موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (128-130)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غريب الكلمات:

بَعْلِهَا: بَعْلُ المرأةِ: زَوجُها، والبَعْل في الأصل: الصَّاحِبُ يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/264)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 110). .
نُشُوزًا: أي: بُغضًا، والنُّشوز: بُغضُ المرأةِ للزَّوج، أو بُغضُ الزَّوجِ للمَرأة؛ يُقال: نشَزت عليه، أي: ارتفَعَتْ عليه، والنَّشْز: المرتَفِع من الأرض؛ فأصل النَّشْز: الارتفاعُ والعُلوُّ يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 472)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 806)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 138)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 915). .
إِعْرَاضًا: الإعراض: هو أن تولِّيَ الشَّيء عُرْضَك، أي: جانبَك، ولا تُقبِلَ عليه يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 111)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/269)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 291)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 28). .
وَأُحْضِرَتِ: أي: أُلزِمت، وجُعِلتْ حاضرةً له مطبوعةً عليه، وأصل (حضَر): إيرادُ الشَّيء، ووُرودُه ومشاهدتُه يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/75)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 73)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 57). .
الشُّحَّ: وهو الإفراطُ في الحِرص، وأيضًا: بُخْلٌ مع حِرصٍ، ويُطلَقُ على الظُّلم، وأصل (شحح): المنْع يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 469)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/178)، ((المفردات)) للراغب (ص: 446)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 73). .
كَالْمُعَلَّقَةِ: المُعَلَّقَةُ هي الَّتي لا تكونُ أيِّمًا ولا ذاتَ بَعْلٍ، والعَلَقُ: التَّشبُّثُ بالشَّيء، وأصله: أن يُناطَ الشَّيءُ بالشَّيء العالي يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/125، 129)، ((المفردات)) للراغب (ص: 579)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 74). .

مشكل الإعراب:

قَوْله: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ:
إنْ: أداةُ شرطٍ لا يَليها إلَّا الفِعلُ. وامْرَأةٌ: فاعِل بفِعلٍ محذوفٍ وجوبًا، والتَّقدير: (وإن خافتِ امرأةٌ خافتْ)، واستُغني عن المحذوفِ بـ:خَافَتْ المذكور، وقيل: هي فاعل مُقدَّم على فِعلِه، أو مَرفوعةٌ بالابتداءِ يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/209)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/395)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/107). والتحقيق: أنَّ القولَ بأنَّها فاعلٌ مُقدَّم ارتفَع بما عادَ إليه من الفِعل من غيرِ تَقديرِ فِعلٍ هو مذهبُ الكوفيِّين، والقولُ بأنَّها مرفوعةٌ بالابتِداءِ محكيٌّ عن أبي الحَسنِ الأخفشِ. ونَسَب السَّمينُ الحلبيُّ جَوازَ وقوعِ المبتدأِ بعدَ (إن) الشرطيَّة للأخفشِ والكوفيِّين معًا وهذا هو المشهور؛ وهذا لأنَّهم لا يشترطُون أنْ يليَ أداةَ الشرطِ فعلٌ، وإذن فهي مُبتدأٌ على الأصلِ، وأمَّا عندَ جمهور البَصريِّين فإنَّها فاعلٌ، وهي مِن بابِ الاشتغال، ولا يَجوزُ رفعُها بالابتداءِ؛ لأنَّ أداةَ الشَّرطِ لا يَليها إلَّا الفِعلُ عندهم. ينظر: ((الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين)) للأنباري (2/504)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/107، 462). .
قوله: أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا:
صُلْحًا: منصوبٌ، وفي نَصْبِه أوجهٌ بحسَبِ القِراءاتِ في قوله: يُصْلِحَا قوله: أَنْ يُصْلِحَا قرأ الكوفيون: «يُصْلِحَا» من أصلح، وباقي السبعة «يَصَّالَحَا» بتشديد الصاد بعدها ألف، وقرأ عثمان البَتِّيُّ والجَحْدَريُّ: «يَصَّلِحَا» بتشديد الصاد من غير ألف، وعَبِيدة السَّلماني: «يُصَالِحَا» بضمِّ الياء وتخفيف الصاد وبعدها ألف من المفاعلة، وابن مسعود والأعمش: «أنِ اصَّالَحَا»، فأما قراءة الكوفيِّين فواضحة، وقراءة باقي السبعة أصلها «يَتصالحَا» فأريد الإدغام تخفيفًا، فأبدلت التاء صادًا وأُدغمت، وأمَّا قراءة عثمان فأصلها: «يَصْطَلِحَا» فخفِّف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادًا وإدغامهما فيما بعدَها. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/108). ؛ فعلى قِراءة (يُصْلِحَا) مِن أصْلَح؛ يكونُ في نصبِ صُلْحًا ثلاثةُ أوجهٍ؛ الأوَّل: أنْ يكونَ منصوبًا على أنَّه نائبٌ عن المفعولِ المُطلَق للفِعلِ المتقدِّم يُصْلِحَا؛ لأنَّ صُلْحًا اسمُ مَصْدرٍ أو مَصدرٌ على حَذْفِ الزَّوائد كالعَطاءِ والنباتِ. الثاني: أن يكونَ مفعولًا مُطلَقًا منصوبًا بفِعلٍ مُقدَّر، أي: فيَصْلُح حالُهما صُلحًا. والمفعولُ به على هذينِ الوجهينِ قولُه: بَيْنَهُمَا اتُسِّع في الظَّرفِ فجُعِل مفعولًا به. الثالث: أنْ يكونَ نَصْبُ صُلْحًا على أنَّه مفعولٌ به إنْ جُعِل اسمًا للشَّيءِ المصطَلح عليه؛ كالعَطاءِ بمعنى المُعطَى، والنَّباتِ بمعنى المُنْبَتِ. وعلى بقيَّةِ القِراءاتِ فيجوزُ أنْ يكونَ صُلْحًا نائبًا عن المفعولِ المطلَق، ويكون واقعًا موقعَ (تصالُحًا، أو اصطلاحًا، أو مصالحةً)، حسَب القِراءات. ويجوزُ أنْ يكون صُلْحًا مفعولًا مُطلَقًا. ويَنتفِي عنه وجهُ المفعولِ به المذكورُ في قِراءة يُصْلِحَا، وقيل غيرُ ذلك يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/209)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/395)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/108-109)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/225). .
قوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ: (حَضَر) فِعلٌ يتعدَّى بنَفْسِه إلى مَفعولٍ واحد، و(أَحْضَر) يَتعدَّى بالهمزةِ إلى مَفعولَيْنِ، فلمَّا بُني (أُحْضِرَ) هُنا للمفعولِ حُذِفَ الفاعِلُ، وقامَ المفعولُ الأوَّل الْأَنْفُسُ؛ مقامَ الفاعِلِ، فرُفِع على أنَّه نائبُ فاعلٍ، وانتصبَ المفعولُ الآخَرُ الشُّحَّ على أنَّه مفعولٌ به ثانٍ؛ فإنَّ الْأَنْفُسُ هي الفاعلُ في الأصْل؛ إذ الأصلُ: (حضَرتِ الأنفسُ الشحَّ)، ثمَّ أحْضَر اللَّهُ الأَنفسَ الشُّحَّ. وهذا هو المشهورُ من مذاهبِ النُّحاةِ. وقيل: إنَّ القائمَ مَقامَ الفاعِل هو المفعولُ الثَّاني وهو الْأَنْفُس أيضًا، والأصلُ: وحضَر الشُّحُّ الأنفسَ، ثمَّ أحْضَر اللَّهُ الشُّحَّ الأَنفسَ، فلمَّا بُني الفِعْلُ للمَفعول أُقيمَ المفعولُ الثَّاني وهو الْأَنْفُسُ مقامَ الفاعِل، وأُخِّر المفعولُ الأوَّلُ الشُّحَّ وبقِي منصوبًا يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/396)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/110). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ اللهُ تعالى بعضَ الأحكام الَّتي تتعلَّقُ بالزَّوجين، وما يقعُ بينهما من خلافٍ ونُفرةٍ؛ فالمرأةُ إذا خافت ترفُّعَ زوجِها عنها، وعدمَ رغبتِه فيها، فلا حرجَ ولا إثمَ أن يُصلِحَا بينهما صُلْحًا، بأن تُسقِطَ المرأةُ بعضًا من حقوقِها على أن تبقى مع زوجِها؛ فلا حرجَ عليها في إسقاطِه، ولا حرجَ عليه من قَبولِه، والصُّلحُ ببعضِ التَّنازُلاتِ خيرٌ من الفِراقِ الكُلِّيِّ، وقد جُبِلت النُّفوسُ على الحرصِ على حقوقها، ممَّا قد يتعذَّرُ معه التَّصالُحُ، لكن ينبغي على المرءِ أن يحرصَ على تركِ هذا الشُّحِّ جانبًا، والمسامحةِ ببعض الحقِّ، ثمَّ رغَّب اللهُ تعالى في الإحسان عمومًا؛ في عبادتِه، والإحسان إلى الخَلْق، ومنه الإحسانُ إلى الزَّوجات حتَّى ولو كرِهوهنَّ؛ وذلك بالصَّبرِ عليهنَّ، وحُسْنِ العِشرةِ، وإيفائِهنَّ حقَّهنَّ، وأن يتَّقوا اللهَ، فإن فعَلوا ذلك، فإنَّ اللهَ خبيرٌ بكلِّ ما عمِلوه، وسيُجازيهم عليه.
ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّ الأزواجَ لا يمكِنُ أن يحقِّقوا العدلَ الكامل بين زوجاتِهم، ولو اشتَدَّ حرصُهم على ذلك، لكن نهى سبحانه عن الميلِ الكُلِّيِّ إلى واحدةٍ بحيث تظلُّ الأخرى كالمعلَّقة الَّتي ليست مطلَّقةً، ولا هي متزوِّجة، وأنَّهم إن يُصلِحوا بينهم وبين زوجاتهم، وبينهم وبين النَّاس، أو بين النَّاس إذا تنازَعوا، ويتَّقوا اللهَ؛ فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ، وإن ينفصلِ الزَّوجانِ عن بعضِهما، بعد تعسُّرِ الصُّلحِ، يُغْنِ اللهُ كلًّا منهما من فضله الواسع، وكان الله واسعًا حكيمًا.

تفسير الآيات:

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
الآيةُ عَطفٌ لبقيَّةِ إفتاء الله تعالى؛ فهي من جُملة ما أخبَر الله تعالى أنَّه يفتيهم به في النِّساء ممَّا لم يتقدَّمْ ذِكرُه في هذه السُّورة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/214). .
وأيضًا لَمَّا صاروا يَتزوَّجون ذواتِ الأموالِ من اليتامى ويُضاجِرون بعضَهنَّ، عقَّبَ ذلك تعالى بالإفتاءِ في أحوالِ المشاقَقَةِ بين الأزواج يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/421). .
سببُ النُّزول:
عن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها في هذِه الآيةِ وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا قَالَتْ: ((الرَّجلُ تَكونُ عنده المرأةُ ليس بِمُستَكْثِرٍ منها يُريدُ أنْ يُفارِقَها، فتقول: أَجْعَلُك مِن شأني في حِلٍّ، فنزلتْ هذه الآيةُ في ذلك )) رواه البخاري (2450) واللفظ له، ومسلم (3021). .
وعن هِشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، قال: قالتْ عائشةُ رضِي اللهُ عنها: ((يا ابنَ أُختي، كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُفضِّلُ بَعضَنا على بعضٍ في القَسْمِ مِن مُكْثِه عِندنا، وكان قلَّ يومٌ إلَّا وهو يَطوفُ علينا جميعًا، فيَدنو مِن كلِّ امرأةٍ مِن غيرِ مسيسٍ، حتى يَبلُغَ إلى التي هو يومُها فيَبِيت عِندَها، ولقدْ قالتْ سَودةُ بِنتُ زَمْعةَ حين أسنَّتْ وفَرِقَتْ أنْ يُفارِقَها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا رسولَ اللهِ، يَوْمي لعائشةَ، فقَبِلَ ذلك رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منها، قالتْ: نقول: في ذلِك أَنزلَ اللهُ تعالى وفي أشباهِها أُراهُ قال: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا)) رواه أبو داود (2135)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (24/31) (81)، والحاكم في ((المستدرك)) (2760)، والبيهقي (7/74) (13816). قال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2135): حسن صحيح. وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (1629). والحديث بدون ذكر قصة سودة جوَّد إسنادَه ابنُ عبد الهادي في ((المحرر)) (368)، وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/187): إسناده صحيح حسن. .
وعن عائشةَ رضِي اللهُ عنها قالتْ: ((كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا أرادَ سفَرًا أقْرَعَ بَينَ نسَائِهِ، فأَيَّتُهُنَّ خرجَ سَهْمُهَا خرَجَ بهَا معهُ، وكانَ يَقْسِمُ لكلِّ امرأةٍ منْهُنَّ يومَها وليلَتَها، غيرَ أنَّ سَوْدَةَ بنتَ زَمْعَةَ وهَبَتْ يَومَها وليلَتَها لعائِشَةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تَبْتَغِي بذلِكَ رِضَا رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ )) رواه البخاري (2688) واللفظ له، ومسلم (1463). .
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا
أي: إذا خشِيَتِ المرأةُ استعلاءً من زوجها عليها، ونفورًا منها، وانصرافًا عنها، وعدمَ رغبتِه فيها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/548)، ((تفسير ابن كثير)) (2/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/285). .
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
أي: فلا حَرَجَ ولا إثمَ عليهما في أن يتَّفِقا على ما يُصلِحُ الأمورَ بينهما؛ فلها أن تُسقِطَ حقَّها أو بعضَه؛ من نفقةٍ أو كسوة، أو مَبِيت، أو غيرِ ذلك من الحقوقِ عليه، على أن تبقى مع زوجها، وله أن يقبَلَ ذلك منها؛ فلا حرجَ ولا إثم عليها في بَذْلِها ذلك له، ولا عليه أيضًا في قَبولِه منها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/548-549)، ((تفسير ابن كثير)) (2/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/285). .
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
أي: إنَّ صُلحَهما على ترْكِ بعضِ حَقِّها للزَّوج، وقَبول الزَّوجِ بذلك؛ استدامةً لعقدِ النِّكاح- خيرٌ من المفارَقة بالكُلِّيَّةِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/549)، ((تفسير ابن كثير)) (2/429)، ((تفسير السعدي)) (ص: 206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/286). .
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
أي: إنَّ النُّفوسَ قد جُبِلت على الإفراطِ في الحرصِ على أشيائِها وحقوقِها، وهذا ممَّا يمنَعُ وقوعَ التَّصالُح والاتِّفاقِ؛ فعند النِّزاعِ وطلبِ المصالحة تكونُ الأنفسُ حريصةً جدًّا على ما لها من حُقوقٍ، كلُّ نفسٍ تُريد أنْ يكونَ الصُّلحُ في جانبها وفي مصلحتِها، وكأنَّ اللهَ يقول: دعُوا هذا الشُّحَّ الَّذي جُبِلَتْ عليه الأنفسُ، واطلُبوا الخيرَ في المصالَحةِ، والتَّسامُحِ عن بعض حقوقكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/564)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/286). .
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا
أي: وإنْ تُحسِنوا- أيُّها الأزواجُ- في أفعالِكم إلى نسائِكم إذا كرِهتموهنَّ بأن تتجشَّموا مشقَّةَ الصَّبرِ عليهنَّ، مع إيفائِهنَّ حقوقَهنَّ، وعِشرتِهنَّ بالمعروف، وتقسِموا لهنَّ أُسوةَ أمثالِهنَّ، وتُحِسنوا أيضًا في عبادة الخالق عمومًا، وتُحسِنوا إلى المخلوقين بجميع طُرقِ الإحسانِ، وتتَّقوا اللهَ تعالى في أزواجِكنَّ بتركِ الجَوْرِ عليهنَّ فيما يجب عليكم من حقوقِهنَّ، وتتَّقوا اللهَ عمومًا، بفعلِ جميع المأمورات، وتركِ جميعِ المحظورات يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/566)، ((تفسير ابن كثير)) (2/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/287-288). .
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
أي: فإنَّ اللهَ تعالى بما تَعمَلون في أمورِ نِسائِكم- أيُّها الأزواجُ- من الإحسانِ إليهنَّ، والعِشرةِ بالمعروف، وتَرْكِ الجَوْرِ عليهنَّ فيما يجبُ لهنَّ، وغير ذلك ممَّا تعمَلونه، عالِمٌ بظاهرِه وباطنِه، لا يَخفَى عليه منه شيءٌ، يُحصيه، ويحفَظُه لكم، حتَّى يوفِّيَكم جزاءَ ذلك أوفرَ الجزاء يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/566)، ((تفسير ابن كثير)) (2/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207). .
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى أنَّ الوقوفَ على الحقِّ فضلًا عن الإحسانِ- وإنْ كانت المرأةُ واحدةً- متعسِّرٌ، أتبَعَه أنَّ ذلك عند الجمعِ بين أكثرَ مِن واحدةٍ أعسرُ، فقال تعالى يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/424). :
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ
أي: ولنْ تتمكَّنوا- أيُّها الأزواجُ- من إقامة العدلِ التَّامِّ بين زوجاتِكم من جميع الجوانب، ولو كنتم حريصين على ذلك، فإنَّه وإن حصَل القَسمُ الصُّوريُّ بينهنَّ، فلا بدَّ من التَّفاوُتِ في المحبَّةِ والشَّهوةِ والجِماعِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/566-567)، ((تفسير ابن كثير)) (2/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207). .
فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
أي: فإذا مِلْتُم إلى واحدةٍ منهنَّ، فلا تبالِغوا في الميل بالكُلِّيَّة، وتميلوا ميلًا كثيرًا، حتَّى يحمِلَكم ذلك على أن تجُوروا على صواحبِها في تركِ أداء الواجب لهنَّ مِن حقٍّ في القَسْمِ لهنَّ، والنَّفقةِ عليهنَّ، والعِشرةِ بالمعروفِ، فتبقى كالمعلَّقةِ الَّتي ليست أيِّمًا ولا متزوِّجةً، فليست بالمطلَّقة الَّتي استراحَتْ ورزَقها الله تعالى غيرَه، ولا هي بالمتزوِّجةِ الَّتي تسعَدُ بالزَّواجِ كغيرها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/567)، ((تفسير ابن كثير)) (2/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/297-298). .
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا
أي: وإنْ تُصلِحوا أعمالَكم- أيُّها النَّاس- فتعدِلوا في قَسْمِكم بين أزواجِكم وما فرَض الله لهنَّ عليكم من النَّفقة والعِشرة بالمعروف، فلا تجُوروا في ذلك، وتُصلِحوا أيضًا فيما بينكم وبين النَّاس، وتُصلِحوا أيضًا بين النَّاس فيما تنازعوا فيه، وتتَّقوا الله عزَّ وجلَّ في الميل الَّذي نهاكم عنه- بأن تميلوا لإحدى الزَّوجاتِ على الأخرى، فتظلِموها حقَّها- وتتَّقوا الله تعالى في جميع أمورِكم وأحوالكم بفعلِ ما أمَر، واجتنابِ ما نهى عنه وزجَر يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/576)، ((تفسير ابن كثير)) (2/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207). .
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: فإنَّ اللهَ تعالى يَستُرُ عليكم ما سلَف منكم مِن مَيْلِكم وجَوْرِكم على زَوجاتِكم، ويتجاوَزُ عن مؤاخذتِكم بذلك، ويستُرُ ويتجاوَزُ عمَّا صدَر منكم من الذُّنوب عمومًا، وكما عطَفْتُم على أزواجِكم ورحمتموهنَّ، فاللهُ تعالى يرحَمُكم، وهو رحيمٌ بكم؛ إذ قبِلَ توبتَكم، وتجاوَز عنكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/576-577)، ((تفسير ابن كثير)) (2/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207). .
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى جواز الصُّلح إن أراد الزَّوجانِ ذلك، ذكَر في هذه الآية جوازَ المفارَقةِ إنْ رغِبَا فيها، ووعَد أن يُغنيَ كلَّ واحدٍ منهما من سَعتِه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/238). ، فقال:
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ
أي: إذا انفصَل الزَّوجانِ عن بَعضِهما بطَلاقٍ أو فسخٍ أو خُلعٍ أو غير ذلك، فإنَّ اللهَ تعالى يعوِّضُ الزَّوجَ برزقٍ واسعٍ أو بزوجةٍ هي خيرٌ له من زوجته، ويعوِّضُها برزقٍ واسعٍ أو بزوجٍ هو خيرٌ لها من زوجِها، وذلك مِن فضلِه وإحسانِه الواسعِ سبحانه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/577)، ((تفسير ابن كثير)) (2/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/302). .
وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى واسعٌ لهما في إغناء كلِّ واحدٍ من الزوجين وغيرهما مِن فضلِه، فهو سبحانه واسعُ الفضلِ عظيمُ المَنِّ، وهو ذو سَعَةٍ في جميع صفاتِه؛ كالرَّحمة، والمغفرةِ، والعِلم، والقدرة، وغير ذلك مِن صفاتِه العُلى، حكيمٌ في جميع أفعالِه وأقداره وشَرْعِه، ومن ذلك أنَّه يعطي بحكمةٍ، ويمنَعُ لحكمةٍ، ومن ذلك حكمتُه فيما قضى بين الزَّوجين من الافتراق وغيره يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/577)، ((تفسير ابن كثير)) (2/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 207)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/302-303). .

الفَوائِد التربويَّة :

1- الإشارةُ إلى أنَّ الصُّلحَ قد يكون ثقيلًا على النُّفوس، لكنَّ المؤمِنَ يهُونُ عليه ذلك إذا كان يؤمِنُ بأنَّ الصُّلح خيرٌ، ويؤخَذُ من قوله: وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ؛ فالإنسانُ بطبيعتِه قد يشقُّ عليه التَّنازلُ عن بعضِ حقِّه، لكنْ في المصالحة الَّتي هي خيرٌ لا بدَّ مِنْ ملاحظةِ هذا المعنى حتى يسهُلَ على النَّفس الَّتي أُحضِرتِ الشُّحَّ الموافقةُ على الصُّلحِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/293). .
2- في قوله: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ندَب تعالى إلى إحسانِ عِشرة النِّساء حتى مع الكراهة لهن وعدم الرغبة فيهن؛ وأمَر بالتَّقوى؛ لأنَّ الزَّوجَ قد تحمله الكراهةُ للزَّوجة على أذيَّتِها وخصومتِها يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/88).
3- قولُه تعالى: فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ يُستفادُ منه أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يستعملَ في خطابه ما يناسبُ المقامَ، فيستعمل أسلوبَ التنفيرِ فيما يُنفِّرُ منه، ويستعملَ أسلوب التَّرغيب فيما يُرغِّبُ فيه؛ فهذا من أسلوبِ الحِكمة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/299). .
4- في قوله تعالى: فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ الاستعطاف في المقامِ الَّذي ينبغي فيه العطفُ؛ لأنَّه إذا تصوَّر الإنسانُ أنَّ هذه الزَّوجةَ الَّتي مال عنها كالمعلَّقةِ بين السَّماء والأرض؛ فإنَّ هذا يوجب العطفَ عليها، والرَّأفةَ بها ورحمتَها يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/299). .
5- أنَّ الإصلاح والتَّقوى سببٌ للمغفرة، لقوله تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، ووجهُه ظاهرٌ؛ لأنَّ الإصلاحَ خيرٌ، والحسناتِ يُذهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ويجلُبْنَ الرَّحمةَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/299). .
6- سدُّ باب اليأسِ مِن رحمة الله؛ حيث قال: يُغْنِ اللهُ كلًّا مِنْ سَعَتِهِ ولم يقُلْ: (يُغن كلًّا) فقط، بل قال: مِنْ سَعَتِهِ إشارةً إلى أنَّ فضلَ الله واسع يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/306). .
7- في قوله: وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا إثباتُ الحكمةِ لله عزَّ وجلَّ، ويتفرَّعُ على هذا فائدةٌ عظيمةٌ مسلكيَّةٌ منهجيَّةٌ، وهي الرِّضا بقضاء الله وشرعِه، إذا علِم العبدُ أنَّ هذا صادرٌ عن حكمةٍ، حتَّى وإن كان فيه فواتُ مالٍ أو ولدٍ، فالله عزَّ وجلَّ ذو حكمةٍ عظيمةٍ فيما يُقدِّرُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/307). .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا، عنايةُ الله عزَّ وجلَّ بما يكون بين الزَّوجين، وجهُه: أنَّ الله ذكَر هنا نشوزَ الزَّوجِ، وفي أوَّلِ السُّورة ذكَر نشوز الزَّوجة، ممَّا يدلُّ على عنايةِ الله تعالى بما يكون بين الزَّوجين؛ لأنَّ الزَّوجين هما الرَّابطةُ الَّتي تربِطُ بين الأولاد، وتربط أيضًا بين الصِّهرِ وصِهرِه، وهي أحدُ النَّوعينِ في الرَّبط؛ كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان: 54] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/289). .
2- العملُ بالقرائن، ويؤخَذ من قوله: خَافَتْ ولم يقُلْ: رأَتْ نشوزًا، بل خافت، ومِن المعلومِ أنَّها لم تخَفْ مِن النُّشوز والإعراض إلَّا بوجودِ القرائنِ، والعملُ بالقرائنِ ثابتٌ بالقرآن يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/289). .
3- أفاد قولُه تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا... أنَّ عروضَ الخلافِ والكراهة، وما يترتَّب عليها من النُّشوزِ والإعراض، وسوءِ المعاشَرة لِمَن يقِفُ عند حدودِ الله، من الأمور الطَّبيعيَّة الَّتي لا يمكِنُ زوالُها من بين البشَرِ، والشَّريعةُ العادلة الرَّحيمة هي الَّتي تُراعَى فيها السُّنَنُ الطَّبيعيَّةُ، والوقائعُ الفِعليَّةُ بين النَّاس، ولا يُتصوَّرُ في ذلك أكملُ ممَّا جاء به الإسلامُ يُنظر: ((تفسير المنار)) (5/364).
4- أنَّه يجوزُ أنْ يصطلحَ الزَّوجان فيما بينهما على ما شاءَا- بما لا يخالفُ الشرعَ-؛ لقوله: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، ويتفرَّعُ عليها أنَّه يجوز للزَّوجةِ عند المصالَحةِ أن تُسقِطَ حقَّها من القَسْمِ، وأنَّه لا حرجَ على الزوجِ في أنْ تَبقَى عنده، ويُسقِطَ بعضَ الحقِّ، إذا صالحها على إسقاطِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/290). .
5- في قوله تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ذكَر الله أوَّلًا قولَه: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا فقولُه: فلا جُناحَ يوهِمُ أنَّه رخصةٌ، والغايةُ فيه ارتفاعُ الإثم، فبيَّن تعالى أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُناحَ فيه ولا إثمَ، فكذلك فيه خيرٌ عظيمٌ، ومنفعةٌ كثيرة؛ فإنهما إذا تصالَحَا على شيءٍ، فذاك خيرٌ من أن يتفرَّقَا أو يُقِيما على النُّشوزِ والإعراض يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/236). .
6- وَالصُّلْحُ خَيْرٌ: هذه قاعدةٌ عظيمةٌ من الرَّبِّ سبحانه، وقد يظُنُّ بعضُ النَّاس أنَّه إذا تَنازَلَ عن الحقِّ أنَّ في ذلك غضاضةً وهضمًا لحقِّه، وأنَّ العاقبةَ غيرُ حميدةٍ، لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ الَّذي بيده ملكوتُ السَّمواتِ والأرضِ يقول: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/292). .
7- قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ: يُؤخذُ مِن عمومِ هذا اللَّفظِ والمعنى: أنَّ الصُّلحَ بين مَن بينهما حقٌّ أو منازَعةٌ في جميع الأشياء أنَّه خيرٌ مِن استقصاءِ كلٍّ منهما على كلِّ حقِّه؛ لِمَا فيها من الإصلاح، وبقاءِ الأُلفة، والاتِّصاف بصفة السَّماح، وهو جائزٌ في جميعِ الأشياء إلَّا إذا أحَلَّ حرامًا، أو حرَّمَ حلالًا، فإنَّه لا يكونُ صُلحًا، وإنَّما يكونُ جَوْرًا يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 207). .
8- قال سبحانه: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، كلُّ حُكمٍ مِن الأحكام لا يتمُّ ولا يكمُلُ إلَّا بوجودِ مقتَضِيه وانتفاءِ موانعِه؛ فمن ذلك هذا الحُكمُ الكبير الَّذي هو الصُّلح، فذكَر تعالى المقتضيَ لذلك ونبَّهَ على أنَّه خيرٌ، والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلُبُه ويرغَبُ فيه، فإن كان- مع ذلك- قد أَمَر اللهُ به وحثَّ عليه، ازداد المؤمنُ طلبًا له ورغبةً فيه يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 207). .
9- قال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ التَّعريفُ في قوله: والصُّلح تعريفُ الجنسِ، وليس تعريفَ العهدِ؛ لأنَّ المقصودَ إثباتُ أنَّ ماهيَّةَ الصُّلح خيرٌ للنَّاس؛ فهو تذييلٌ للأمرِ بالصُّلحِ والتَّرغيبِ فيه، وليس المقصودُ أنَّ الصُّلحَ المذكور آنفًا- وهو الخُلعُ- خيرٌ من النِّزاعِ بين الزَّوجين؛ لأنَّ هذا- وإن صحَّ معناه- إلَّا أن فائدةَ الوجهِ الأوَّلِ أوفرُ، ولأنَّ فيه التَّفاديَ عن إشكالِ تفضيل الصُّلح على النِّزاعِ في الخيريَّةِ، مع أنَّ النِّزاعَ لا خيرَ فيه أصلًا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/216). .
10- الإحسان والتَّقوى والبِرُّ وما أشبَهَ ذلك، إذا أُفرِد أحدهما عن الآخَرِ شمِل الآخَرَ، وإن اقترنا فُسِّر كلٌّ منهما بما يليق به. وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا الإحسانُ بفعل الأوامر، والتَّقوى بترك النَّواهي، أمَّا إذا أُفرد الإحسانُ فإنَّه يشملُ فِعلَ الأوامر وتركَ النَّواهي، وكذلك التَّقوى إذا أُفرِدَت فإنَّها تشمَلُ هذا وهذا، وهذا يوجد كثيرًا في القرآنِ الكريم، فالمسكين والفقير إذا أُفرِد أحدُهما عن الآخَرِ صار أحدُهما شاملًا للآخَر، وإن قُرِنا صار الفقيرُ له معنًى، والمسكينُ له معنًى؛ فهما ممَّا إذا اجتَمَعا افتَرَقا، وإذا افتَرَقا اجتمعا يُنظر: ((القواعد الحسان)) للسعدي (ص: 48)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/287). .
11- القاعدةَ الشَّرعيَّة: أنَّ ما لا يُستطاعُ لا يُلزَمُ به العبدُ. قال الله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا... يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/298). .
12- قوله: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ: نبَّه تعالى على انتفاءِ استطاعةِ العدلِ بين النِّساء، وفي ذلك عُذْرٌ للرِّجال فيما يقعُ من التَّفاوتِ في الميل القَلْبِيِّ، والتَّعهُّدِ، والنَّظر، والتَّأنيس، والمُفاكَهة؛ فإنَّ العدل بينهنَّ في ذلك محالٌ، خارجٌ عن حدِّ الاستطاعةِ، وعلَّق انتفاء الاستطاعةِ في ذلك الأمر، على تقديرِ وجودِ الحِرص من الإنسانِ على ذلك يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/88). .
13- عذَر اللهُ النَّاسَ في شأنِ العدل بين النِّساء فيما لا يملِكُه الزَّوجُ؛ فقال: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ، أي: تمامَ العدل، وجاء بـ(لن) للمبالَغةِ في النَّفيِ؛ لأنَّ أمرَ النِّساء يُغالِبُ النَّفسَ؛ لأنَّ اللهَ جعَل حُسنَ المرأة وخُلُقَها مؤثِّرًا أشدَّ التَّأثيرِ في محبَّة الزَّوج وميلِه إلى بعضِ أزواجه، ولو كان حريصًا على إظهار العدلِ بينهنَّ؛ فلذلك قال: وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وأقام اللهُ ميزانَ العدلِ بقوله: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/218). .
14- قال تعالى: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ نهى تعالى عن الجَوْرِ على المرغوبِ عنها، بمنعِ قسمتِها من غيرِ رضًا منها، واجتنابُ كلِّ الميلِ داخلٌ في الوُسعِ؛ ولذلك وقَع النَّهيُ عنه، أي: إنْ وقَع منكم التَّفريطُ في شيءٍ مِن المساواة، فلا تجُوروا كلَّ الجورِ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/88). .
15- يقرنُ اللهُ تعالى بين الغفور والرَّحيم في مواضعَ كثيرةٍ؛ وذلك لأنَّ بالمغفرة يزول المكروهُ، وبالرحمة يحصلُ المطلوبُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/299). .
16- إن قيل: ما وجهُ قولِه تعالى في الآية الأُولى: وإن تحسنوا وتتقوا وفي الثانيةِ وإن تصلحوا وتتقوا فالجوابُ عن الأُولى: أنَّ معناها: إنْ خافَت امرأةٌ مِن زوجِها ترفُّعًا أو إعراضًا، فلا إثمَ في أن يتَصالحا على أن تتركَ له مِن مهرِها، أو بعضِ أيامِها ما يتراضيان به، والصلحُ خيرٌ مِن أن يُقيما على التباعدِ، أو يصيرا إلى القطيعةِ، ونفسُ كلِّ واحدٍ منهما تشحُّ بما لها قِبَلَ صاحبِها. وقيل: المرادُ: شحُّهنَّ على النُّقصان مِن أموالهنَّ وأنصبائهنَّ مِن أزواجهنَّ، وهذا يقتضي مخاطبةَ الأزواجِ بمجانبةِ القبيحِ، وإيثارِ الحُسنَى في معاملتِهم، فبعَث اللهُ تعالى في هذا المكانِ على فعلِ الإحسانِ.
