موسوعة التفسير

سورةُ البُرُوجِ
الآيتان (10-11)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

فَتَنُوا: أي: أَحْرَقوا، يُقالُ: فَتنتُ الشَّيءَ: إذا أحرَقْتَه، وأصلُ (فتن): يدُلُّ على ابتلاءٍ واختبارٍ [78] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 522)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 446)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 701). .
الْحَرِيقِ: أي: النَّارِ، وأصلُ (حرق): يدُلُّ على حرارةٍ والْتِهابٍ [79] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/43)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 219)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 408). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى متوَعِّدًا: إنَّ الَّذين ابتَلَوُا المؤمِنينَ والمُؤمِناتِ بإحراقِهم في النَّارِ؛ لِصَدِّهم عن الحَقِّ، ثمَّ لم يَتوبوا ممَّا فَعَلوه بهم: فلَهم عَذابُ جَهنَّمَ، ولهم عَذابُ الحَريقِ.
ثمَّ يُبيِّنُ سُبحانَه ما أعَدَّه للمؤمنينَ، فيقولُ: إنَّ الَّذين آمَنُوا وعَمِلوا بطاعةِ اللهِ تعالى: لهم في الآخِرةِ جَنَّاتٌ تَجري مِن تحتِها الأنهارُ، وذلك هو الفَوزُ الكبيرُ.

تفسير الآيتين:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر سُبحانَه قِصَّةَ أصحابِ الأُخدودِ؛ أتْبَعَها بما يتفَرَّعُ عليها مِن أحكامِ الثَّوابِ والعِقابِ، فقال تعالى [80] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/112). :
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10).
أي: إنَّ الَّذين ابتَلَوُا المؤمِنينَ والمُؤمِناتِ بإحراقِهم في النَّارِ؛ لصَدِّهم عن الحَقِّ، ثمَّ لم يَتوبوا ممَّا فَعَلوه بهم: فلهم عَذابُ جَهنَّمَ، ولهم عذابُ الحَريقِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/280، 281)، ((تفسير القرطبي)) (19/295)، ((تفسير أبي حيان)) (10/445)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/151، 152)، ((تفسير ابن كثير)) (8/271)، ((تفسير السعدي)) (ص: 895)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/245-247). قال ابن عثيمين: (قال العُلماءُ: فَتَنُوا بمعنى: أحرَقوا ... وقيل: فَتَنُوهم أي: صَدُّوهم عن دينِهم. والصَّحيحُ أنَّ الآيةَ شامِلةٌ للمعنيَينِ جميعًا... والقاعدةُ في عِلمِ التَّفسيرِ أنَّه إذا كانت الآيةُ تحتمِلُ معنيَينِ لا مُرَجِّحَ لأحَدِهما عن الآخَرِ، ولا يَتضادَّانِ؛ فإنَّها تُحمَلُ عليهما جميعًا، فنقولُ: هم فتَنوا المؤمنينَ بصَدِّهم عن سبيلِ الله، وفتَنوهم بالإحراقِ أيضًا). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 129). قال الزمخشري: (يجوزُ أن يُريدَ بـ الَّذِينَ فَتَنُوا: أصحابَ الأخدودِ خاصَّةً، وبـ الَّذِينَ آَمَنُوا [البروج: 11] : المَطروحينَ في الأُخْدودِ. ومعنَى فتَنوهم: عذَّبوهم بالنَّارِ وأحرَقوهم... ويجوزُ أن يريدَ: الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ أى: بَلَوْهم بالأذى على العُمومِ، والْمُؤْمِنِينَ: المَفتُونينَ). ((تفسير الزمخشري)) (4/732). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، ومكِّي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابن الجوزي، والرَّسْعَني، والقرطبي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، والشوكاني، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/280)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/308)، ((تفسير السمرقندي)) (3/566)، ((تفسير الثعلبي)) (10/ 174)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8183)، ((الوسيط)) للواحدي (4/461)، ((تفسير السمعاني)) (6/199)، ((تفسير البغوي)) (5/236)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 427)، ((تفسير الرسعني)) (8/574)، ((تفسير القرطبي)) (19/295)، ((تفسير الخازن)) (4/413)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 801)، ((تفسير العليمي)) (7/330)، ((تفسير الشوكاني)) (5/501)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/289)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/325). قال ابن كثير: (وقولُه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ أي: حرَّقوا، قاله ابنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، وابنُ أَبْزَى). ((تفسير ابن كثير)) (8/271). وقال الرازي: (يحتمِلُ أن يكونَ المرادُ منه أصحابَ الأُخدودِ فقط، ويحتملُ أن يكونَ المرادُ كلَّ مَن فعَلَ ذلك، وهذا أَوْلى؛ لأنَّ اللَّفظَ عامٌّ، والحُكمَ عامٌّ، فالتَّخصيصُ تركٌ للظَّاهرِ مِن غيرِ دليلٍ). ((تفسير الرازي)) (31/112). وقال الألوسي: (والمرادُ بالَّذين فتَنوا وبالمؤمنينَ والمؤمناتِ المَفتونينَ، إمَّا أصحابُ الأُخدودِ والمُطرَحونَ فيه خاصَّةً، وإمَّا الأعَمُّ ويَدخُلُ المَذكورونَ دُخولًا أوَّليًّا، وهو الأظهَرُ). ((تفسير الألوسي)) (15/300). وقيل: المرادُ: كفَّارُ قُرَيشٍ، والفِتنةُ بمعنى المِحنةِ والتَّعذيبِ. واستظهَره ابنُ جُزَي، واختاره ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/469)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/245). قال ابن جزي: (لقولِه: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا؛ لأنَّ أصحابَ الأُخدودِ لم يَتوبوا، بل ماتوا على كفرِهم. وأمَّا قُرَيشٌ فمِنهم مَن أسلَمَ وتاب). ((تفسير ابن جزي)) (2/469). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/462). وذهب أكثَرُ المفَسِّرينَ إلى عدَمِ التَّفريقِ بيْن عذابِ جَهنَّمَ وعذابِ الحَريقِ، كما نقله عنهم ابنُ الجَوزيِّ، وجعَلوا كِلا العذابَينِ في جَهنَّمَ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/427). وذهب بَعضُ المفَسِّرين إلى التَّفريقِ بيْن العذابَينِ؛ بأنَّ عذابَ جَهنَّمَ في الآخرةِ، وعذابَ الحَريقِ في الدُّنيا. ومِمَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/281)، ((تفسير القرطبي)) (19/295). قال الواحدي: (قال الرَّبيعُ بنُ أنسٍ: وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ يعني: في الدُّنيا؛ وذلك أنَّ النَّارَ ارتفعَتْ مِن الأُخدودِ إلى المَلِكِ وأصحابِه فأحرَقَتْهم. وهو قولُ الكلبيِّ، وذكره الفَرَّاءُ). ((البسيط)) (23/391). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/253). وقيل: عَذابُ جَهنَّمَ في الآخرةِ، وعذابُ الحَريقِ لهم في الدُّنيا والآخرةِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (21/359). وذهب ابنُ عاشور إلى أنَّه يجوزُ أن يكونَ المرادُ بعذابِ الحَريقِ تعذيبَهم بنارٍ في القَبْرِ قَبلَ الحِسابِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/247). وقال ابنُ جُزَي: (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ يحتمِلُ أن يكونَ في الآخرةِ، فيكونَ تأكيدًا لعذابِ جهنَّمَ، أو نَوعًا مِن العذابِ زيادةً إلى عذابِ جهنَّمَ. ويحتمِلُ أن يريدَ في الدُّنيا، وذلك على روايةِ أنَّ الكفَّارَ أصحابَ الأُخدودِ أحرَقَتْهم النَّارُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/470). .
كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50] .
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر عُقوبةَ الظَّالِمينَ؛ ذكَرَ ثوابَ المؤمِنينَ، فقال تعالى [82] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 919). :
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: إنَّ الَّذين آمَنُوا بكُلِّ ما وَجَب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا بطاعةِ اللهِ تعالى؛ فامتَثَلوا أوامِرَه، واجتَنَبوا نواهِيَه: لهم في الآخِرةِ جَنَّاتٌ تَجري مِن تحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/281)، ((تفسير القرطبي)) (19/295)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 133-136). قال ابنُ جرير: (هم هؤلاء القَومُ الَّذين حَرَّقَهم أصحابُ الأُخدودِ، وغَيرُهم مِن سائرِ أهلِ التَّوحيدِ). ((تفسير ابن جرير)) (24/281). وقال ابنُ عثيمين: (قال العُلَماءُ: مِنْ تَحْتِهَا أي: مِن تحتِ أشجارِها وقُصورِها، وإلَّا فهي على السَّطحِ فَوق، ثمَّ هذه الأنهارُ جاء في الأحاديثِ أنَّها لا تحتاجُ إلى حَفرٍ، ولا تحتاجُ إلى بناءِ أُخدودٍ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 136). .
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ.
أي: ما يَحصُلُ في الآخِرةِ لِمَن آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ مِنَ النَّجاةِ مِنَ النَّارِ ودُخولِ الجنَّةِ: هو الفَوزُ الكبيرُ الَّذي لا يُدانيه فَوزٌ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/281)، ((تفسير القرطبي)) (19/295)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/360، 361). ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 137). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ الإشارةَ إلى ما تقدَّم ذِكرُه ممَّا أعَدَّه اللهُ لهم في الآخرةِ مِن اختِصاصِهم بالجنَّاتِ والأنهارِ، وما أُعْطُوا مِنَ النَّعيمِ: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ، والشوكانيُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/281)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/ 8186)، ((تفسير الشوكاني)) (5/501)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/247)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 137). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (يقولُ: مَن زُحْزِحَ عن النَّارِ، وأُدخِلَ الجنَّةَ؛ فقد نَجَا نَجاءً عظيمًا). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/649). وقال الألوسي: (ذَلِكَ إشارةٌ إلى كَونِ ما ذُكِر لهم، وحِيازَتِهم إيَّاه. وقيل: للجنَّاتِ المَوصوفةِ، والتَّذكيرُ لتأويلِها بـ: ما ذُكِر). ((تفسير الألوسي)) (15/301). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ في هذه الآياتِ مِن العِبَرِ: أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى قد يُسَلِّطُ أعداءَه على أوليائِه، فلا تَسْتَغْرِبْ إذا سَلَّطَ اللهُ عزَّ وجلَّ الكُفَّارَ على المؤمنينَ، وقَتَلُوهم وحَرَّقُوهم، وانتَهَكوا أعراضَهم! لا تَسْتَغْرِبْ؛ فلِلَّهِ تعالى في هذا حِكمةٌ، المُصابُونَ مِن المؤمنينَ أَجْرُهم عندَ اللهِ عظيمٌ، وهؤلاءِ الكُفَّارُ المعتَدُونَ أَمْلَى لهم اللهُ سُبحانَه وتعالى، ويَسْتَدْرِجُهم مِن حيثُ لا يَعلَمونَ، والمُسلِمونَ الباقُونَ لهم عِبْرَةٌ وعِظَةٌ فيما حصَلَ لإخوانِهم [85] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 130). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ أنَّ رحمةَ اللهِ تعالى سَبَقَتْ غَضَبَه؛ ولهذا أولئك الَّذين يُعَذِّبُون أولياءَه ويُحْرِقُونَهم بالنَّارِ يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ فيهم ذلك، وقد عَرَضَ عليهم التَّوبةَ، وكلُّ هذا دليلٌ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُحِبُّ العفوَ أكثرَ مِن العِقابِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 186). ، وفيه دليلٌ على سَعَةِ حِلْمِ اللهِ تعالى، وأنَّ مِن سُنَّتِه سُبحانَه وتعالى أنْ يَعْرِضَ التَّوبةَ على المُذنِبينَ [87] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/336). . قال الحَسَنُ البصريُّ رحمه الله: (انظُروا إلى هذا الكَرَمِ؛ عَذَّبوا أولياءَه وفَتَنوهم، ثمَّ هو يَدْعوهم إلى التَّوبةِ!) [88] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/186). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (8/271). .
3- قِصَّةُ أصحابِ الأُخدودِ -ولا سيَّما هذه الآيةِ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... - تدُلُّ على أنَّ المُكْرَهَ على الكُفرِ بالإهلاكِ العَظيمِ الأَوْلى له أن يَصبِرَ على ما خُوِّفَ منه، وأنَّ إظهارَ كَلِمةِ الكُفرِ كالرُّخصةِ في ذلك [89] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/113). . ورُبَّما لم يكُنْ في شريعتِهم رُخصةٌ.

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ في قَولِه تعالى: وَالْمُؤْمِنَاتِ عَطفُ المُؤمِناتِ للتَّنويهِ بشَأنِهنَّ؛ لئلَّا يُظَنَّ أنَّ هذه المزِيَّةَ خاصَّةٌ بالرِّجالِ، ولزيادةِ تَفظيعِ فِعْلِ الفاتِنينَ بأنَّهم اعتَدَوا على النِّساءِ؛ والشَّأنُ ألَّا يُتعَرَّضَ لهنَّ بالغِلْظةِ [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/246). !
2- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا لَمَّا كانت التَّوبةُ مَقبولةً قبْلَ الغَرغَرةِ ولو طال الزَّمانُ، عَبَّرَ بأداةِ التَّراخي، فقال: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [91] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/359). .
3- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ لَمَّا كان سُبحانَه لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بسَبَبٍ، سَبَّبَ عن ذَنْبِهم وعدَمِ تَوبتِهم قَولَه تعالى: فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [92] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/359). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ أنَّ العقوبةَ بالذُّنوبِ في الآخرةِ في جهنَّمَ تندفعُ بالتَّوبةِ؛ فإنَّ التَّائبَ مِن الذَّنْبِ كمَن لا ذَنْبَ له، والتَّوبةُ مَقبولةٌ مِن جميعِ الذُّنوبِ: الكُفْرِ، والفُسوقِ، والعِصْيانِ [93] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/205). .
5- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا دَلالةٌ على أنَّهم لو تابوا لخَرَجوا عن هذا الوَعيدِ، وذلك يدُلُّ على القَطْعِ بأنَّ اللهَ تعالى يَقبَلُ التَّوبةَ، ويدُلُّ على أنَّ تَوبةَ القاتِلِ عَمْدًا مَقبولةٌ [94] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/113). ، وقد أَجْمَعَ المسلِمونَ أنَّها مِن الكافرِ مَقبولةٌ في جملةِ تَوبتِه مِن الكُفرِ؛ لأنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما كان قَبْلَه [95] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/499). .
6- في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا إشارةٌ إلى أنَّ التَّوبةَ تَهْدِمُ ما قَبْلَها [96] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 131). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ أنَّه لَمَّا كان اللهُ سُبحانَه مِن رحمتِه قد تغَمَّد أولياءَه بعِنايتِه، ولم يَكِلْهم إلى أعمالِهم؛ لم يَجعَلْها سبَبَ سَعادتِهم؛ فلم يَقرِنْ بالفاءِ قَولَه: لَهُمْ [97] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/360). .
8- قَولُه تعالى: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ قيل: إنَّما قال الله تعالى: ذَلِكَ الْفَوْزُ ولم يقُلْ: «تِلْكَ»؛ لدقيقةٍ لطيفةٍ، وهي أنَّ قَولَه: ذَلِكَ إشارةٌ إلى إخبارِ اللهِ تعالى بحُصولِ هذه الجنَّاتِ، وقَولَه: (تلك) إشارةٌ إلى الجنَّاتِ، وإخبارُ الله تعالى عن ذلك يدُلُّ على كَونِه راضيًا، والفوزُ الكَبيرُ هو رِضا اللهِ، لا حُصولُ الجنَّةِ [98] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/113). .

بلاغة الآيتين :

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ كلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ لذِكرِ وَعيدِ المُجرِمين أوَّلًا، ثمَّ يُردِفُه بذِكرِ ما أَعَدَّ للمُؤمِنينَ [99] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/434). .
- قيل: يَجوزُ أنْ يُرادَ بـ الَّذِينَ فَتَنُوا أصحابُ الأُخْدودِ خاصَّةً، وبـ الَّذِينَ آَمَنُوا المُطرَحونَ؛ فيَكونَ تَتميمًا لمُجرَّدِ مَعنى قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، مِن بابِ المُظهَرِ الَّذي وُضِعَ وأُقِيمَ مَوضِعَ المُضمَرِ. وقيل: يجوزُ أنْ يُرادَ: الَّذين فَتَنوا المؤمنينَ -أي: بَلَوْهُم بالأذَى- على العُمومِ، فـ الَّذِينَ فَتَنُوا عامٌّ في كلِّ مَن ابْتَلَى المؤمنِينَ والمؤمناتِ بتَعذيبٍ أو أذًى؛ فمَعنى الآيةِ تَذييلٌ للكَلامِ السَّابقِ، وتَوكيدٌ لمَعنى قولِه: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ [100] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/732)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/375)، ((تفسير أبي حيان)) (10/445). . وقيل: الَّذين فَتَنوا المُؤمِنينَ والمُؤمناتِ هُم مُشرِكو قُرَيشٍ، وليس المُرادُ أصحابَ الأُخْدودِ؛ لأنَّه لا يُلاقي قولَه: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا؛ فقولُه: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فيه تَعريضٌ للمُشرِكين بالتَّرغيبِ في التَّوبةِ، وبأنَّهم إنْ تابوا وآمَنوا سَلِموا مِن عَذابِ جَهنَّمَ [101] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/445)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/245، 246). .
- وإنْ كان قولُه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... جَوابًا للقَسَمِ، كان ما بيْنَ القَسَمِ وما بيْنَ هذا كَلامًا مُعتَرِضًا يُقصَدُ منه التَّوطِئةُ لوَعيدِهم بالعَذابِ والهَلاكِ بذِكرِ ما تُوُعِّدَ به نَظيرُهم، وإنْ كان الجَوابُ في قولِه: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ [البروج: 4] ، كان قولُه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ بمَنزِلةِ الفَذْلَكةِ [102] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/ 293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما أُقسِمَ عليه؛ إذ المَقصودُ بالقَسَمِ وما أُقسِمَ عليه هو تَهديدُ الَّذين فَتَنوا المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ مِن مُشرِكي قُرَيشٍ. وتأْكيدُ الخَبَرِ بـ (إنَّ) للرَّدِّ على المُشرِكين الَّذين يُنكِرون أنْ تَكونَ عليهم تَبِعةٌ مِن فَتْنِ المُؤمِنينَ [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/245). .
- وجُملةُ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مُعتَرِضةٌ، و(ثمَّ) فيها للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ الاستِمرارَ على الكُفرِ أعظَمُ مِن فِتنةِ المُؤمِنينَ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/246). .
- ودُخولُ الفاءِ في خبَرِ (إنَّ) مِن قولِه: فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ؛ لأنَّ اسمَ (إنَّ) وقَعَ مَوصولًا، والموصولُ يُضمَّنُ معْنى الشَّرطِ في الاستعمالِ كثيرًا، فالتَّقديرُ: إنَّ الَّذين فَتَنوا المؤمنينَ ثمَّ إنْ لم يَتوبوا، فلَهُمْ عَذابُ جهنَّمَ؛ لأنَّ عطْفَ قولِه: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مَقصودٌ به معْنى التَّقييدِ، فهو كالشَّرطِ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/246). .
- وجُملةُ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ عَطفٌ في مَعنى التَّوكيدِ اللَّفظيِّ لجُملةِ (لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ)، واقتِرانُها بواوِ العَطفِ للمُبالَغةِ في التَّأكيدِ، بإيهامِ أنَّ مَن يُريدُ زِيادةَ تَهديدِهم بوَعيدٍ آخَرَ، فلا يُوجَدُ أَعظَمُ مِن الوَعيدِ الأوَّلِ، مع ما بيْنَ عَذابِ جَهنَّمَ وعَذابِ الحَريقِ مِن اختِلافٍ في المَدلولِ، وإنْ كان مآلُ المَدْلولَينِ واحِدًا، وهذا ضَرْبٌ مِن المُغايَرةِ يُحسِّنُ عَطْفَ التَّأكيدِ، على أنَّ الزَّجَّ بهم في عَذابِ جَهنَّمَ قبْلَ أنْ يَذوقوا حَريقَها؛ لِما فيه مِن الخِزْيِ والدَّفْعِ بهم في طَريقِهم؛ قال تعالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور: 13]، فحَصَل بذلك اختِلافُ ما بيْنَ الجُملتَينِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/246). ؛ فهُما عذابانِ مُنوَّعانِ على الكُفرِ، وعلى الفِتنةِ. أو هُما واحدٌ وأنَّه مِن عطفِ التَّفسيرِ والتَّوضيحِ. أو مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ للمُبالَغةِ فيه؛ لأنَّ عذابَ جهنَّمَ بالزَّمْهَريرِ والإحراقِ وغيرِهما [107] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/446). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ يَجوزُ أنْ يَكونَ استِئنافًا بَيانيًّا ناشِئًا عن قولِه: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا المُقتَضي أنَّهم إنْ تابوا لم يكُنْ لهم عَذابُ جَهنَّمَ، فيَتَشوَّفُ السَّامِعُ إلى مَعرِفةِ حالِهم؛ أَمَقْصورةٌ على السَّلامةِ مِن عَذابِ جَهنَّمَ، أمْ هي فوقَ ذلك؟ فأُخبِرَ بأنَّ لهم جَنَّاتٍ؛ فإنَّ التَّوبةَ الإيمانُ، فلِذلك جِيءَ بصِلةِ آَمَنُوا دُون (تَابُوا)؛ ليَدُلَّ على أنَّ الإيمانَ والعَملَ الصَّالِحَ هو التَّوبةُ مِن الشِّركِ الباعِثِ على فَتْنِ المُؤمِنينَ، وهذا الاستِئنافُ وقَعَ مُعتَرِضًا. ويَجوزُ أنْ يَكونَ اعتِراضًا بيْنَ جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج: 10] وجُملةِ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] اعتِراضًا بالبِشارةِ في خِلالِ الإنْذارِ؛ لتَرغيبِ المُنذَرينَ في الإيمانِ، ولتَثْبيتِ المُؤمِنينَ على ما يُلاقونَه مِن أَذى المُشرِكينَ، على عادةِ القُرآنِ في إرْدافِ الإرهابِ بالتَّرغيبِ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/247). .
- والتَّأكيدُ بـ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ بالخَبَرِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/247). .
- قولُه: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إشارةٌ إمَّا إلى الجَنَّاتِ المَوصوفةِ، والتَّذكيرُ لتَأويلِها بـ: ما ذُكِرَ؛ للإشْعارِ بأنَّ مَدارَ الحُكمِ عُنوانُها الَّذي يَتنافَسُ فيها المُتنافِسون؛ فإنَّ اسمَ الإشارةِ مُتعرِّضٌ لذاتِ المُشارِ إليه مِن حَيثُ اتِّصافُه بأَوصافِه المَذكورةِ، لا لِذَاتِه فقط، كما هو شأْنُ الضَّميرِ، فإذا أُشيرَ إلى الجَنَّاتِ مِن حَيثُ ذِكرُها فقد اعتُبِر منها عُنوانُها المَذكورُ حَتْمًا. وإمَّا إلى ما يُفيدُه قولُه تعالَى: لَهُمْ جَنَّاتٌ إلخ، مِن حِيازتِهم لها؛ فإنَّ حُصولَها لهم مُستَلزِمٌ لحِيازتِهم لها قَطْعًا، وأيًّا ما كان فما فيه مِن مَعْنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلُوِّ دَرَجتِه، وبُعدِ مَنزِلتِه في الفَضلِ والشَّرفِ، ومَحلُّه الرَّفعُ على الابتِداءِ، خَبَرُه ما بَعْدَه، أي: ذلك المَذكورُ العَظيمُ الشَّأنِ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الَّذي تَصغُرُ عِندَه الدُّنيا وما فيها مِن فُنونِ الرَّغائبِ بحَذافيرِها، فَعلى الأوَّلِ هو مَصدَرٌ أُطلِقَ على المَفعولِ مُبالَغةً، وعلى الثَّاني مَصدَرٌ على حالِه [110] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/138). .