موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ من حُسْنِ الظَّنِّ عِندَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


حُسنُ ظَنِّ أبي أيُّوبَ وأمِّ أيُّوبَ:
فهذا أبو أيُّوبَ خالِدُ بنُ زيدٍ قالت له امرأتُه أمُّ أيُّوبَ: يا أبا أيُّوبَ، ألا تسمَعُ ما يقولُ النَّاسُ في عائشةَ؟ قال: بلى، وذلك الكَذِبُ. أكنتِ أنتِ يا أمَّ أيُّوبَ فاعِلةً ذلك؟ قالت: لا واللهِ ما كنتُ لأفعَلَه! قال: فعائشةُ واللهِ خيرٌ منك [3214] رواه الطبري في ((التفسير)) (19/129)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (15013)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (16/49). .
 (وهكذا المُؤمِنون الأطهارُ الأخيارُ، يبنون أمورَهم على حُسْنِ الظَّنِّ بالنَّاسِ) [3215] ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (10/ 96). .
حُسنُ ظَنِّ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:
- عن جابِرِ بنِ سَمُرةَ، قال: (شكا أهلُ الكوفةِ سَعدًا إلى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، فعَزَله، واستعمَلَ عليهم عمَّارًا، فشَكَوا حتى ذكَروا أنَّه لا يحسِنُ يُصَلِّي! فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاقَ، إنَّ هؤلاء يزعُمون أنَّك لا تحسِنُ تُصَلِّي، قال أبو إسحاقَ: أمَّا أنا واللهِ فإني كنتُ أُصَلِّي بهم صلاةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أخرِمُ [3216] أخرِمُ: أي: أترُكُ وأنقُصُ. ينظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) (1/ 231). عنها، أصلِّي صلاةَ العِشاءِ، فأركُدُ [3217] أركُدُ، أي: أُطيل القيامَ، والرُّكودُ: طُولُ اللُّبثِ. ينظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 491). في الأوليَينِ وأخِفُّ في الأخرَيَينِ، قال: ذاك الظَّنُّ بك يا أبا إسحاقَ! فأرسل معه رجُلًا أو رجالًا إلى الكوفةِ، فسأل عنه أهلَ الكوفةِ ولم يَدَعْ مسجِدًا إلَّا سأل عنه، ويُثنون معروفًا، حتى دخل مسجِدًا لبني عَبسٍ، فقام رجلٌ منهم يقالُ له أسامةُ بنُ قتادةَ يُكنى أبا سَعْدةَ، قال: أمَا إذ نشَدْتَنا [3218] نشَدْتَنا، أي: سأَلْتَنا باللهِ. ينظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (2/ 84). فإنَّ سعدًا كان لا يَسيرُ بالسَّرِيَّةِ [3219] لا يسيرُ بالسَّرِيَّةِ ظاهِرُه أنَّه لا يخرُجُ مع سراياه، وقيل: معناه: لا يسيرُ بالسِّيرةِ السَّوِيَّةِ، أي: العادِلةِ. ينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/136). ، ولا يَقسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ولا يَعدِلُ في القَضِيَّةِ! قال سعدٌ: أمَا واللهِ لأدعُوَنَّ بثلاثٍ: اللَّهُمَّ إن كان عبدُك هذا كاذِبًا، قام رياءً وسُمعةً، فأطِلْ عُمُرَه، وأطِلْ فَقْرَه، وعَرِّضْه بالفِتَنِ! وكان بَعدُ إذا سُئِل يقولُ: شيخٌ كبيرٌ مفتونٌ، أصابتني دعوةُ سعدٍ! قال عبدُ المَلِكِ -راوي الأثَرِ عن سَمُرةَ-: فأنا رأيتُه بَعْدُ قد سقَط حاجباه على عينَيه من الكِبَرِ، وإنَّه ليتعَرَّضُ للجواري في الطُّرُقِ يَغمِزُهنَّ) [3220] رواه البخاري (755) واللفظ له، ومسلم (453) مختصَرًا. .
- وعن خالِدِ بنِ مَعْدانَ، قال: (استعمَلَ علينا عُمَرُ بنُ الخطَّابِ بحِمصَ سعيدَ بنَ عامِرِ بنِ حِذْيَمٍ الجُمَحيَّ، فلمَّا قَدِم عُمَرُ بنُ الخطَّابِ حِمصَ قال: يا أهلَ حِمصَ، كيف وجَدْتُم عامِلَكم؟ فشَكَوه إليه -وكان يُقالُ لأهلِ حِمصَ: الكُوَيفةُ الصُّغرى؛ لشِكايتِهم العُمَّالَ- قالوا: نشكو أربعًا: لا يخرُجُ إلينا حتَّى يتعالى النَّهارُ، قال: أعظِمْ بها! قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيبُ أحدًا بليلٍ، قال: وعظيمةٌ! قال: وماذا؟ قالوا: وله يومٌ في الشَّهرِ لا يخرُجُ فيه إلينا، قال: عظيمةٌ! قال: وماذا؟ قالوا: يَغنِظُ الغَنظةَ بَيْنَ الأيَّامِ -يعني تأخُذُه موتةٌ [3221] الموتةُ: الغَشيُ وفُتورٌ في العَقلِ؛ لأنَّه يحدُثُ عنه سكونٌ كالموتِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (5/ 106). - قال: فجَمَع عُمَرُ بَيْنَهم وبينَه، وقال: اللَّهُمَّ لا تُفَيِّلْ رأيي فيه اليومَ، ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرُجُ إلينا حتَّى يتعالى النَّهارُ، قال: واللهِ إن كُنتُ لأكرَهُ ذِكْرَه! ليس لأهلي خادِمٌ، فأعجِنُ عجيني ثمَّ أجلِسُ حتَّى يختَمِرَ ثمَّ أخبِزُ خُبزي، ثمَّ أتوضَّأُ ثمَّ أخرُجُ إليهم. فقال: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يجيبُ أحَدًا بليلٍ، قال: ما تقولُ؟ قال: إنْ كُنتُ لأكرَهُ ذِكْرَه! إنِّي جعَلْتُ النَّهارَ لهم، وجعَلْتُ اللَّيلَ للهِ عزَّ وجَلَّ، قال: وما تشكون؟ قالوا: إنَّ له يومًا في الشَّهرِ لا يخرُجُ إلينا فيه، قال: ما تقولُ؟ قال: ليس لي خادِمٌ يَغسِلُ ثيابي، ولا لي ثيابٌ أُبَدِّلُها، فأجلِسُ حتَّى تَجِفَّ، ثمَّ أدلُكُها ثمَّ أخرُجُ إليهم من آخِرِ النَّهارِ. قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يَغنِظُ الغَنظةَ بَيْنَ الأيَّامِ، قال: ما تقولُ: قال: شَهِدتُ مَصرَعَ خُبَيبٍ الأنصاريِّ بمكَّةَ وقد بَضَعَت قرَيشٌ لحمهَ، ثمَّ حملوه على جَذعةٍ، فقالوا: أتحِبُّ أنَّ محمَّدًا مكانَك؟ فقال: واللهِ ما أحِبُّ أنِّي في أهلي وولدي وأنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِيكَ بشوكةٍ! ثمَّ نادى: يا محمَّدُ! فما ذكَرْتُ ذلك اليومَ وتَرْكي نُصرتَه في تلك الحالِ، وأنا مُشرِكٌ لا أؤمِنُ باللهِ العظيمِ، إلَّا ظَنَنتُ أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لا يغفِرُ لي بذلك الذَّنبِ أبدًا! قال: فتُصيبني تلك الغَنظةُ. فقال عُمَرُ: الحمدُ للهِ الذي لم يُفَيِّلْ [3222] أي: يُخطِّئُ ويُضَعِّفُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 535). فِراستي! فبَعَث إليه بألفِ دينارٍ، وقال: استَعِنْ بها على أمرِك، فقالت امرأتُه: الحمدُ للهِ الذي أغنانا عن خِدمتِك، فقال لها: فهل لكِ في خيرٍ مِن ذلك؟ ندفَعُها إلى من يأتينا بها أحوَجَ ما نكونُ إليها! قالت: نعم، فدعا رجلًا من أهلِ بيتِه يَثِقُ به فصَرَّها صُرَرًا، ثمَّ قال: انطَلِقْ بهذه إلى أرمَلةِ آلِ فُلانٍ، وإلى يتيمِ آلِ فلانٍ، وإلى مسكينِ آلِ فلانٍ، وإلى مُبتلى آلِ فُلانٍ، فبَقِيَت منها ذُهَيبةٌ، فقال: أنفِقي هذه، ثمَّ عاد إلى عَمَلِه، فقالت: ألا تشتري لنا خادِمًا! ما فَعَل ذلك المالُ؟! قال: سيأتيكِ أحوَجَ ما تكونينَ!) [3223] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (1/ 245، 246)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (21/ 161، 162). .
حُسنُ ظَنِّ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ:
وفي قصَّةِ الثَّلاثةِ الذين تخلَّفوا عن غزوةِ تَبوكَ، قال كَعبُ بنُ مالكٍ: ((...ولم يذكُرْني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى بَلغَ تَبوكَ، فقال وهو جالسٌ في القَومِ بتَبوكَ: ما فعل كَعبٌ؟! فقال رَجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رَسولَ اللهِ، حَبَسه بُرداه، ونَظَرُه في عِطفِه! فقال معاذُ بنُ جَبَلٍ: بئسَ ما قُلتَ! واللهِ يا رَسولَ اللهِ ما عَلِمْنا عليه إلَّا خَيرًا!)) [3224] أخرجه البخاري (4418) واللفظ له، ومسلم (2769). .

انظر أيضا: