موسوعة الأخلاق والسلوك

هـ- نماذِجُ مِن الحِلمِ عندَ العُلَماءِ المُعاصِرينَ


1- حِلمُ ابنِ بازٍ:
قَبلَ سنتَينِ مِن وفاتِه -رحِمه اللهُ- كان في الطَّائِفِ، وفي يومٍ مِن الأيامِ جاء سماحتُه مِن الدَّوامِ، ودخَل مجلِسَه، فحيَّا الجُموعَ التي كانت تأتي كالعادةِ إليه، وفي هذه الأثناءِ دخَل عليه رجُلٌ ثائِرٌ ومعَه أوراقٌ يطلُبُ فيها شفاعةَ الشَّيخِ ليحصُلَ على مالٍ ليتزوَّجَ، فشرَع الرَّجلُ يتكلَّمُ بصوتٍ مُرتفِعٍ أزعَج الحاضِرينَ في المجلِسِ، فوجَّهه سماحةُ الشَّيخِ بما يلزَمُ، وقال: اذهَبْ إلى فلانٍ في بلدِكم الفلانيِّ، واطلُبْ منه أن يكتُبَ لكم تزكيةً، ويقومَ باللَّازِمِ، ثُمَّ يرفَعَه إلينا، ونحن نُكمِلُ اللَّازِمَ، ونرفَعُ إلى أحدِ المُحسِنينَ في شأنِك.
فقال الرَّجلُ: يا شيخُ، ارفَعْها إلى المسؤولِ الفلانيِّ -يعني أحدَ المسؤولينَ الكبارَ-، فقال سماحةُ الشَّيخِ: ما يكونُ إلَّا خيرٌ، فرفَع الرَّجلُ صوتَه، وأخَذ يُكرِّرُ: لا بُدَّ أن ترفَعَها إلى فلانٍ، وما زال يُردِّدُ، وما زال الشَّيخُ يُلاطِفُه، ويرفُقُ به، ويعِدُه بالخيرِ، حتَّى إنَّ الحاضِرينَ تكدَّروا، وبدا الغضبُ مِن على وُجوهِهم، بل إنَّ بعضَهم همَّ بإخراجِ الرَّجلِ، ولكنَّهم تأدَّبوا بحضرةِ الشَّيخِ، ولم يرغَبوا بالتَّقدُّمِ بَينَ يَدَيه، فقال الرَّجلُ: يا شيخُ، عُمري يزيدُ على الخمسينَ، وما عندي زوجةٌ، وما بقِي مِن عُمري إلَّا القليلُ، فتبسَّم سماحةُ الشَّيخِ، وقال: يا وَلدي إن شاء اللهُ ستتزوَّجُ، ويزيدُ عُمرُك إن شاء اللهُ على التِّسعينَ، وسنعمَلُ ما نستطيعُ في تلبيةِ طَلبِك.
فما كان مِن ذاك الرَّجلِ إلَّا أن أقبَل على سماحةِ الشَّيخِ، وأخَذ برأسِ الشَّيخِ يُقبِّلُه، ويدعو له، فلمَّا همَّ بالانصِرافِ ودَّع الشَّيخَ، فقال له سماحتُه: لا نسمَحُ لك، غَداؤُك معَنا، فقال: يا شيخُ، أنا على مَوعِدٍ، فقال له الشَّيخُ: هذا الهاتِفُ اعتَذِرْ، فما زال يحاوِلُ التَّخلُّصَ، وما زال سماحةُ الشَّيخِ يُلِحُّ عليه بتناوُلِ الغَداءِ، ولم يقبَلْ سماحتُه الاعتِذارَ إلَّا بَعدَ جَهدٍ، حينَئذٍ تعجَّب الحاضِرونَ مِن تحمُّلِ الشَّيخِ، وأصبحْتَ ترى الدَّهشةَ باديةً على وُجوهِهم، فكأنَّه أعطاهم درسًا عمليًّا في فَضلِ الحِلمِ، وحميدِ عاقِبتِه [3816] ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله-)) لمحمد إبراهيم الحمد. بتصرف (ص: 220). .
- قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ يوسُفَ: (أخبرْتُ الشَّيخَ ابنَ بازٍ برجُلٍ اغتابه سنينَ عديدةً، مُتَّهِمًا إيَّاه بصِفاتٍ بذيئةٍ، ونُعوتٍ مرذولةٍ، وأنَّه يطلُبُ منه السَّماحَ والعَفوَ، فقال: أمَّا حقِّي فقد تنازَلْتُ عنه، وأرجو اللهَ أن يَهديَه ويُثبِّتَه على الحقِّ) [3817] ((الإنجاز))، لعبد الرحمن الرحمة (ص: 49، 51). .
2- حِلمُ ابنِ عُثَيمينَ:
كان ابنُ عُثَيمينَ يمشي مرَّةً في طريقِ العودةِ مِن المسجِدِ وطُلَّابُه يقرؤونَ عليه، فجاء أعرابيٌّ مِن الخَلفِ ودفَع الطَّالِبَينِ عن يمينِ ويسارِ الشَّيخِ، وأمسَك الشَّيخَ مِن كَتِفِه، وجبَذه بقوَّةٍ، فاستدار جسدُ الشَّيخِ لقوَّةِ الجَبذةِ، فقال بعضُ الطُّلَّابِ: الآنَ ينفجِرُ الشَّيخُ، لكنَّ الشَّيخَ ابتسَم في وَجهِ الأعرابيِّ، وسأله عن حاجتِه، فقال: هذه حاجتي مكتوبةً في هذه الورقةِ، أنت ما تتفرَّغُ لي؟ فاعتذَر ابنُ عُثَيمينَ عن قَضاءِ حاجتِه الآنَ لانشِغالِه، فلم يقبَلِ الأعرابيُّ العُذرَ، وأصرَّ على أن تُقضى حاجتُه فورًا، فأجابه لذلك ابنُ عُثَيمينَ [3818] ((الدعوة)) العدد (1777). !

انظر أيضا: