موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيات (5-8)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ

غريب الكلمات:

يُجَادِلُونَكَ: أي: يُنازِعونَك، والجِدالُ: المفاوضةُ على سبيلِ المُنازعةِ والمُغالبةِ، وأصلُه يدلُّ على امتدادِ الخُصومةِ، ومُراجعةِ الكَلامِ [77] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/199)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/433)، ((المفردات)) للراغب (ص: 189). .
وَتَوَدُّونَ: أي: وتتمَنَّونَ، وتُحِبُّون، والودُّ: محبةُ الشيءِ، وتمنِّي كونِه، وأصلُ (ودد): يدلُّ على محبَّةٍ [78] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/40)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 860). .
ذَاتِ الشَّوْكَةِ: أي: ذاتِ الحَدِّ والسِّلاحِ؛ مِن السَّيفِ والسِّنانِ والنِّصالِ، واشتقاقُها مِن الشَّوكِ: وهو النَّبتُ الذي له حِدَّةٌ، وأصلُ (شوك): يدلُّ على خُشونةٍ، وحِدَّةِ طَرَفٍ في الشَّيءِ [79] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 177)، ((تفسير ابن جرير)) (11/47)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/229)، ((المفردات)) للراغب (ص: 470)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 125)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 216). .
يُحِقَّ الْحَقَّ: أي: يُثبِتهُ ويُعلِيه، وأصلُ (الحقِّ) يدلُّ على إحكامِ الشَّيءِ، وصِحَّتِه [80] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 246 - 247)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .
وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ: أي: يجْتَثَّ أصْلَهم، ويستأصِلَهم عن آخِرِهم، وقطْعُ دابرِ الإنسان: هو إفناءُ نوعِه، ودابِرُ القومِ: آخرُهم، وأصلُ (قطع): يدلُّ على إبانةِ شَيءٍ مِن شَيءٍ، وأصلُ (دبر): آخِرُ الشَّيءِ وخَلْفُه [81] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 154)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324) و(5/101)، ((المفردات)) للراغب (ص: 677 - 678)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 217). .

المعنى الإجمالي:

كما وكَلَك اللهُ- يا مُحمَّدُ- بأمرِ قِسمةِ الغَنائِمِ، وقد كَرِه بعضُ أصحابِك كيفيَّةَ قِسمَتِك لها، فكَذلك أخرَجَك مِن بَيتِك؛ لِمُلاقاة مُشركي قُريشٍ، وقد كره ذلك فَريقٌ مِن المُؤمنينَ، يُجادلونك في الحقِّ الذي أراده اللهُ بعدما ظهَرَ وتبَيَّنَ، كأنَّ حالَهم- لِشدَّةِ كُرهِهم للقِتالِ- كمَن يُساقُ إلى المَوِت وهو يَنظُر.
واذكرُوا- أيُّها المؤمنونَ- إذ يعِدُكم اللهُ بأنْ تظفَرُوا بإحدى الفِرقَتينِ؛ إمَّا العِيرِ أو النَّفيرِ، ووَدِدْتُم لو ظَفِرتُم بالعِيرِ؛ إذ هي لا مَنعةَ لها، ولا سِلاحَ، واللهُ يريدُ أنْ يجمَعَكم بالنَّفيِر؛ ليُظفِرَكم بهم، ويُظهِرَ الإسلامَ ويُعلِيَه، بأمْرِه لكم بقتالِهم، ويريدُ سبحانه أن يستأصِلَ الكفَّارَ ويُهلِكَهم، فلا يبقى منهم أحدٌ؛ مِن أجلِ أن يُعِزَّ الإسلامَ ويُظهِرَه، ويُبطِلَ الشِّركَ والكُفرَ، ولو كَرِه المجرمونَ ذلك.

تفسير الآيات:

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان تَرْكُ الدُّنيا شديدًا على النَّفسِ، شرَعَ يذكُرُ لهم ما كانوا له كارِهينَ، ففَعَلَه بهم، وأمَرَهم به- لعِلْمِه بالعواقِبِ- فحَمِدوا أثَرَه؛ ليكونَ أدعَى لتسليمِهم لأمْرِه، وازدجارِهم بزَجرِه، فشَبَّه حالَ كَراهَتِهم لِتَركِ مُرادِهم في الأنفالِ، بحالِ كراهَتِهم لخُروجِهم معه، ثم بحالِ كراهَتِهم لِلِقاءِ الجَيشِ دُونَ العِيرِ، ثمَّ إنَّهم رأَوْا أحسَنَ العاقِبةِ في كِلَا الأمرَينِ [82] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/222-223). .
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5).
أي: كما أنَّ اللهَ تعالى وكَّلَك- يا مُحمَّدُ- بأمْرِ قِسمةِ الغَنائِمِ يومَ بَدرٍ، وجعَلَه حقًّا ثابتًا لك- وكان بعضُ أصحابِك قد كَرِه واعتَرَض على كيفيَّةِ قِسمَتِك لها- فكذلك أخرجك مِن بَيتِك؛ لأخْذِ المالِ مِن عِيرِ كُفَّارِ قُريشٍ، فجاءها نفيرٌ، وكَرِهَ بعضُ أصحابِك مُلاقاتَه؛ فحالُهم في الأنفالِ كحالِهم في كراهةِ القِتالِ يومَ بَدرٍ، فامضِ لأمرِ اللهِ في الغنائِمِ، كما مَضَيتَ لأمْرِه في الخُروجِ وهم له كارِهونَ، وكلاهما حَقٌّ وخيرٌ مِن عندِ الله تبارك وتعالى [83] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (2/399)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 431)، ((تفسير ابن كثير)) (4/14)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/483). وهذا المعنى هو في الجملة ِاختيارُ الزَّجَّاج، والواحدي، والشِّنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وفي الآيةِ أقوالٌ أخرى كثيرة. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/559-563). قال الشِّنقيطي: (فالذي كَرِهوه مِن قَسْمِ غَنائِمِ بدرٍ، هو الذي لهم فيه مصلحةُ الدُّنيا والآخرةِ، والذي كَرِهوه من خروجِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بهم، الذي آلَ إلى قتالِ جَيشِ قُريشٍ؛ كرهوه وهو أيضًا خيرٌ لهم في دينِهم ودنياهم، فاللهُ تبارك وتعالى كأنَّه أشار بالتَّشبيهِ على هذا القَولِ إلى أنَّه أعلَمُ بمَصالِحِهم مِن خَلقِه، وأنَّ خَلقَه يكرهونَ شيئًا، والمصلحةُ لهم فيما يختارُه لهم ربُّهم؛ كما قال جلَّ وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 216] هذا أقرَبُ الأقوالِ، وكثيرٌ مِن الأقوالِ ساقِطٌ سقوطًا بيِّنًا، وهذا أقرَبُها، واختاره غيرُ واحدٍ). ((العذب النمير)) (4/483). .
كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6).
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ.
أي: إنَّ المُؤمنينَ الذين كَرِهوا لقاءَ كُفَّارِ قُريشٍ يَومَ بَدرٍ، يجادلونك- يا محمَّدُ- في الحقِّ الذي أرادَه اللهُ تعالى ورَضِيَه لنُصرةِ دِينِه، وإعلاءِ كلِمَتِه، مِن بَعدِ ما وضَحَ وظَهرَ، فخُروجُك خروجُ حَقٍّ مصحوبٌ بالوَعدِ مِن اللهِ بالنَّصرِ والظَّفَر؛ إمَّا بالعِيرِ وإمَّا بالنَّفيرِ، ومع هذا قالوا: لم نعلَمْ أنَّنا سنلقَى العدُوَّ فنتهيَّأَ لقتالِهم، ونأخُذَ أُهْبةَ الحَربِ، وإنَّما خرَجْنا طلبًا للغَنائمِ مِن عِيرِ قُريشٍ دون حَربٍ نَخوضُ غِمارَها، فلو يُرخَّصُ لنا في تَركِ القِتالِ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/38)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 431)، ((تفسير ابن كثير)) (4/16)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/487). قال السَّعدي: (هذا، وكثيرٌ مِن المُؤمنين لم يَجْرِ منهم من هذه المجادلةِ شَيءٌ، ولا كَرِهوا لقاءَ عَدُوِّهم، وكذلك الذين عاتَبَهم الله، انقادوا للجهادِ أشَدَّ الانقيادِ، وثبَّتَهم الله، وقيَّضَ لهم من الأسبابِ ما تطمئِنُّ به قلوبُهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 316). وقال الشنقيطي: (... الصَّحابةُ تباينَتْ مواقِفُهم؛ فما كَرِهوا كلُّهم هذا الخروجَ، بل بعضُهم رَغِبَ فيه وحبَّذَه، وصرَّحَ بالإعانةِ عليه). ((العذب النمير)) (4/488). .
كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ.
أي: هؤلاءِ الذينَ يُجادِلونَك- يا محمَّدُ- في لِقاءِ العَدُوِّ، كأنَّ حالَهم- لشِدَّةِ كَراهَتِهم للقتالِ إذا دُعُوا إليه- كحالِ من يُقدَّمُ إلى الموتِ، وهو يراه عِيانًا [85] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/39)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/445)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/268)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/488-489). .
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7).
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ.
واذكُرُوا- أيُّها المُؤمِنونَ- حين أوحَى اللهُ إلى رسولِه يعِدُه الظَّفَرَ بغنيمةِ إحدى الفِرقَتينِ؛ إمَّا العيرِ أو النَّفيرِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/40)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/445)، ((تفسير ابن كثير)) (4/15)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316). قال الشِّنقيطي: (المرادُ بالطَّائِفَتينِ هنا -كما أطبَقَ عليه عامَّةُ المُفَسِّرين- هما العِيرُ والنَّفيرُ؛ العِير: الإبِلُ تَحمِلُ المتاعَ، والنَّفيرُ: الجيشُ في سِلاحِه وعَدَدِه وعُدَدِه). ((العذب النمير)) (4/489). .
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ.
أي: وتُحِبُّونَ أن تكونَ لكم الطَّائفةُ الأُخرى التي ليسَتْ لها مَنعةٌ، ولا معها سِلاحٌ، فلا يُمكِنُها أن تُحارِبَ وتقاتِلَ، وهي العِيرُ [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/40)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/445)، ((تفسير ابن كثير)) (4/16)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/524-525). .
وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ.
أي: ويُريدُ اللهُ تعالى أن يجمَعَ بينَكم وبينَ الطَّائفةِ الأُخرَى ذاتِ الشَّوكةِ؛ ليُظفِرَكم بهم، فيُظهِرَ دينَ الإسلامِ، ويُعلِيَه على الأديانِ كلِّها، وذلك بأمْرِه لكم- أيُّها المؤمنونَ- بقِتالِ تلك الطَّائفةِ مِن كُفَّارِ قُريشٍ [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/49)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/445)، ((تفسير ابن كثير)) (4/16-17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316) ، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/525). اختار ابنُ جريرٍ أنَّ قَولَه تعالى: بِكَلِمَاتِهِ هنا، يعني: أمْرَه للمؤمنينَ بقِتالِ الكُفَّارِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/49). واختار الواحديُّ أنَّ المرادَ بها: كَلِماتُ الآياتِ التي وعدَ فيها المؤمنينَ بالنَّصرِ يومَ بَدرٍ. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (2/445). ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/525-527). .
وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ.
أي: ويريدُ أن يستأصِلَ الكُفَّارَ [89] قال الواحدي: (يعني: كفَّارَ العَرَبِ). ((التفسير الوسيط)) (2/445). ، ويُهلِكَهم عن آخِرِهم، فلا يبقَى منهم أحدٌ [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/49)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 316)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/527-528). .
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8).
أي: ويريدُ اللهُ تعالى قَطعَ دابِرِ الكافِرينَ؛ مِن أجلِ أن يُعِزَّ الإسلامَ، ويُظهِرَه ويُعليَ شَأنَه، ويُبطِلَ عبادةَ غيرِ الله، فيزول الشركُ، ولا تبقَى إلَّا عبادةُ اللهِ تعالى وَحدَه، ولو كَرِه ذلك المُشركونَ الذين أجرَموا، فاكتَسَبوا المآثِمَ والأوزارَ، التي يستحقُّونَ عليها العقابَ، وحُلولَ العَذابِ [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/50)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/445)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/528-529). .

الفوائد التربوية:

الجِدالُ مَحلُّه وفائِدتُه عند اشتباهِ الحَقِّ، والْتباسِ الأمرِ، فأمَّا إذا وضحَ الحَقُّ وبان، فليس إلَّا الانقيادُ والإذعان؛ قال الله تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [92] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 315). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ اللهِ تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أضاف تعالى ذلك الخروجَ إلى نفسِه، وهذا يدلُّ على أنَّ فِعلَ العَبدِ بخَلقِ اللهِ تعالى [93] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/457). .
2- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ عبَّرَ بقولِه فَرِيقًا؛ لأنَّ آراءَهم كانت تؤولُ إلى الفُرقةِ [94] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/223). .
3- قولُ اللهِ تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ يؤخَذُ منه حُكمُ مؤاخَذةِ المُجتَهدِ، إذا قصَّر في فَهمِ ما هو مدلولٌ لأهلِ النَّظَرِ [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/267). .
4- قوله: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ فيه بنَى الفعلَ للمفعولِ؛ لأنَّ المكروهَ إليهم السوقُ، لا كونُه مِن معينٍ، أي: يسوقُهم سائقٌ لا قدرةَ لهم على ممانعتِه [96] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/224). .
5- لا يصُدُّ مرادَ اللهِ تعالى ما للمُعاندين مِن قُوَّةٍ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/273). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ
- فيه تشبيهُ حالٍ بحالٍ، وهو متَّصِلٌ بما قبلَه: إمَّا بتَقديرِ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، هو اسمُ إشارةٍ لِمَا ذُكِرَ قبلَه، تقديره: هذا الحالُ كحالِ ما أخرَجَك ربُّك مِن بَيتِك بالحَقِّ، ووجهُ الشَّبَه: هو كراهِيةُ المُؤمنينَ في بادئِ الأمرِ لِمَا هو خيرٌ لهم في الواقِعِ، وإمَّا بتَقديرِ مَصدرٍ لفِعلِ الاستقرارِ الذي يقتَضيه الخَبرُ بالمَجرورِ في قَولِه الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ؛ إذ التَّقديرُ: استقَرَّت للهِ والرَّسولِ استقرارًا، كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ، أي: فيما يَلوحُ إلى الكَراهِيةِ والامتعاضِ في بادئِ الأمرِ، ثم نَوالِهم النَّصرَ والغَنيمةَ في نهايةِ الأمرِ، فالتَّشبيهُ تَمثيليٌّ، وليس مُراعًى فيه تشبيهُ بعضِ أجزاءِ الهَيئةِ المُشَبَّهةِ ببعضِ أجزاءِ الهَيئةِ المُشبَّهِ بها، أي: أنَّ ما كَرِهتُموه مِن قِسمةِ الأنفالِ على خلافِ مُشتَهاكم، سيكونُ فيه خيرٌ عَظيمٌ لكم، حسَبَ عادةِ اللهِ تعالى بهم في أمْرِه ونَهْيِه [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/263-264) . .
- قولُه: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ تأكيدُ خَبرِ كراهيةِ فَريقٍ مِن المؤمنينَ بـ (إنَّ) و(لامِ الابتداءِ) مستعملٌ في التَّعجيبِ مِن شَأنِهم بتنزيلِ السَّامِعَ غيرِ المُنكِر لوقوعِ الخَبرِ، منزلةَ المُنكِر [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/266). .
2- قَولُه تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
- صيغةُ المُضارِعِ يُجَادِلُونَكَ لحكايةِ حالِ المُجادلةِ؛ زيادةً في التعجيبِ منها [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/267). .
- وقولُه: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لومٌ لهم على المُجادلةِ في الخُروجِ الخاصِّ، وهو الخروجُ للنَّفيرِ، وتَركُ العيرِ؛ لأنَّ مَن جادلَ في شيءٍ لم يتَّضِحْ كان أخفَّ عَتْبًا، أمَّا مَن نازع في أمرٍ واضحٍ فهو جديرٌ باللَّومِ والإنكارِ [101] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/276)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/267). .
- قوله: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ شبَّه حالَهم في فَرْطِ فَزَعِهم، وهم يُسارُ بهم إلى الظَّفَر والغنيمةِ، بحالِ مَن يُساقُ على الصَّغارِ إلى الموتِ، وهو مُشاهِدٌ لأسبابِه، ناظِرٌ إليها، لا يشكُّ فيها [102] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/199). .
3- قَولُه تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ
- قوله: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ خطابٌ للمُؤمِنينَ بِطَريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ [103] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/6). .
- وفيه تذكيرُ الوَقتِ- إذ التَّقديرُ: اذكُروا وقتَ وعدِ اللهِ إيَّاكم إحدى الطَّائِفَتينِ- مع أنَّ المقصودَ تَذكيرُ ما فيه مِن الحوادِثِ؛ لِما فيها من المبالغةِ في إيجابِ ذِكرِها، ولأنَّ إيجابَ ذِكرِ الوقتِ، إيجابٌ لِذِكرِ ما وقع فيه بالطَّريقِ البُرهانيِّ [104] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/6). والطريق البرهاني: هو قياسٌ استثنائيٌّ استُدِلَّ فيه بنفيِ اللازمِ، البيِّنِ انتفاؤُه، على نفيِ الملزومِ، كما يُقالُ: هل زيدٌ في البلدِ؟ فتقولُ: لا؛ إذ لو كان فيها لحضَرَ مجلسَنا، فيستدلُّ بعدمِ الحضورِ على عدمِ كونِه في البلدِ. أو: هو ما يلزمُ مِن نفْيِ مِثلِ مِثلِه نفيُ مثلِه. يُنظر: ((حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع)) (1/452)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/23)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (7/451).
وصيغةُ المُضارعِ يَعِدُكُمُ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ؛ لاستحضارِ صُورتِها [105] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/6-7). .
- وقولُه تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ آكَدُ في الوَعدِ مِن مِثلِ: (وإذ يعِدُكم اللهُ أنَّ إحدى الطَّائفتينِ لكم)؛ لأن هذا إثباتٌ بعد إثباتٍ: إثباتٌ للشَّيءِ في نَفسِه، وإثباتٌ له في بَدَلِه؛ لأنَّ أَنَّهَا لَكُمْ في تأويلِ مَصدَرٍ؛ بدلُ اشتمالٍ مِن إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ [106] يُنظر: ((تفسير المنار)) (9/499-500). .
- قولُ اللهِ تعالى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ عبَّرَ بهذا التَّعبيرِ؛ للتَّعريضِ بكراهَتِهم للقتالِ، وطَمَعِهم في المالِ [107] يُنظر: ((تفسير المنار)) (9/500). .
- قولُه: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ بِكَلِمَاتِهِ جمعٌ مُعَرَّفٌ بالإضافةِ، وهو يُفيدُ العُمومَ، والباءُ فيها للسَّببيَّةِ، وذِكرُ هذا القَيدِ للتَّنويهِ بإحقاقِ هذا الحَقِّ، وبيانِ أنَّه ممَّا أراده اللهُ ويَسَّرَه وبيَّنَه للنَّاسِ من الأمرِ؛ ليقومَ كُلُّ فَريقٍ مِن المأمورينَ بما هو حَظُّه مِن بَعضِ تلك الأوامِرِ، وللتَّنبيهِ على أنَّ ذلك واقِعٌ لا محالةَ؛ لأنَّ كَلِماتِ اللهِ لا تتخَلَّفُ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/270-271). .
4- قوله: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
- جملةٌ مُستأنفةٌ سِيقَت لِبَيانِ الحِكمةِ الدَّاعيةِ إلى اختيارِ ذاتِ الشَّوكةِ، ونَصْرِهم عليها مع إرادَتِهم لِغَيرِها [109] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/7). .
- وقَولُه لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلِّقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: لِيُحِقَّ الحقَّ، ويُبطِلَ الباطِلَ فعَلَ ذلك، ما فعَلَه إلَّا لهما، وليس هذا تكريرًا لِقَولِه في الآيةِ السَّابِقةِ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ؛ لأنَّ المَعنَيينِ مُتباينانِ، وذلك أنَّ الأوَّلَ تمييزٌ بين الإرادَتينِ، وهذا بيانٌ لِحكمتِه فيما فعَلَ مِن اختيارِ ذاتِ الشَّوكةِ على غيرِها لهم، ونُصرَتِهم عليها، وأنَّه ما نصرَهم ولا خذَلَ أولئك إلَّا لهذا الغَرضِ الذي هو سيِّدُ الأغراضِ، ويجِبُ أن يقدَّرَ المحذوفُ مُتأخِّرًا حتَّى يُفيدَ معنى الاختصاصِ [110] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/200). .
وقيل: أُريدَ بالأوَّلِ: ما وعدَ اللهُ به في هذه الواقعةِ؛ مِن النَّصرِ والظَّفَر بالأعداءِ، بقرينةِ قَولِه عَقِبَه: وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. وبالثَّاني: تقويةُ الدِّينِ، ونُصرةُ الشَّريعةِ، بقرينةِ قَولِه عَقِبَه: وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ [111] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 216). .