وأمَّا الثانيةُ فجاءتْ بعدَ قولِه: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء في محبتهنَّ والشهوةِ لهنَّ؛ لأنَّ ذلك ليس إليكم، وإن حرصتُم على التَّسويةِ بينهنَّ فلا تميلوا كل الميل بأن تجعلوا كلَّ مبيتِكم وخَلوتِكم وجميلَ عشرتِكم وسعةَ نفقتِكم عندَ التي تشتهونها دونَ الأُخرى، فتبقَى تلك معلَّقةً لا ذات زوجٍ ولا مطلَّقة، فاقتضَى هذا الموضعُ أن يحثَّ الأزواجَ على إصلاحِ ما كان منهم بالتوبةِ مما سلَف، واستئنافِ ما يقدرون عليه مِن العدلِ، ويملكونه مِن الخلوةِ، وسعةِ النَّفقة، وحُسنِ العِشرةِ، فقال: (وإن تصلحوا وتتقوا) ينظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للخطيب الإسكافي (1/409). .
17- في قوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده، وأنَّ المرأة والرَّجُل إذا انكسَرا بالفِراق بينهما، جبَرَهما الله عزَّ وجلَّ بالإغناءِ، فيُغني كلًّا مِن سَعتِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/306). .
18- في قوله تعالى: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ إشارةٌ إلى أنَّ الفِراقَ قد يكون خيرًا لهما؛ لأنَّ الفِراقَ خيرٌ من سوء المعاشَرة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/219). .
19- قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا، ناسَب ذِكرُ وصفِ الحكمةِ، وهو وضعُ الشَّيء في موضعِه المناسِب؛ لأنَّ السَّعةَ ما لم تكُنْ معها الحكمةُ كانت إلى فسادٍ أقربَ منها للصَّلاحِ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/90). .
20- في قوله تعالى: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا أنَّ هذه السَّعةَ الَّتي وعَد الله تعالى بالإغناء منها مبنيَّةٌ على حكمةٍ، وكأنَّ هذا- والله أعلم- إشارةٌ إلى أنَّه لو تخلَّف هذا الموعودُ، فإنَّه لن يتخلَّفَ إلَّا لحكمةٍ، فقد يمنَعُ الله سبحانه الإنسانَ ما يحِبُّ لحكمةٍ ومصلحةٍ عظيمةٍ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/306). .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
- فيه دلالةٌ على شِدَّةِ التَّرغيبِ في هذا الصُّلح بمؤكِّداتٍ ثلاثةٍ: وهي المصدرُ المؤكِّدُ في قوله: صُلْحًا، والإظهارُ في مقامِ الإضمار في قوله: والصُّلحُ خيرٌ، والإخبار عنه بالمصدرِ أو بالصِّفة المشبَّهةِ؛ فإنَّها تدلُّ على فِعلِ سجيَّةٍ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/217). .
- وقوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ جملة اعتراضيَّة يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/101)، ((تفسير أبي السعود)) (2/239). ، تُفيد التَّرغيبَ في أمرِ الصُّلح، والحثَّ عليه.
2- قوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ جملةٌ اعتراضيَّةٌ مؤكِّدة للمطلوب، وأفاد هذا التَّعبيرُ أنَّ الشُّحَّ حاضرٌ للأنفُس لا يغيبُ عنها أبدًا ولا تنفكُّ عنه، يعني: أنَّها مطبوعةٌ عليه يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/571)، ((تفسير الرازي)) (11/236). .
3- قوله: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا: فيه كنايةٌ عن وعيدٍ؛ لأنَّ الخبيرَ بفاعلِ السُّوء- وهو قَديرٌ- لا يُعوِزُه أن يُعذِّبَه على ذلك، وأُكِّدت الجملةُ بـ: (إنَّ)، و(كان) يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/228). .
- قوله: بِمَا تَعْمَلُونَ فيه: اختصاصٌ؛ حيث خَصَّ الْعَمَلَ بالذِّكرِ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/106). ؛ إذ هو مناطُ الحساب. وأيضًا فالعَملُ يَشمَلُ الفِعلَ والتَّرك؛ إذ التَّرْكٌ فِعلٌ، وأدلَّة ذلك لا تَخفَى من الكِتابِ والسُّنَّة وكَلامِ العرَب قال الشنقيطي: (الأفعال الاختياريَّة، وهي باستقراءِ الشرع أربعة أقسام: ... الثالث: الترك، والتحقيق أنَّه فِعلٌ، وهو كفُّ النَّفس وصرفُها عن المنهيِّ عنه... والدليلُ على أنَّ التركَ فِعلٌ: الكتابُ والسُّنَّة واللُّغة...). ((مذكرة في أصول الفقه)) (ص: 46) مختصرًا، ويُنظر: ((القواعد الأصولية المؤثرة في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لناصر الغامدي (ص 749 وما بعدها). .
4- قوله: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا التَّعبير بـ: (لن) دون غيرها من حُروفِ النَّفيِ؛ للمبالَغة في النَّفيِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/218). .
5- قوله: كَالْمُعَلَّقَةِ فيه: تشبيهٌ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/106). ؛ حيث شَبَّه ما يفعَلُه الرَّجُلُ بامرأتِه بعد الزَّواج بأخرى مِن إهمالٍ لها، وعدمِ المراعاةِ لشؤونِها الواجبةِ عليه، بما هو مُعلَّقٌ، لا هو يَسقُطُ، فلا هي ذاتُ زوجٍ، ولا هي أيِّمٌ.