موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- حُسْنُ الظَّنِّ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المثالُ الذي يُحتذى به في حُسْنِ الخُلُقِ، وقد علَّم أصحابَه رضوانُ اللهِ عليهم حُسْنَ الظَّنِّ، وبيَّن لهم أنَّ الأصلَ في المُؤمِنِ السَّلامةُ، وأنَّ الإنسانَ لا بدَّ له من التِماسِ الأعذارِ لمن حولَه، وعليه أن يَطرُدَ الشُّكوكَ والرِّيبةَ التي قد تدخُلُ في قلبِه، فيترَتَّبُ عليها من الآثارِ ما لا يحمَدُ عُقُباه، فهذا رجلٌ جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد داخلَتْه الرِّيبةُ في امرأتِه، وأحاطت به ظُنونُ السُّوءِ فيها؛ لأنَّها ولدت غلامًا أسودَ على غيرِ لونِه ولونِها، فأزال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما في قلبِه من ظنٍّ وريبةٍ، فعن أبي هُرَيرةَ: أنَّ أعرابيًّا أتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ امرأتي ولدت غلامًا أسوَدَ، وإني أنكَرْتُه، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هل لك من إبلٍ؟ قال: نعمْ، قال: فما ألوانُها؟ قال: حُمرٌ، قال: هل فيها من أورَقَ [3206] الأورقُ: هو الذي فيه سوادٌ ليس بصافٍ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/133). ؟ قال: إنَّ فيها لَوُرقًا، قال: فأنَّى ترى ذلك جاءها، قال: يا رسولَ اللهِ، عِرقٌ نزَعَها، قال: ولعَلَّ هذا عِرقٌ نزعه)) [3207] نزعة عِرقٌ: العِرقُ الأصلُ من النَّسَبِ تشبيهًا بعِرقِ الثَّمَرةِ... ومعنى نَزَعه: أشبَهَه واجتذبه إليه وأظهَرَ لونَه عليه. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/133). ، ولم يرخِّصْ له في الانتفاءِ منه [3208] أخرجه البخاري (7314)، ومسلم (1500). .
وعن عِتبانَ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو ممَّن شَهِد بدرًا، قال: ((كنتُ أُصَلِّي لقومي بني سالمٍ، وكان يحولُ بيني وبَيْنَهم وادٍ إذا جاءت الأمطارُ، فيَشُقُّ عَليَّ اجتيازُه قِبَلَ مَسجِدِهم، فجِئتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلتُ له: إنِّي أنكَرْتُ بصري، وإنَّ الوادي الذي بَيني وبَينَ قومي يسيلُ إذا جاءت الأمطارُ، فيَشُقُّ عَلَيَّ اجتيازُه، فوَدِدْتُ أنَّك تأتي فتُصَلِّي من بيتي مكانًا أتَّخِذُه مُصَلًّى، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: سأفعَلُ. فغدا عليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بعدَ ما اشتدَّ النَّهارُ، فاستأذن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأذِنتُ له، فلم يجلِسْ حتَّى قال: أين تحِبُّ أن أصلِّيَ من بيتِك، فأشَرْتُ له إلى المكانِ الذي أحِبُّ أن أصَلِّيَ فيه، فقام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكَبَّرَ وصَفَفْنا وراءَه فصَلَّى ركعتينِ، ثمَّ سَلَّم وسَلَّمْنا حينَ سَلَّم، فحبَسْتُه على خزيرٍ يَصنَعُ له، فسَمِع أهلُ الدَّارِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بيتي، فثاب رجالٌ منهم حتَّى كَثُر الرِّجالُ في البيتِ، فقال رجُلٌ: ما فعل مالِكٌ؟ لا أراه! فقال: رجُلٌ منهم: ذاك مُنافِقٌ لا يحِبُّ اللهَ ورسولَه. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَقُلْ ذاك، ألا تراه قال لا إلهَ إلَّا اللهُ يبتغي بذلك وَجهَ اللهِ؟ فقال: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ. أمَّا نحن فواللهِ ما نرى وُدَّه ولا حديثَه إلَّا إلى المُنافِقين. قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإنَّ اللهَ قد حَرَّم على النَّارِ مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ يبتغي بذلك وَجهَ اللهِ)) [3209] أخرجه البخاري (1186) واللفظ له، ومسلم (33). .
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (بعثني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنا والزُّبَيرُ والمقدادُ بنُ الأسوَدِ، قال: انطَلِقوا حتى تأتوا روضةَ خاخٍ [3210] مَوضِعٌ بيْن مكَّةَ والمدينةِ بقُربِ المدينةِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/4012). ؛ فإنَّ بها ظَعينةً [3211] الظَّعينةُ: المرأةُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 151). ، ومعها كتابٌ فخُذوه منها، فانطلَقْنا تَعادى بنا خيلُنا حتى انتَهَينا إلى الرَّوضةِ، فإذا نحن بالظَّعينةِ، فقُلْنا: أخرجي الكتابَ، فقالت: ما معي من كتابٍ، فقُلْنا: لتُخرِجِنَّ الكتابَ أو لنُلقِيَنَّ الثِّيابَ، فأخرجَتْه من عِقاصِها [3212] عِقاصِها: أي: الخَيطِ الَّذي يُعتقَصُ به أطرافُ الذَّوائبِ، أو الشَّعرِ المضفورِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (6/387). ، فأتينا به رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا فيه: مِن حاطِبِ بنِ أبي بلتعةَ إلى أُناسٍ من المشركين مِن أهلِ مكَّةَ يخبِرُهم ببعضِ أمرِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا حاطِبُ، ما هذا؟! قال: يا رَسولَ اللهِ، لا تعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرَأً مُلصَقًا في قريشٍ، ولم أكُنْ من أنفُسِها، وكان مَن معك من المهاجِرين لهم قراباتٌ بمكَّةَ يحمون بها أهليهم وأموالَهم، فأحببتُ إذْ فاتني ذلك من النَّسَبِ فيهم أن أتخِذَ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلتُ كُفرًا ولا ارتدادًا، ولا رِضًا بالكُفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لقد صدَقَكم، قال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافِقِ! قال: إنَّه قد شهد بدرًا، وما يُدريك لعلَّ اللهَ أن يكونَ قد اطَّلع على أهلِ بَدرٍ فقال: اعمَلوا ما شئتمُ، فقد غفرتُ لكم [3213] أخرجه البخاري (3007) واللفظ له، ومسلم (2494). .

انظر أيضا: