موسوعة الأخلاق والسلوك

رابعًا: أقسامُ الحِكمةِ وأنواعُها ودرَجاتُها


الحِكمةُ من حيثُ الاكتسابُ وعَدَمُه تنقَسِمُ إلى قسمَينِ:
حِكمةٌ فِطريَّةٌ: يؤتيها اللهُ عزَّ وجَلَّ من يشاءُ، ويتفضَّلُ بها على من يريدُ، وهذه لا يدَ للعبدِ فيها، وهي التي عناها عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه حينما كتب إلى أبي موسى الأشعريِّ: (إنَّ الحِكمةَ ليست عن كِبَرِ السِّنِّ، ولكِنَّه عطاءُ اللهِ يعطيه من يشاءُ، فإيَّاك ودناءةَ الأمورِ، ومَراقَّ الأخلاقِ) [3582] ((الإشراف في منازل الأشراف)) لابن أبي الدنيا (212). .
حِكمةٌ مُكتَسَبةٌ: يكتَسِبُها العبدُ بفِعلِ أسبابِها، وتركِ موانِعِها، فيَسهُلُ انقيادُها له، وتجري على ألفاظِه التي ينطِقُ بها، وتكتسي بها أعمالُه التي يفعَلُها، ويشهَدُها النَّاسُ على حركاتِه وسَكَناتِه.
ومن جهةٍ أخرى فالحِكمةُ نوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: حِكمةٌ عِلميَّةٌ نظريَّةٌ، وهي الاطِّلاعُ على بواطِنِ الأشياءِ، ومعرفةُ ارتباطِ الأسبابِ بمُسَبَّباتِها، خَلقًا وأمرًا، قدَرًا وشَرعًا.
النَّوعُ الثَّاني: حِكمةٌ عَمَليَّةٌ، وهي وضعُ الشَّيءِ في موضِعِه [3583] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/478). .
وهي على ثلاثِ دَرَجاتٍ:
الدَّرجةُ الأولى: أن تعطيَ كُلَّ شيءٍ حَقَّه ولا تُعْديَه حَدَّه، ولا تُعجِلَه عن وقتِه، ولا تؤخِّرَه عنه.
لمَّا كانت الأشياءُ لها مراتبُ وحقوقٌ تقتضيها شرعًا وقدَرًا، ولها حدودٌ ونهاياتٌ تَصِلُ إليها ولا تتعَدَّاها، ولها أوقاتٌ لا تتقدَّمُ عنها ولا تتأخَّرُ؛ كانت الحِكمةُ مراعاةَ هذه الجهاتِ الثَّلاثِ، بأن تعطيَ كُلَّ مرتبةٍ حقَّها الذي أحقَّه اللهُ بشرعِه وقدَرِه، ولا تتعدَّى بها حَدَّها؛ فتكونَ متعديًا مخالفًا للحِكمةِ، ولا تطلُبَ تعجيلَها عن وقتِها فتخالِفَ الحِكمةَ، ولا تؤخِّرَها عنه فتُفوِّتَها...
الدَّرَجةُ الثَّانيةُ: أن تشهَدَ نَظَرَ اللهِ في وَعدِه، وتعرِفَ عَدلَه في حُكمِه، وتلحَظَ بِرَّه في منعِه.
أي: تعرفَ الحِكمةَ في الوعدِ والوعيدِ، وتشهَدَ حُكمَه، كما في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] ، فتشهَدَ عدلَه في وعيدِه، وإحسانَه في وعدِه، وكُلٌّ قائمٌ بحِكمتِه.
وكذلك تعرِفُ عَدلَه في أحكامِه الشَّرعيَّةِ والكونيَّةِ الجاريةِ على الخلائِقِ؛ فإنَّه لا ظُلمَ فيها ولا حَيفَ [3584] الحَيفُ: الميلُ في الحُكمِ، والجَورُ والظُّلمُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (9/60). ولا جَورَ، وكذلك تعرِفُ بِرَّه في منعِه؛ فإنَّه سُبحانَه هو الجوادُ الذي لا يَنقُصُ خزائنَه الإنفاقُ، ولا يَغيضُ ما في يمينِه سَعةُ عَطائِه، فما مَنَع مَن منَعَه فَضلَه إلَّا لحِكمةٍ كاملةٍ في ذلك.
الدَّرجةُ الثَّالثةُ: أن تبلُغَ في استدلالِك البصيرةَ، وفي إرشادِك الحقيقةَ، وفي إشارتِك الغايةَ.
فتَصِلَ باستدلالِك إلى أعلى درَجاتِ العِلمِ، وهي البصيرةُ التي تكونُ نسبةُ العلومِ فيها إلى القَلبِ كنسبةِ المرئيِّ إلى البصَرِ، وهذه هي الخصيصةُ التي اختصَّ بها الصَّحابةُ عن سائرِ الأمَّةِ، وهي أعلى درَجاتِ العُلَماءِ [3585] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/448 -452)، بتصرف. .

انظر أيضا: