 16] ، فـ (ذكَر سبحانَه وتعالى معَ التَّوبةِ الإصلاحَ، فقال: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا، والإصلاحُ هو إصلاحُ النَّفسِ، وصلاحُ العَملِ، وذلك دليلُ التَّوبةِ الصَّادِقةِ، وقد قرَن اللهُ تعالى التَّوبةَ دائِمًا بالعَملِ الصَّالِحِ، ممَّا يدُلُّ على أنَّ العَملَ دليلُ الإقلاعِ؛ لأنَّ النَّفسَ إذا انحرَفَت وأحاطت بها الخطيئةُ لا يكونُ الخُروجُ مِن دائِرتِها بالقولِ فقط، بل بالقولِ والنِّيَّةِ والعَملِ، وإنَّ اللهَ تعالى حينَئذٍ يقبَلُ التَّوبةَ) [374] ((زهرة التفاسير)) لمحمد أبي زهرة (3/1612) .
2- بَذلُ النَّصيحةِ للنَّاسِ وشِدَّةُ الحِرصِ عليها؛ قال تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس: 20] ، (فقولُه: مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ إظهارٌ لعنايةِ هذا الدَّاعي، وشدَّةِ رغبتِه في الإصلاحِ؛ حيثُ لم يُثبِّطْه بُعدُ المسافةِ عن السَّعيِ إليه، والوفاءِ بحقِّه. وقولُه: يَسْعَى تذكِرةٌ لدُعاةِ الإصلاحِ، وإيقاظٌ لهِمَمِهم؛ كي يُنفِقوا في هذه الغايةِ وُسعَهم، ويُسارِعوا إلى النَّصيحةِ جُهدَهم؛ لأنَّ السَّعيَ في لسانِ العربِ بمعنى العَدْوِ والمَشيِ بسُرعةٍ) [375] ((الدعوة إلى الإصلاح)) لمحمد الخضر حسين (ص: 17-18). .
3- الإصلاحُ في بابِ الوصيَّةِ، قال تعالى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمَا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 182] .
قال ابنُ العربيِّ: (الخطابُ بقولِه تعالى: فَمَنْ خَافَ لجميعِ المُسلِمينَ، قيل لهم: إن خِفْتُم مِن موصٍ مَيلًا في الوصيَّةِ، وعُدولًا عن الحقِّ، ووُقوعًا في إثمٍ، ولم يُخرِجْها بالمعروفِ؛ فبادروا إلى السَّعيِ في الإصلاحِ بَينَهم، فإذا وقَع الصُّلحُ سقَط الإثمُ عن المُصلِحِ؛ لأنَّ إصلاحَ الفسادِ فرضٌ على الكِفايةِ، فإذا قام به أحدُهم سقَط عن الباقينَ، وإن لم يفعَلوا أثِم الكُلُّ) [376] ((أحكام القرآن)) (1/ 105). .
وهذا الإصلاحُ إمَّا في حياةِ الموصي، والمُرادُ به إزالةُ الفسادِ، أو بَعدَ موتِه، ويكونُ الإصلاحُ بإزالةِ الشِّقاقِ؛ لأنَّ الغالِبَ إذا أراد الوَصيُّ أن يُغيِّرَ الوصيَّةَ بَعدَ موتِ الموصي أن يحصُلَ شِقاقٌ بَينَه وبَينَ الوَرَثةِ، أو بَينَه وبَينَ الموصَى له، ومِثالُه قَبلَ موتِ الموصي: أن يستشهِدَ الموصي أو يستكتِبَ شخصًا لوصيَّتِه، فيجِدَ فيها جَورًا، أو معصيةً، فيصلِحَ ذلك؛ ومِثالُه بَعدَ موتِه: أن يطَّلِعَ على وصيَّةٍ له تتضمَّنُ ما ذُكِر فتُصلَحَ؛ مِثالُ ذلك أن يوصي لوارِثٍ، فيطَّلِعَ على ذلك بَعدَ موتِه، فتُصلَحَ الوصيَّةُ إمَّا باستِحلالِ الوارِثِ الرَّشيدِ، وإمَّا بإلغائِها إذا لم يُمكِنْ [377]  يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة)) (2/ 314). .
فالآيةُ فيها بيانُ فضيلةِ الإصلاحِ؛ ففيه دَرءُ الإثمِ عن الموصي، وإزالةُ العداوةِ والشَّحناءِ بَينَ الموصى إليهم والوَرثةِ [378]  يُنظر: ((تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (2/ 314). .
4- الإصلاحُ بَينَ الزَّوجَينِ.
أ- الإصلاحُ في حالِ نُشوزِ الزَّوجِ وإعراضِه عن امرأتِه.
قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128] أي: وإذا خشِيَت المرأةُ استِعلاءً مِن زَوجِها عليها، ونُفورًا منها، وانصِرافًا عنها، وعَدمَ رغبتِه فيها فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، أي: فلا حرجَ ولا إثمَ عليهما في أن يتَّفِقا على ما يُصلِحُ الأمورَ بَينَهما؛ فلها أن تُسقِطَ حقَّها أو بعضَه؛ مِن نَفقةٍ أو كِسوةٍ، أو مَبيتٍ، أو غَيرِ ذلك مِن الحُقوقِ عليه، على أن تبقى معَ زَوجِها، وله أن يقبَلَ ذلك منها؛ فلا حرجَ ولا إثمَ عليها في بَذلِها ذلك له، ولا عليه أيضًا في قَبولِه منها وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، أي: إنَّ صُلحَهما على تَركِ بعضِ حقِّها للزَّوجِ، وقَبولِ الزَّوجِ بذلك؛ استِدامةً لعَقدِ النِّكاحِ- خيرٌ مِن المُفارَقةِ بالكُلِّيَّةِ [379] ((التفسير المحرر - الدرر السنية)) (3/ 614، 615). .
ب- الإصلاحُ بَينَ الزّوجَينِ عندَ حُدوثِ الشِّقاقِ بَينَهما.
قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: 35] ، أي: وإن خِفْتُم -أيُّها الحُكَّامُ- أن يصِلَ النُّفورُ والخِلافُ الواقِعُ بَينَ الزَّوجَينِ إلى حدِّ التَّباعُدِ عن بعضِهما، ووُقوعِ العَداوةِ بَينَهما فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، أي: فلتُرسِلوا -أيُّها الحُكَّامُ- إلى الزَّوجَينِ حَكَمَينِ؛ رجُلًا مِن أقارِبِ الزَّوجِ، وآخَرَ مِن أقارِبِ الزَّوجةِ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا، أي: إن قصَد الحَكمانِ الإصلاحَ بَينَ الزَّوجَينِ يُوفِّقِ اللهُ تعالى بَينَ الحَكَمَينِ، بأن يُصادِفا الحقَّ، فتلتَقيَ أقوالُهما دونَ حُدوثِ نِزاعٍ بَينَهما، ويُوفِّقِ اللهُ تعالى أيضًا بَينَ الزَّوجَينِ، فيُيَسِّرْ رُجوعَهما إلى المُعاشَرةِ الحَسنةِ بَينَهما إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ذو عِلمٍ بجميعِ الظَّواهِرِ والبواطِنِ، ومِن ذلك: عِلمُه بنيَّةِ الحَكَمَينِ: هل يقصِدانِ الإصلاحَ أو لا، ومِن ذلك أيضًا: شَرعُه لهذه الأحكامِ العظيمةِ، والشَّرائِعِ المُحكَمةِ [380] ((التفسير المحرر - الدرر السنية)) (3/ 198، 199). .
5- الإصلاحُ بَينَ الجماعتَينِ المُسلِمتَينِ تقتَتِلانِ.
قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيْءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] .
قال الطَّاهِرُ بنُ عاشورٍ: (الأمرُ بالإصلاحِ بَينَهما واجِبٌ قَبلَ الشُّروعِ في الاقتِتالِ، وذلك عندَ ظُهورِ بوادِرِه، وهو أَولى مِن انتِظارِ وُقوعِ الاقتِتالِ؛ ليُمكِنَ تدارُكُ الخَطبِ قَبلَ وُقوعِه) [381] ((تفسير ابن عاشور)) (26/199). .
وقال السَّعديُّ: (إذا اقتتَلَت طائِفتانِ مِن المُؤمِنينَ، فإنَّ على غَيرِهم مِن المُؤمِنينَ أن يتلافَوا هذا الشَّرَّ الكبيرَ بالإصلاحِ بَينَهم، والتَّوسُّطِ بذلك على أكمَلِ وَجهٍ يقَعُ به الصُّلحُ، ويسلُكوا الطَّريقَ الموصِلةَ إلى ذلك، فإن صلَحتا فبها ونِعمَت، وإن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيْءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، أي: ترجِعَ إلى ما حدَّ اللهُ ورسولُه مِن فِعلِ الخيرِ وتَركِ الشَّرِّ الذي مِن أعظَمِه الاقتِتالُ، وقولُه فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ هذا أمرٌ بالصُّلحِ وبالعَدلِ في الصُّلحِ، فإنَّ الصُّلحَ قد يُوجَدُ، ولكن لا يكونُ بالعَدلِ، بل بالظُّلمِ والحَيفِ على أحدِ الخَصمَينِ، فهذا ليس هو الصُّلحَ المأمورَ به، فيجِبُ ألَّا يُراعى أحدُهما لقرابةٍ، أو وطنٍ، أو غَيرِ ذلك مِن المقاصِدِ والأغراضِ التي توجِبُ العُدولَ عن العَدلِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، أي: العادِلينَ في حُكمِهم بَينَ النَّاسِ، وفي جميعِ الوِلاياتِ التي تولَّوها، حتَّى إنَّه قد يدخُلُ في ذلك عَدلُ الرَّجلِ في أهلِه وعِيالِه، في أدائِه حُقوقَهم) [382] ((تفسير السعدي)) (ص: 800). .
6- الإصلاحُ بَينَ سائِرِ المُؤمِنينَ، وهذا مِن القيامِ بحُقوقِ الأخوَّةِ.
قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10] .
قال الشَّوكانيُّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...، المعنى: أنَّهم راجِعونَ إلى أصلٍ واحِدٍ، وهو الإيمانُ...، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، يعني: كُلَّ مُسلِمينِ تخاصَما وتقاتَلا، وتخصيصُ الاثنَينِ بالذِّكْرِ لإثباتِ وُجوبِ الإصلاحِ فيما فَوقَهما بطريقِ الأَولى) [383]  ((فتح القدير)) للشوكاني (5/74). .

انظر أيضا: