موسوعة الأخلاق والسلوك

خامسًا: أقسامُ الحَياءِ


(ينقَسِمُ الحَياءُ باعتبارِ محَلِّه إلى قِسمَينِ:
1- القِسمُ الأوَّلُ: حَياءٌ فِطريٌّ: وهو الذي يولَدُ مع الإنسانِ متزَوِّدًا به، ومن أمثلتِه: حَياءُ الطِّفلِ عندما تنكَشِفُ عورتُه أمامَ النَّاسِ، وهذا النَّوعُ من الحَياءِ منحةٌ أعطاها اللهُ لعبادِه.
2- والقِسمُ الثَّاني: حَياءٌ مُكتَسَبٌ: وهو الذي يكتَسِبُه المُسلِمُ من دينِه، فيمنَعُه مِن فِعلِ ما يُذَمُّ شَرعًا، مخافةَ أن يراه اللهُ حيثُ نهاه، أو يفقِدَه حيثُ أمَره.
وينقَسِمُ باعتبارِ مُتعَلَّقِه إلى قِسمَين:
1- القِسمُ الأوَّلُ: الحَياءُ الشَّرعيُّ: وهو الذي يقَعُ على وَجهِ الإجلالِ والاحترامِ، وهو محمودٌ.
2- القِسمُ الثَّاني: الحَياءُ غيرُ الشَّرعيِّ: وهو ما يقَعُ سَبَبًا لتركِ أمرٍ شَرعيٍّ، وهذا النَّوعُ من الحَياءِ مذمومٌ، وهو ليس بحَياءٍ شَرعيٍّ، وإنَّما هو ضَعفٌ ومهانةٌ) [3910] ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن السعيد المرسي (ص: 146). .
ويمكِنُ تقسيمُ الحَياءِ من حيثُ من يُستحيا منه إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
1-الحَياءُ من اللهِ، وذلك بالحِرصِ على امتثالِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه، وذاك إنَّما يكونُ عن معرفةٍ ومراقبةٍ.
2-الحَياءُ من النَّاسِ، وهذا يوجِبُ للعبدِ أن يستعمِلَ المروءةَ وأن يفعَلَ ما يجَمِّلُه ويُزَيِّنُه عندَ النَّاسِ، ويتجنَّبَ ما يُدَنِّسُه ويَشينُه.
3- الحَياءُ من النَّفسِ، وذلك حينَ يجعَلُ الإنسانُ من نفسِه حَكَمًا على نفسِه، فيحاسِبُها فيما تقولُ أو تفعَلُ، وفيما تسمَعُ أو تنظُرُ أو تُفَكِّرُ، وفي سائرِ أحوالها، وهذا القِسمُ لا تَشعُرُ به إلَّا النُّفوسُ العزيزةُ [3911] يُنظَر ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/252)، ((عمدة القاري)) للعيني (1/129)، ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/29-30)، ((أخلاق القرآن)) لأحمد الشرباصي (1/107). .
أوجُهُ الحَياءِ:
ذكَر ابنُ القَيِّمِ صُوَرًا للحَياءِ، وقَسَّمها إلى عَشَرةِ أوجُهٍ، وهي:
حَياءُ جنايةٍ، وحَياءُ تقصيرٍ، وحَياءُ إجلالٍ، وحَياءُ كَرَمٍ، وحَياءُ حِشمةٍ، وحَياءُ استِصغارٍ للنَّفسِ واحتقارٍ لها، وحَياءُ محبَّةٍ، وحَياءُ عُبوديَّةٍ، وحَياءُ شَرَفٍ وعِزَّةٍ، وحَياءُ المُستحيي من نَفسِه.
فأمَّا حَياءُ الجنايةِ: فمنه حَياءُ آدمَ عليه السَّلامُ لمَّا فرَّ هارِبًا في الجنَّةِ.
وحَياءُ التَّقصيرِ: كحَياءِ الملائكةِ الذين يُسَبِّحون اللَّيلَ والنَّهارَ لا يَفتُرون، فإذا كان يومُ القيامةِ قالوا: سُبحانَك! ما عبَدْناك حقَّ عبادتِك.
وحَياءُ الإجلالِ: هو حَياءُ المعرفةِ، وعلى حَسَبِ معرفةِ العبدِ برَبِّه يكونُ حياؤُه منه.
وحَياءُ الكَرَمِ: كحَياءِ النَّبيِّ من القومِ الذين دعاهم إلى وليمةِ زَينبَ وطوَّلوا الجلوسَ عِندَه، فقام واستحيا أن يقولَ لهم: انصَرِفوا [3912] يُنظَر: ما رواه البخاري (4793)، ومسلم (1428). .
وحَياءُ الحِشمةِ: كحَياءِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أن يسألَ رَسولَ اللهِ عن المَذْيِ؛ لمكانِ ابنتِه منه [3913] يُنظَر: ما رواه البخاري (132)، ومسلم (303). .
وحَياءُ الاستِحقارِ واستِصغارِ النَّفسِ: كحَياءِ العَبدِ مِن رَبِّه عزَّ وجَلَّ حينَ يسألُه حوائِجَه؛ احتقارًا لشأنِ نفسِه واستِصغارًا لها...
وقد يكونُ لهذا النَّوعِ سَببانِ:
أحدُهما: استحقارُ السَّائِلِ نفسَه، واستعظامُ ذُنوبِه وخطاياه.
والثَّاني: استِعظامُ مَسؤولِه.
وأمَّا حَياءُ المحبَّةِ فهو حَياءُ المحِبِّ من محبوبِه، حتَّى إنَّه إذا خطَر على قَلبِه في غيبتِه هاج الحَياءُ من قَلبِه، وأحسَّ به في وَجهِه، ولا يُدرى ما سَبَبُه، وكذلك يَعرِضُ للمُحِبِّ عند ملاقاتِه محبوبَه ومناجاتِه له روعةٌ شديدةٌ، ومنه قولُهم: جمالٌ رائعٌ، وسَبَبُ هذا الحَياءِ والرَّوعةِ ممَّا لا يَعرِفُه أكثَرُ النَّاسِ.
ولا رَيبَ أنَّ للمحبَّةِ سُلطانًا قاهِرًا للقَلبِ أعظَمَ من سُلطانِ من يَقهَرُ البَدَنَ، فأين مَن يَقهَرُ قَلبَك ورُوحَك إلى مَن يَقهَرُ بَدَنك؟! ولذلك تعجَّبَت الملوكُ والجبابِرةُ من قَهْرِهم للخَلقِ، وقَهْرِ المحبوبِ لهم وذُلِّهم له! فإذا فاجأ المحبوبُ مُحِبَّه ورآه بَغتةً، أحسَّ القَلبُ بهُجومِ سُلطانِه عليه فاعتراه رَوعةٌ وخَوفٌ...
وأمَّا الحَياءُ الذي يعتريه منه وإن كان قادرًا عليه كأمَتِه وزَوجتِه، فسَبَبُه -واللهُ أعلَمُ- أنَّ هذا السُّلطانَ لـمَّا زال خوفُه عن القَلبِ بَقِيَت هيبتُه واحتشامُه، فتولَّد منها الحَياءُ، وأمَّا حُصولُ ذلك له في غَيبةِ المحبوبِ فظاهِرٌ لاستيلائِه على قَلبِه، فوَهمُه يُغالِطُه عليه ويكابِرُه حتَّى كأنَّه معه.
وأمَّا حَياءُ العُبوديَّةِ فهو حَياءٌ ممتَزِجٌ من محبَّةٍ وخوفٍ، ومشاهَدةِ عَدَمِ صلاحِ عبوديَّتِه لمعبودِه، وأنَّ قَدْرَه أعلى وأجَلُّ منها؛ فعُبوديَّتُه له توجِبُ استِحياءَه منه لا محالةَ.
 وأمَّا حَياءُ الشَّرَفِ والعِزَّةِ، فحَياءُ النَّفسِ العظيمةِ الكبيرةِ، إذا صدَر منها ما هو دونَ قَدْرِها من بَذلٍ أو عطاءٍ وإحسانٍ، فإنَّه يستحْيي -مع بذلِه- حَياءَ شَرَفِ نَفسٍ وعِزَّةٍ، وهذا له سببانِ؛ أحَدُهما: هذا. والثَّاني: استِحياؤه من الآخِذِ حتَّى كأنَّه هو الآخِذُ السَّائِلُ، حتَّى إنَّ بعضَ أهلِ الكَرَمِ لا تطاوِعُه نفسُه بمواجهتِه لمَن يعطيه؛ حَياءً منه، وهذا يدخُلُ في حَياءِ التَّلوُّمِ؛ لأنَّه يَستحيي من خَجلةِ الآخِذِ.
وأمَّا حَياءُ المرءِ من نَفسِه فهو حَياءُ النُّفوسِ الشَّريفةِ العزيزةِ الرَّفيعةِ مِن رضاها لنَفْسِها بالنَّقصِ وقناعَتِها بالدُّونِ، فيَجِدُ نَفسَه مستحيًا من نفسِه حتَّى كأنَّ له نفسَينِ يستحْيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمَلُ ما يكونُ من الحَياءِ؛ فإنَّ العبدَ إذا استحْيا مِن نفسِه فهو بأن يستحييَ من غيرِه أجدَرُ [3914] يُنظَر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/250-252). .

انظر أيضا: