موسوعة التفسير

سُورةُ الفَتْحِ
الآيتان (27-28)

ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الرُّؤْيَا: ما يُرى في المنامِ، وأصلُ (رأى): يدُلُّ على نَظَرٍ وإبصارٍ [426] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/472)، ((المفردات)) للراغب (ص: 375). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مُؤكِّدًا صِدقَ ما شاهَده النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في رُؤياه: لَقد صَدَقَ اللهُ رَسولَه مُحمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الرُّؤيا الَّتي رآها في مَنامِه؛ أنَّه يَدخُلُ هو وأصحابُه المَسجِدَ الحَرامَ آمِنينَ، فلَتَدخُلَنَّ -يا مُحمَّدُ- وأصحابُك المَسجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللهُ آمِنينَ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ، مُحَلِّقينَ رُؤوسَكم ومُقَصِّرينَ، لا تَخافونَ.
فعَلِمَ اللهُ ما لم تَعلَموه مِنَ المصالحِ والمَنافِعِ في مَنْعِكم مِن دُخولِ مَكَّةَ عامَ الحُدَيبيَةِ، وتأخيرِ دُخولِكم إلى العامِ الَّذي يَليه، فجعَل اللهُ لكم فَتحًا قَريبًا، وهو صُلحُ الحُدَيبيَةِ.
ثمَّ يقولُ تعالى مبيِّنًا الحِكمةَ مِن إرسالِه نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم: واللهُ هو الَّذي بَعَث رَسولَه مُحمَّدًا بالعِلمِ النَّافِعِ، وبَعَثه بدينِ الإسلامِ الحَقِّ؛ لِيُعلِيَ اللهُ الإسلامَ على جَميعِ الأديانِ الأُخرى، وكفَى باللهِ شَهيدًا.

تَفسيرُ الآيتَينِ:

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قَرَّر اللهُ سُبحانَه وتعالى عِلْمَه بالعواقِبِ؛ لإحاطةِ عِلْمِه، ووَجَّهَ أسبابَ كَفِّه أيديَ الفَريقَينِ، وبَيَّنَ ما فيه مِنَ المصالِحِ، وما في التَّسليطِ مِن المفاسِدِ؛ مِن قَتلِ مَن حَكَم بإيمانِه مِن المُشرِكينَ، وإصابةِ مَن لا يُعلَمُ مِن المُؤمِنينَ، وغيرِ ذلك، إلى أنْ خَتَم بإحاطةِ عِلْمِه المُستَلزِمِ لِشُمولِ قُدرتِه- أنتَجَ ذلك قَولَه لِمَن توقَّعَ الإخبارَ عن الرُّؤيا الَّتي أقلَقَهم أمْرُها، وكاد بَعضُهم أن يُزلزِلَه ذِكْرُها، على سَبيلِ التَّأكيدِ [427] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/332، 333). :
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ.
أي: لقد حقَّق اللهُ رُؤيا رَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الَّتي رآها في مَنامِه؛ أنَّه يَدخُلُ هو وأصحابُه المَسجِدَ الحَرامَ آمِنينَ [428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/315)، ((تفسير السمرقندي)) (3/320)، ((تفسير ابن كثير)) (7/356)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795). قال ابن عاشور: (معنى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا: أنَّه أراهُ رُؤيا صادقةً؛ لأنَّ رُؤيا الأنبياءِ وحْيٌ، فآلَت إلى مَعنى الخبَرِ؛ فوُصِفَت بالصِّدقِ لذلك، وهذا تَطمينٌ لهم بأنَّ ذلك سيَكونُ لا مَحالةَ، وهو في حينِ نُزولِ الآيةِ لَمَّا يَحصُلْ؛ بقَرينةِ قولِه: إِنْ شَاءَ اللَّهُ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/198). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/139، 140). .
عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ، ومَرْوانِ بنِ الحَكَمِ في قِصَّةِ صُلحِ الحُدَيبِيَةِ، قالا: ((... قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: فأتَيتُ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: ألَسْتَ نبَيَّ اللهِ حَقًّا؟ قال: بلى. قلتُ: ألَسْنا على الحَقِّ، وعَدُوُّنا على الباطِلِ؟ قال: بلى. قلتُ: فلِمَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في دِينِنا إذًا؟! قال: إنِّي رَسولُ اللهِ، ولَستُ أعصِيه، وهو ناصِري. قلتُ: أوَلَيس كنتَ تُحَدِّثُنا أنَّا سنَأتي البَيتَ فنَطُوفُ به؟! قال: بلى. فأخبَرْتُك أنَّا نأتيه العامَ؟ قال: قُلتُ: لا. قال: فإنَّك آتِيهِ ومُطَّوِّفٌ به. قال: فأتَيتُ أبا بَكرٍ، فقُلتُ: يا أبا بَكرٍ، أليسَ هذا نَبيَّ اللهِ حَقًّا؟ قال: بلى. قُلتُ: ألَسْنا على الحَقِّ وعَدُوُّنا على الباطِلِ؟ قال: بلى. قُلتُ: فلِمَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في دينِنا إذًا؟! قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليس يَعصي رَبَّه، وهو ناصِرُه. فاستَمْسِكْ بغَرْزِه [429] المعنى: تمسَّكْ بأمْرِه ولا تُخالِفْه، كما يتمسَّكُ المرءُ بالغَرْزِ أي: برِكابِ الرَّاكبِ (وهو ما يضعُ فيه قدمَه)، فلا يُفارِقُه، بلْ يَسيرُ بسَيرِه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/57)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/359)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/346)، ((إرشاد الساري)) للقَسْطلَّاني (4/450). ؛ فواللهِ إنَّه على الحَقِّ. قلتُ: أليس كان يُحَدِّثُنا أنَّا سنأتي البَيتَ ونَطُوفُ به؟! قال: بلى. أفأخبَرَك أنَّك تأتيه العامَ؟! قُلتُ: لا. قال: فإنَّك آتِيه ومُطَّوِّفٌ به )) [430] رواه البخاري (2731). .
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ.
أي: أُقسِمُ لَتَدخُلُنَّ [431] قال الرازي: (وقولُه: لَتَدْخُلُنَّ، جازَ أنْ يَكونَ تفسيرًا لِلرُّؤْيا، يعني الرُّؤْيا هي: واللهِ لَتُدْخُلُنَّ، وعلى هذا تَبَيَّن أنَّ قولَه: صَدَقَ اللَّهُ كان في الكلامِ؛ لأنَّ الرُّؤْيا كانت كلامًا. ويحتملُ أنْ يكونَ تَحْقيقًا لقولِه تعالَى: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ يعني: واللَّهِ لَيَقَعَنَّ الدُّخولُ، ولَيَظهرَنَّ الصِّدقُ؛ فـ لَتَدْخُلُنَّ ابتِداءُ كلامٍ). ((تفسير الرازي)) (28/86). المَسجِدَ الحَرامَ إنْ شاءَ اللهُ وأنتم آمِنونَ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ [432] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/315)، ((تفسير ابن عطية)) (5/139)، ((تفسير القرطبي)) (16/290)، ((تفسير ابن كثير)) (7/356)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795). قال السمعاني: (هذا التَّحقيقُ [أي: للرؤيا] حَصَل في العامِ الثَّاني حينَ اعتَمَروا عُمرةَ القَضاءِ). ((تفسير السمعاني)) (5/207). وقال ابن كثير: (... لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هذا لِتَحقيقِ الخبَرِ وتَوكيدِه، وليس هذا مِنَ الاستِثناءِ في شَيءٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/356). وقال ابن تيميَّة: (قولُه: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا يُتَصَوَّرُ فيه شَكٌّ مِن اللهِ؛ بل ولا مِن رَسولِه المخاطَبِ والمؤمنينَ... فقولُه سبحانَه: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تحقيقُ أنَّ ما وَعَدْتُكم به يكونُ لا مَحالةَ بمَشيئَتي وإرادَتي؛ فإنَّ ما شِئْتُ كانَ، وما لم أشأْ لم يَكُنْ؛ فكانَ الاستثناءُ هنا لِقَصدِ التَّحقيقِ؛ لِكَونِهم لم يَحْصُلْ لهم مَطْلوبُهم الَّذي وُعِدوا به ذلك العامَ). ((مجموع الفتاوى)) (7/454، 457). وفي قولِه تعالى: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أقوالٌ أخرى، سيأتي ذِكرُها في الفوائدِ العلميَّةِ واللَّطائفِ (ص: 162). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/137). .
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرَجَ مُعتَمِرًا، فحالَ كُفَّارُ قُرَيشٍ بَيْنَه وبيْنَ البَيتِ، فنَحَر هَدْيَه، وحَلَقَ رَأسَه بالحُدَيبِيَةِ، وقاضاهم [433] قاضاهم: أي: صالَحهم. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلَّاني (6/381). على أن يَعتَمِرَ العامَ المُقبِلَ، ولا يَحمِلَ سِلاحًا عليهم إلَّا سُيوفًا، ولا يُقيمَ بها إلَّا ما أحَبُّوا، فاعتَمَر مِنَ العامِ المُقبِلِ، فدخَلَها كما كان صالَحَهم، فلمَّا أقام بها ثلاثًا أمَرُوه أن يَخرُجَ، فخَرَج )) [434] رواه البخاري (2701). .
مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ.
أي: وبَعضُكم سيَحلِقُ شَعرَ رأسِه، وبَعضُكم سيُقَصِّرُه [435] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/315)، ((الوسيط)) للواحدي (4/145)، ((تفسير ابن كثير)) (7/356)، ((تفسير الشوكاني)) (5/65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795). قال القرطبي: (التَّحليقُ والتَّقصيرُ جَميعًا للرِّجالِ؛ ولذلك غَلَّب المذكَّرَ على المُؤَنَّثِ، والحَلقُ أفضَلُ، وليس للنِّساءِ إلَّا التَّقصيرُ). ((تفسير القرطبي)) (16/291). وقال ابنُ كثير: (قَولُه: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ حالٌ مُقَدَّرةٌ؛ لأنَّهم في حالِ دُخولِهم لم يَكونوا مُحَلِّقينَ ومُقَصِّرينَ، وإنَّما كان هذا في ثاني الحالِ، كان مِنهم مَن حَلَق رأسَه، ومِنهم مَن قَصَّرَه). ((تفسير ابن كثير)) (7/356). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((حَلَق رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَلَق طائِفةٌ مِن أصحابِه، وقصَّرَ بَعْضُهم. قال عبدُ اللهِ: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: رَحِمَ اللهُ المحَلِّقينَ -مرَّةً أو مرَّتَينِ- ثمَّ قال: والمُقَصِّرينَ)) [436] رواه البخاريُّ (1727)، ومسلمٌ (1301) واللَّفظُ له. .
لَا تَخَافُونَ.
أي: ولا يَحصُلُ لكم خَوفٌ [437] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/315)، ((تفسير القرطبي)) (16/291)، ((تفسير ابن كثير)) (7/356)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795). قال ابنُ كثير: (قَولُه: لَا تَخَافُونَ: حالٌ مُؤَكِّدةٌ في المعنى، فأثبَتَ لهم الأمْنَ حالَ الدُّخولِ، ونفَى عنهم الخَوفَ حالَ استِقرارِهم في البَلَدِ؛ لا يَخافونَ مِن أحَدٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/ 356). .
فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا.
أي: فعَلِمَ اللهُ ما لم تَعلَموه أنتم -أيُّها المُؤمِنونَ- مِنَ المصالحِ والمَنافِعِ في مَنْعِكم مِن دُخولِ مَكَّةَ عامَ الحُدَيبيَةِ، وتأخيرِ دُخولِكم إلى العامِ الَّذي يَليه [438] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/317)، ((تفسير ابن عطية)) (5/140)، ((تفسير القرطبي)) (16/291)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 34)، ((تفسير ابن كثير)) (7/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795). قال ابن عطية: (قَولُه: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا يُريدُ ما قدَّره مِن ظُهورِ الإسلامِ في تلك المُدَّةِ، ودُخولِ النَّاسِ فيه، وما كان أيضًا بمكَّةَ مِن المؤمِنينَ؛ دَفَع اللهُ بهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/140). .
فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا.
أي: فقدَّر اللهُ لكم قبْلَ دُخولِكم المَسجِدَ الحَرامَ في العامِ التَّالي فَتحًا قَريبًا، وهو صُلحُ الحُدَيبيَةِ [439] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/319)، ((الوسيط)) للواحدي (4/145)، ((تفسير ابن عطية)) (5/140)، ((تفسير القرطبي)) (16/291)، ((تفسير ابن كثير)) (7/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/200، 201). قال القرطبي: (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا أي: مِن دُونِ رُؤيا النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَتحَ خَيبَرَ. قاله ابنُ زَيدٍ، والضَّحَّاكُ. وقيل: فَتحُ مَكَّةَ. وقال مجاهِدٌ: هو صُلحُ الحُدَيبيَةِ. وقاله أكثَرُ المفَسِّرينَ). ((تفسير القرطبي)) (16/291). وممَّن قال بأنَّه فَتحُ خَيبَرَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، ومكِّي، والسمعاني، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، وجلال الدين المحلي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/77)، ((تفسير السمرقندي)) (3/320)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/258)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6973)، ((تفسير السمعاني)) (5/207)، ((تفسير الزمخشري)) (4/346)، ((تفسير البيضاوي)) (5/131)، ((تفسير النسفي)) (3/344)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 683)، ((تفسير أبي السعود)) (8/113). ومِمَّن قال بأنَّه صُلحُ الحُدَيبيَةِ: الواحديُّ، وابنُ جُزَي، وابن القيِّم، وابن كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1013)، ((تفسير ابن جزي)) (2/292)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/369)، ((تفسير ابن كثير)) (7/360)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/390) و (9/137). ونسَبَه البغويُّ، والخازنُ، والشوكانيُّ للأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/244)، ((تفسير الخازن)) (4/171)، ((تفسير الشوكاني)) (5/65). وقيل: المرادُ: فتحُ خَيبَرَ، وصُلحُ الحُدَيبيَةِ. ومِمَّن ذهب إلى الجَمعِ بيْنَهما: ابنُ جرير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/319)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/335). وذهبَ ابنُ عَطيَّةَ إلى العُمومِ، فقال: (يَحسُنُ أن يكونَ الفَتحُ هنا اسمَ جِنسٍ يَعُمُّ كُلَّ ما وَقَع مِمَّا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه ظهورٌ وفَتحٌ عليه). ((تفسير ابن عطية)) (5/140). وقال ابنُ عاشور: (هذا الفَتحُ أوَّلُه هو فَتحُ خَيبَرَ الَّذي وَقَع قبْلَ عُمرةِ القَضيَّةِ، وهذا القَريبُ مِن وَقتِ الصُّلحِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/201). وقال ابن القيِّم: (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا وهو صُلحُ الحُدَيبيَةِ، وهو أوَّلُ الفَتحِ المذكورِ في قَولِه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1]؛ فإنَّ بسَبَبِه حَصَل مِن مَصالحِ الدِّينِ والدُّنيا، والنَّصرِ، وظُهورِ الإسلامِ وبُطلانِ الكُفرِ- ما لم يَكونوا يَرجُونَه قبْلَ ذلك، ودخَلَ النَّاسُ بَعضُهم في بَعضٍ، وتكَلَّم المسلمونَ بكَلِمةِ الإسلامِ وبراهينِه وأدِلَّتِه جَهرةً لا يخافون، ودخَلَ في ذلك الوَقتِ في الإسلامِ قَريبٌ مِمَّن دخل فيه إلى ذلك الوَقتِ، وظهر لكُلِّ أحدٍ بَغيُ المُشرِكينَ وعَداوتُهم وعِنادُهم، وعَلِمَ الخاصُّ والعامُّ أنَّ مُحمَّدًا وأصحابَه أَولى بالحَقِّ والهدى، وأنَّ أعداءَهم ليس بأيديهم إلَّا العُدوانُ والعِنادُ؛ فإنَّ البَيتَ الحرامَ لم يُصَدَّ عنه حاجٌّ ولا مُعتَمِرٌ مِن زَمَنِ إبراهيمَ؛ فتحَقَّقَت العرَبُ عِنادَ قُرَيشٍ وعَداوتَهم، وكان ذلك داعِيةً لِبَشَرٍ كَثيرٍ إلى الإسلامِ، وزاد عِنادُ القَومِ وطُغيانُهم، وذلك مِن أكبرِ العَونِ على نُفوسِهم، وزاد صَبرُ المُؤمِنين واحتِمالُهم والتِزامُهم لحُكمِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه، وذلك مِن أعظَمِ أسبابِ نَصْرِهم، إلى غيرِ ذلك مِن الأُمورِ اَّلتي عَلِمَها اللهُ ولم يَعْلَمْها الصَّحابةُ). ((شفاء العليل)) (ص: 34). .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ فيها تأكيدًا لِصِدقِ رُؤْيا النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَبشيرًا بفَتحِ مكَّةَ [440] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/500). .
وأيضًا لَمَّا كانت هذه الواقعةُ -أي: رُجوعُهم يَومَ الحُدَيْبِيَةِ مِن غَيرِ دُخولٍ لِمَكَّةَ- ممَّا تَشَوَّشَتْ بها قلوبُ بعضِ المؤمِنينَ، وخَفِيَتْ عليهم حِكمتُها، فبيَّن اللهُ تعالى حِكمتَها ومَنفعتَها، وهكذا سائرُ أحكامِه الشَّرعيَّةِ؛ فإنَّها كلَّها هُدًى ورحمةٌ- أَخبَرَ بحُكمٍ عامٍّ، فقال [441] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 795). :
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.
أي: اللهُ هو الَّذي بَعَث رَسولَه مُحمَّدًا بالعِلمِ النَّافِعِ المُشتَمِلِ على بَيانِ الحَقِّ، وبَعَثه بدِينِ الإسلامِ المُشتَمِلِ على الأعمالِ الصَّالحةِ، وشرائِعِ الدِّينِ الكامِلةِ [442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/320)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 134)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/106)، ((تفسير ابن كثير)) (7/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/201). .
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
أي: أرسَلَ اللهُ رَسولَه بالهُدى ودِينِ الحَقِّ؛ لِيُعلِيَ اللهُ الإسلامَ على جَميعِ الأديانِ الأُخرى [443] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/320)، ((تفسير الزمخشري)) (4/346)، ((تفسير القرطبي)) (16/291)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/239) و(6/361)، ((تفسير ابن كثير)) (7/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 795)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/202). قال ابنُ عطيَّة: (إعلامٌ بأنَّه يُظهِرُه على جميعِ الأديانِ، ورأى بَعضُ النَّاسِ لَفظةَ: لِيُظْهِرَهُ تَقتَضي مَحْوَ غَيرِه به؛ فلذلك قالوا: إنَّ هذا الخبَرَ يَظهَرُ للوُجودِ عندَ نُزولِ عيسى ابنِ مَريمَ عليه السَّلامُ؛ فإنَّه لا يَبقى في وَقتِه غيرُ دينِ الإسلامِ، وهو قَولُ الطَّبَريِّ والثَّعلبيِّ. ورأى قَومٌ أنَّ الإظهارَ هو الإعلاءُ وإنْ بَقِيَ مِن الدِّينِ الآخَرِ أجزاءٌ، وهذا موجودٌ الآنَ في دينِ الإسلامِ؛ فإنَّه قد عمَّ أكثَرَ الأرضِ، وظهَرَ على كُلِّ دينٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/140). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 320)، ((تفسير الثعلبي)) (9/ 30). وقال ابن جرير: (هذا إعلامٌ مِنَ اللهِ تعالى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والَّذين كَرِهوا الصُّلحَ يومَ الحُدَيبيَةِ مِن أصحابِه: أنَّ اللهَ فاتِحٌ عليهم مكَّةَ وغَيرَها مِن البُلدانِ، مُسَلِّيَهم بذلك عمَّا نالَهم مِن الكآبةِ والحُزنِ بانصِرافِهم عن مكَّةَ قبْلَ دُخولِهمُوها، وقبْلَ طَوافِهم بالبَيتِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/320، 321). وقال ابنُ القيِّم: (أخبَرَهم بأنَّه هو الَّذي أرسَلَ رَسولَه بالهُدى ودينِ الحَقِّ؛ لِيُظهِرَه على الدِّينِ كُلِّه؛ فقد تكَفَّل اللهُ لهذا الأمرِ بالتَّمامِ والإظهارِ على جميعِ أديانِ أهلِ الأرضِ؛ ففي هذا تقويةٌ لِقُلوبِهم، وبِشارةٌ لهم وتَثبيتٌ، وأن يَكونوا على ثِقةٍ مِن هذا الوَعدِ الَّذي لا بُدَّ أن يُنجِزَه؛ فلا تَظُنُّوا ما وقع مِنَ الإغماضِ والقَهرِ يومَ الحُدَيبيَةِ نُصرةً لِعَدُوِّه، ولا تخَلِّيًا عن رَسولِه ودِينِه، كيف وقد أرسَلَه بدِينِه الحَقِّ، ووَعَده أن يُظهِرَه على كُلِّ دينٍ سِواه؟!). ((زاد المعاد)) (3/280). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يَذهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حتَّى تُعبَدَ اللَّاتُ والعُزَّى! فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنْ كُنتُ لَأظُنُّ حينَ أنزَلَ اللهُ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] أنَّ ذلك تامًّا! قال: إنَّه سيَكونُ مِن ذلك ما شاء اللهُ!)) [444] رواه مسلم (2907). .
وعن ثَوْبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ زَوَى [445] أي: قبَضَها وجمَعَها لي. يُنظر: ((معالم السنن)) للخَطَّابي (4/339)، ((المفهم)) للقرطبي (7/216)، ((شرح النووي على مسلم)) (18/13). ليَ الأرضَ، فرأيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سيَبلُغُ مُلكُها ما زُوِيَ لي منها )) [446] رواه مسلم (2889). .
وعن تَميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لَيَبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يَترُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ [447] المَدَر: البيتُ المبنيُّ مِن الطِّينِ، والوَبَر: مِن الشَّعرِ، والعربُ تُعَبِّرُ عن أهل الحضرِ بأهلِ المَدَرِ، وعن أهلِ الباديةِ بأهلِ الوَبَرِ؛ لأنَّهم يَتَّخِذون بُيوتَهم مِن الوَبَرِ. يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (7/286)، ((فتح الباري)) لابن حجر (6/352). إلَّا أدخَلَه اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذَليلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكُفرَ)) [448] أخرجه أحمد (16957) واللَّفظُ له، والحاكم (8326)، والبيهقي (19090). صحَّحه الحاكِمُ على شَرطِ الشَّيخَينِ، وقال الهَيْثَميُّ في ((مجمع الزوائد)) (6/17): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (158): (على شَرطِ مُسلِمٍ). وصَحَّح إسنادَه على شرطِ مُسلِمٍ: شُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (28/ 155). .
وعن خبَّابِ بنِ الأرَتِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((شَكَوْنا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدةً [449] أي: جعَلها وِسادةً (أي: مِخَدَّةً) له تحتَ رأسِه، والبُرْدةُ: كِساءٌ أسْوَدُ مربَّعٌ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/447) و (2/550)، ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (10/96). له في ظِلِّ الكَعبةِ، قُلْنا له: ألَا تَستَنصِرُ لنا، ألَا تَدْعو اللهَ لنا؟! قال: كان الرَّجُلُ فيمَنْ قَبْلَكم يُحفَرُ له في الأرضِ، فيُجعَلُ فيه، فيُجاءُ بالمِنشارِ فيُوضَعُ على رأسِه فيُشَقُّ باثنَتَينِ، وما يَصُدُّه ذلك عن دِينِه! ويُمشَطُ بأمشاطِ الحَديدِ ما دونَ لَحمِه مِن عَظمٍ أو عَصَبٍ، وما يَصُدُّه ذلك عن دينِه! واللهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمرَ، حتَّى يَسيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ، لا يخافُ إلَّا اللهَ أو الذِّئبَ على غَنَمِه، ولكِنَّكم تَستَعجِلونَ! )) [450] رواه البخاري (3612). .
وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا.
أي: ويَكفي أن يَكونَ اللهُ شاهِدًا على أنَّه مُظهِرٌ دِينَه، وعلى أنَّ مُحمَّدًا رَسولُه، صلَّى الله عليه وسلَّم [451] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/320)، ((تفسير ابن عطية)) (5/140)، ((تفسير القرطبي)) (16/292)، ((تفسير ابن كثير)) (7/360)، (( تفسير الشوكاني)) (5/65). مِمَّن ذهب إلى أنَّ المعنى أنَّه شهيدٌ على أنَّه مُظهِرٌ دِينَه: ابنُ جرير، والرَّسْعَني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/320)، ((تفسير الرسعني)) (7/319). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ البصريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/320). وقال الزمخشريُّ والنَّسَفيُّ وأبو حيَّان: وكفى بالله شهيدًا على أنَّ ما وعَدَه كائنٌ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/346)، ((تفسير النسفي)) (3/344)، ((تفسير أبي حيان)) (9/500). ومِمَّن ذهب إلى أنَّ المعنى: أنَّه شهيدٌ بأنَّ محمَّدًا رسولُ الله، وأنَّه صادقٌ فيما يُخبِرُ: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، والسَّمَرْقَنديُّ، والواحدي، والبغوي، والرازي، والقرطبي، والخازنُ، وابنُ كثير، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/68)، ((تفسير السمرقندي)) (3/320)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1013)، ((تفسير البغوي)) (4/244)، ((تفسير الرازي)) (28/88)، ((تفسير القرطبي)) (16/292)، ((تفسير الخازن)) (4/172)، ((تفسير ابن كثير)) (7/360)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 683). قال البِقاعي: (وهو يَشهَدُ بكُلِّ ما أخبَر به رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذه السُّورةِ خصوصًا، وفي غيرِها عمومًا). ((نظم الدرر)) (18/337). وقال الشوكاني: (كَفَى اللهُ شَهيدًا على هذا الإظْهارِ الَّذي وَعَدَ المُسلِمينَ به، وعلى صحَّةِ نُبُوَّةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير الشوكاني)) (5/65). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ أنَّ رِسالةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تتضَمَّنُ شَيئَينِ؛ هما: العِلمُ النَّافِعُ، والعَمَلُ الصَّالِحُ؛ فالهُدى هو: العِلمُ النَّافِعُ، ودِينُ الحَقِّ هو: العَمَلُ الصَّالِحُ الَّذي اشتمَلَ على الإخلاصِ للهِ، والمُتابَعةِ لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [452] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/15). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَمَّا كان للنَّظَرِ إلى الرُّؤيا اعتِبارانِ: أحَدُهما مِن جِهةِ الواقِعِ، وهو غَيبٌ عن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم أجمَعينَ، والآخَرُ مِن جِهةِ الإخبارِ، وهو مع الرُّؤيا شَهادةٌ بالنِّسبةِ إليه سُبحانَه وتعالى- عَبَّرَ بالصِّدقِ والحَقِّ [453] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/333). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ، فيه سؤالٌ: ما وجْهُ التَّعليقُ بمَشيئةِ اللهِ -تعالى- في إخبارِه؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه ذكَرَه تعليمًا للعِبادِ الأدَبَ، وتأكيدًا لقَولِه تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [454] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/86). قال الشنقيطي: (قال علماءُ البصرةِ: المرادُ بالتَّقييدِ بالمشيئةِ في هذا الأمرِ المُحَقَّقِ: هو تعليمُ الخَلْقِ ألَّا يَتكلَّموا عن أمرٍ مُستقبَلٍ إلَّا مُعَلِّقِينَ بمشيئةِ اللهِ، وإنَّما جِيءَ بالأمرِ المُحَقَّقِ لِتَوكيدِ ذلك، وأنَّه لا يَنبغي للإنسانِ أن يَتحدَّثَ عن مُستقبَلٍ أنَّه سيَقَعُ أو سيَفعَلُ إلَّا إذا قُيِّدَ بمشيئةِ اللهِ، كما قال اللهُ لنبيِّه: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف: 23، 24]). ((العذب النمير)) (2/ 212). [الكهف: 23، 24].
الوجهُ الثَّاني: أنَّ الاستِثناءَ في دُخولِ جميعِهم؛ إذْ عُلِم أنَّ بعضَهم يَموتُ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ لَتَدْخُلُنَّ مِن قَولِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابِه، حكايةً عن رُؤْياهُ؛ فيَكونُ الاستِثناءُ في الرُّؤْيا، لا في خبرِ اللهِ.
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّ (إنْ) بمعنى (إذْ)؛ أي: إذْ شاء اللهُ [455] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (3/1332، 1333). قال ابنُ عطيَّةَ: (وهذا حسَنٌ في معناه، ولكنْ كَوْنُ «إِنْ» بمعنَى «إذْ» غيرُ موجودٍ في لسانِ العربِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/139). .
الوجهُ الخامسُ: أنَّ الدُّخولَ لَمَّا لم يقَعْ عامَ الحُدَيبيَةِ، وكان المؤمِنونَ يُريدونَ الدُّخولَ، ويأبَوْنَ الصُّلحَ، قال: لَتَدْخُلُنَّ، ولكنْ لا بجَلادتِكم، ولا بإرادتِكم، إنَّما تَدْخُلون بمَشيئةِ اللهِ تعالى.
الوجهُ السَّادسُ: أنَّ ذلك تحقيقًا للدُّخولِ؛ وذلك لأنَّ أهلَ مكَّةَ قالوا: لا تَدْخُلوها إلَّا بإرادتِنا، ولا نُريدُ دُخولَكم في هذه السَّنةِ، ونَختارُ دُخولَكم في السَّنةِ القابِلةِ، والمؤمِنونَ أرادوا الدُّخولَ في عامِهم، ولم يَقَعْ؛ فكان لِقائلٍ أن يَقولَ: بقيَ الأمرُ موقوفًا على مَشيئةِ أهلِ مكَّةَ: إنْ أرادوا في السَّنةِ الآتيةِ يَتْرُكونَنا نَدخُلُها، وإنْ كَرِهوا لا نَدخُلُها، فقال: لا تُشترَطُ إرادتُهم ومشيئتُهم، بل تمامُ الشَّرطِ بمَشيئةِ اللهِ [456] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/87). .
الوجهُ السَّابعُ: أنَّها للتَّبرُّكِ [457] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/55). .
3- في قَولِه تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ أنَّ الشَّيءَ المُحَقَّقَ قد يُربَطُ بالمشيئةِ؛ إشارةً إلى أنَّه واقِعٌ بمشيئةِ اللهِ [458] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/397). .
4- جوازُ الاستِثناءِ في الإيمانِ إذا كان للتَّعليلِ، بمعنى: أنا مُؤمِنٌ بمشيئةِ اللهِ؛ لأنَّ هذه هي الحقيقةُ، والدَّليلُ على ذلك قَولُه تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ؛ فالتَّعليقُ هنا ليس للتَّرَدُّدِ؛ لأنَّ اللهَ غيرُ مترَدِّدٍ، وإنَّما هو لبيانِ العِلَّةِ، وهي أنَّ دُخولَكم بمَشيئةِ اللهِ [459] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/413). وأهلُ السُّنَّةِ يَستَثنونَ في الإيمانِ أيضًا؛ لأنَّ الإيمانَ المطْلَقَ يتَضَمَّنُ فِعْلَ كلِّ ما أمَر اللهُ به، وتَرْكَ كلِّ ما نَهى عنه، فإذا قال الرَّجُلُ: أنا مُؤْمنٌ، بهذا الاعتبارِ: فقَدْ شَهِد لنفْسِه أنَّه مِن الأبرارِ المتَّقينَ، القائِمينَ بجميعِ ما أُمِروا به، وترْكِ كلِّ ما نُهُوا عنه! وهذا مِن تزكيةِ الإنسانِ لنفْسِه، ولو كانت هذه الشَّهادةُ صحيحةً، لَكانَ يَنْبَغي أنْ يَشْهَدَ لنفْسِه بالجنَّةِ إنْ ماتَ على هذه الحالِ، وهذا مَأْخَذُ عامَّةِ السَّلَفِ الَّذينَ كانوا يَسْتَثْنونَ. أمَّا إنْ أراد المُسْتَثني الشَّكَّ في أصلِ إيمانِه فإنَّه يُمنَعُ مِن الاستثناءِ، وهذا مِمَّا لا خِلافَ فيه. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/446)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/494- 498). .
5- في قَولِه تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أنَّ الحَلْقَ والتَّقصيرَ نُسُكٌ في الحجِّ والعُمرةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وصَفَهم به، بقَولِه سُبحانَه: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، ولو لم يكُنْ مِنَ المَناسِكِ لَمَا وصَفَهم به [460] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/387). ، فجَعَل الحلقَ والتَّقصيرَ شِعارَ النُّسُكِ وعلامَتَه، وعَبَّر عن النُّسُكِ بالحلقِ والتَّقصيرِ، وذلك يَقْتَضي كونَه جزءًا منه وبعضًا له [461] يُنظر: ((شرح العمدة- كتاب الحج)) لابن تيمية (2/542). ، قال العُلماءُ: إذا عُبِّرَ بجُزءٍ مِن العبادةِ عن العبادةِ كان دَليلًا على وُجوبِه فيها [462] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (7/396). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ فيه أنَّ الحَلْقَ غَيرُ مُتعَيِّنٍ في النُّسُكِ، بل يُجْزئُ عنه التَّقصيرُ [463] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 240). .
7- في قَولِه تعالى: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ أنَّه يَجِبُ أنْ يكونَ الحَلْقُ أو التَّقصيرُ شامِلًا لجَميعِ الرَّأسِ؛ فالفِعلُ المضافُ إلى الرَّأسِ يَشملُ جَميعَه. وفيه بيانُ خَطَأِ بعضِ النَّاسِ إذا أراد أنْ يَتحَلَّلَ مِن العُمرةِ فإنَّه يُقَصِّرُ شَعَراتٍ قليلةً مِن رأسِه ومِن جِهةٍ واحدةٍ! وهذا خِلافُ ظاهرِ الآيةِ الكريمةِ؛ فلا بُدَّ أنْ يكونَ للتَّقصيرِ أثَرٌ بَيِّنٌ على الرَّأسِ، ومِن المعلومِ أنَّ قَصَّ شَعرةٍ أو شَعرَتينِ أو ثَلاثِ شَعَراتٍ: لا يُؤَثِّرُ، ولا يَظهَرُ على المُعتَمِرِ أنَّه قَصَّرَ، فيَكونُ مخالِفًا لظاهرِ الآيةِ الكَريمةِ [464] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (22/454) و (24/302). ووُجوبُ حلْقِ أو تقصيرِ جميعِ الرَّأسِ هو مذهبُ المالكيَّةِ والحنابلةِ. يُنظر: ((حاشية العدوي)) (1/683، 689)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/502). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ فيه اختِصاصُ الحَلقِ والتَّقصيرِ بالرَّأسِ دُونَ اللِّحْيةِ وسائِرِ شَعرِ البَدَنِ [465] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 240). .
9- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أنَّ مَنِ اتَّبَعَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فإنَّه غالِبٌ، ومعنى «يُظْهِرَه» يُعْلِيَه؛ لأنَّ الظَّهْرَ والظُّهُورَ كِلَاهما يدُلُّ على الغَلَبةِ [466] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 173). .
10- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أنَّ الإسلامَ سيَعْلو على جميعِ الأديانِ [467] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 249). .
11- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ حُجَّةٌ لأهلِ السُّنَّةِ على كُلِّ مَن أَسَرَّ دِينًا مِن أهلِ البِدْعةِ، وكلِّ مَن كان على شَيءٍ يَزعمُ أنَّه مِن الدِّينِ وهو يَستُرُه ولا يُظْهِرُه خَشيةَ إنكارِه! فقد عُرِفَ بُطلانُه قبْلَ أنْ يُسألَ بُرهانَه، واستَوى في مَعرفةِ تزييفِه العالِمُ والجاهِلُ؛ إذْ مِن شَرْطِ الآيةِ أنْ يكونَ بعدَ نُزولِها دينُ الحقِّ ظاهرًا؛ فإنْ كُتِمَ عَدِمَ شَرْطَه المشروطَ فيه، وفي عَدَمِ شَرْطِه دُخولُ الخَلَلِ عليه، وزَوالُ الحقِّ عنه [468] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (1/521، 522). وأخرج اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (251) قولَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ: (إذا رأيْتَ قومًا يَتناجَوْنَ في دينِهم بشيءٍ دونَ العامَّةِ، فاعلَمْ أنَّهم على تأسيسِ ضلالةٍ). .
12- كثيرًا ما يَجمَعُ سُبحانَه بيْنَ هَذينِ الأصلَينِ: (الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)؛ لأنَّ بهما تَمامَ الدَّعوةِ، وظُهورَ دِينِه على الدِّينِ كُلِّه [469] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/14). .
13- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ عطَفَ دينَ الحَقِّ على الهُدى؛ لِيَشملَ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الأحكامِ؛ أُصولِها وفُروعِها، مِمَّا أُوحِيَ به إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِوى القُرآنِ مِن كُلِّ وَحيٍ بكَلامٍ لم يُقصَدْ به الإعجازُ، أو كان مِن سُنَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه وَجهٌ آخَرُ: أن يكونَ المرادُ بالهُدى أصولَ الدِّينِ مِن اعتِقادِ الإيمانِ، وفَضائِلِ الأخلاقِ الَّتي بها تَزكيةُ النَّفْسِ، ودينُ الحَقِّ: شَرائِعُ الإسلامِ وفُروعُه [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/201). .
14- قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فيه تَوطينٌ لنُفوسِ المؤمنينَ على أنَّ اللهَ تعالى سيَفتحُ لهم مِن البلادِ، ويُقيِّضُ لهم مِن الغلَبةِ على الأقاليمِ ما يَستقِلُّون إليه فتحَ مكةَ [471] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/346). .
15- قَولُه تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فيه إثباتُ الشَّهادةِ للهِ [472] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/488). .
16- في قَولِه تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا أنَّ شَهادةَ اللهِ كافيةٌ عن كُلِّ شَهادةٍ [473] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/491). .

بلاغةُ الآيتَينِ:

1- قَولُه تعالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا
- قَولُه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشِئٌ عن قولِه: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 26] ، ودَحْضُ ما خامَرَ نُفوسَ فريقٍ مِن الفشَلِ، أو الشَّكِّ، أو التَّحيُّرِ، وتَبْيينُ ما أنعَمَ اللهُ به على أهلِ بَيعةِ الرِّضوانِ مِن ثَوابِ الدُّنيا والآخِرةِ إلى كشْفِ شُبهةٍ عرَضَت للقَومِ في رُؤيا رآها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ذلك أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأى رُؤيا قبْلَ خُروجِه إلى الحُدَيْبِيَةِ -أو وهو في الحُدَيبيَةِ-: كأنَّه وأصحابَه قد دخَلوا مكَّةَ آمِنينَ، وحلَقوا وقصَّروا، هكذا كانتِ الرُّؤْيا مُجْمَلةً، ليس فيها وُقوعُ حَجٍّ ولا عُمرةٍ، والحَلْقُ والتَّقصيرُ مُناسِبٌ لِكِلَيهِما [474] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/197). .
- وتَوكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (قد)؛ لإبطالِ شُبْهةِ المنافِقينَ الَّذين قالوا: فأينَ الرُّؤيا [475] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/198). ؟!
- قَولُه: بِالْحَقِّ، أي: مُلتَبِسًا به؛ فإنَّ ما رآهُ كائنٌ لا مَحالةَ في وقْتِه المُقدَّرِ له، وهو العامُ القابِلُ. ويجوزُ أنْ يكونَ بِالْحَقِّ صِفةَ مَصدرٍ مَحذوفٍ، أي: صِدقًا مُلتبِسًا بالحَقِّ، وهو القَصدُ إلى التَّمييزِ بيْنَ الثَّابتِ على الإيمانِ والمُتزلزِلِ فيه، أو حالٌ مِن الرُّؤيا، أي: مُلتبِسةً بالحقِّ ليستْ مِن قَبيلِ أضغاثِ الأحلامِ، وأنْ يكونَ قَسَمًا إمَّا باسمِ اللهِ تعالَى، أو بنَقيضِ الباطلِ [476] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/345)، ((تفسير البيضاوي)) (5/131)، ((تفسير أبي السعود)) (8/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/198). .
- قَولُه: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ إلى آخِرِها، يجوزُ أنْ يكونَ بَيانًا لجُملةِ صَدَقَ اللَّهُ؛ لأنَّ معنى لَتَدْخُلُنَّ تَحقيقُ دُخولِ المسجِدِ الحرامِ في المُستقبَلِ، فيُعلَمُ منه أنَّ الرُّؤيا إخبارٌ بدُخولٍ لم يُعيَّنْ زَمنُه؛ فهي صادِقةٌ فيما يَتحقَّقُ في المُستقبَلِ، وهذا تَنْبيهٌ لِلَّذِين لم يَتفطَّنوا لذلك، فجَزَموا بأنَّ رُؤيا دُخولِ المسجِدِ تَقْتضي دُخولَهم إليه أيَّامَئذٍ، وما ذلك بمَفهومٍ مِن الرُّؤيا، وكان حَقُّهم أنْ يَعلَموا أنَّها وعْدٌ لم يُعَيَّنْ إبَّانَ مَوعودِه. وقيل: الأحسَنُ أنْ تكونَ جُملةُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ استِئنافًا بَيانيًّا عن جُملةِ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ، أي: سيَكُون ذلك في المُستقبَلِ لا مَحالةَ؛ فيَنْبغي الوقفُ عندَ قولِه: بِالْحَقِّ؛ لِيَظهَرَ معنى الاستِئنافِ. وقولُه: إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِن شأْنِه أنْ يُذيَّلَ به الخبَرُ المُستقبَلُ إذا كان حُصولُه مُتراخيًا [477] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/199). .
- قَولُه: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ التَّحليقُ والتَّقصيرُ كِنايةٌ عن التَّمكُّنِ مِن إتمامِ الحَجِّ والعُمرةِ، وذلك مِن استِمرارِ الأمْنِ، على أنَّ هذه الحالةَ حكَتْ ما رآهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في رُؤياهُ، أي: يَحلِقُ مَن رامَ الحَلْقَ، ويُقصِّرُ مَن رامَ التَّقصيرَ، أي: لا يُعجِّلُهم الخَوفُ عن الحَلقِ، فيَقتَصِرون على التَّقصيرِ [478] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/200). .
- وذَكَر الحِلاقَ والتَّقصيرَ دونَ الطَّوافِ والسَّعْيِ؛ لأنَّهما صِفَتانِ لبدنِ الإنسانِ ينتقلانِ بانْتِقالِه [479] يُنظر: ((شرح العمدة- كتاب الحج)) لابن تيمية (2/ 543). .
- وجُملةُ لَا تَخَافُونَ في مَوضعِ الحالِ؛ فيجوزُ أنْ تكونَ مُؤكِّدةً لقولِه: آَمِنِينَ تأْكيدًا بالمُرادفِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الأمنَ كاملٌ مُحقَّقٌ. ويجوزُ أنْ تكونَ حالًا مُؤسِّسةً على أنَّ آَمِنِينَ أي: لا تَخافونَ غَدْرًا، وذلك إيماءٌ إلى أنَّهم يكونونَ أشدَّ قُوَّةً مِن عدوِّهم الَّذي أمَّنَهم، وهذا يُومِئُ إلى حِكمةِ تأْخيرِ دُخولِهم مكَّةَ إلى عامٍ قابلٍ، حيثُ يَزْدادون قُوَّةً واستِعدادًا، وهو أظهَرُ في دُخولِهم عامَ حَجَّةِ الوداعِ [480] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/200). . وقيل: قال: لَا تَخَافُونَ بعدَ قولِه: آَمِنِينَ والمعنَى: آمِنينَ في حالِ الدُّخولِ، لا تَخافُونَ عَدُوَّكم أن يُخرِجَكم منه في المُستَقبَلِ [481] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 526). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/87). .
- والفاءُ في قَولِه: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا لتَفريعِ الأخبارِ، لا لتَفريعِ المُخبَرِ به؛ لأنَّ عِلمَ اللهِ سابِقٌ على دُخولِهم، وعلى الرُّؤيا المُؤذِنةِ بدُخولِهم [482] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/200). .
- قَولُه: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا في إيثارِ فِعلِ (جَعَلَ) في هذا التَّركيبِ دونَ أنْ يقولَ: (فتَحَ لكم مِن دونِ ذلك فتْحًا قريبًا)، أو نحوَه؛ لإفادةِ أنَّ هذا الفتْحَ أمْرُه عجيبٌ، ما كان لِيَحصُلَ مِثلُه لولا أنَّ اللهَ كوَّنَه. وصِيغةُ الماضي في (جَعَلَ)؛ لِتَنزيلِ المُستقبَلِ المحقَّقِ مَنزِلةَ الماضي، أو لأنَّ (جَعَلَ) بمعنى (قَدَّرَ) [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/200). .
2- قَولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا زِيادةُ تَحقيقٍ لصِدقِ الرُّؤيا؛ بأنَّ الَّذي أرسَلَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا الدِّينِ ما كان لِيُرِيَه إلَّا رُؤيا صادقةً؛ فهذه الجُملةُ تأكيدٌ للتَّحقيقِ المُستفادِ مِن حرْفِ (قد) ولامِ القَسَمِ في قَولِه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ [الفتح: 27] ، وبهذا يَظهرُ حُسنُ مَوقعِ الضَّميرِ والمَوصولِ في قَولِه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى؛ لأنَّ المَوصولَ يُفيدُ العِلمَ بمَضمونِ الصِّلةِ غالبًا [484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/201). .
- والضَّميرُ عائِدٌ إلى اسمِ الجلالةِ في قَولِه: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا، وهم يَعلَمون أنَّ رُؤيا الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحْيٌ مِن اللهِ؛ فهو يُذكِّرُهم بهاتَينِ الحقيقتَينِ المَعلومتَينِ عندَهم حِين لم يَجْرُوا على مُوجَبِ العِلمِ بهما، فخَامَرَتهم ظُنونٌ لا تَليقُ بمَن يَعلَمُ أنَّ رُؤيا الرَّسولِ وحْيٌ، وأنَّ الموحِيَ له هو الَّذي أرسَلَه؛ فكيف يُرِيه رُؤيا غيرَ صادِقةٍ؟! وفي هذا تَذكيرٌ ولَومٌ للمؤمنينَ الَّذين غفَلوا عن هذا، وتَعريضٌ بالمنافِقين الَّذين أدخَلوا التَّردُّدَ في قُلوبِ المؤمنينَ [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/201). .
- والباءُ في بِالْهُدَى للمُصاحَبةِ، وهو مُتعلِّقٌ بـ أَرْسَلَ، والهُدَى أُطلِقَ على ما به الهُدى [486] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/201). .
- واللَّامُ في لِيُظْهِرَهُ لتَعليلِ فِعلِ أَرْسَلَ ومُتعلَّقاتِه، أي: أرسَلَه بذلك؛ لِيُظهِرَ هذا الدِّينَ على جَميعِ الأديانِ الإلهيَّةِ السَّالفةِ، ولذلك أكَّدَ بـ كُلِّهِ؛ لأنَّه في معنى الجمْعِ [487] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/202). .
- والإظهارُ: أصلُه مُشتقٌّ مِن (ظَهَر) بمعنى بَدَا؛ فاستُعمِلَ كنايةً عن الارتفاعِ الحقيقيِّ، ثمَّ أُطلِقَ على الشَّرَفِ، فصار (أظهرَه) بمعنى أعلاهُ، أي: لِيُشَرِّفَه على الأديانِ كلِّها [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/202). .
- ولَمَّا كان المَقصودُ مِن قولِه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى الشَّهادةَ بأنَّ الرُّؤيا صِدقٌ؛ ذيَّلَ الجُملةَ بقولِه: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، أي: أجزَأَتْكم شَهادةُ اللهِ بصِدْقِ الرُّؤيا إلى أنْ ترَوا ما صَدَقَها [489] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو المَوصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). في الإبَّانِ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/202). .