موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (71-73)

ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غريب الكلمات:

إِمْرًا: أي: عَظِيمًا مُنكرًا، من قَولِهم: أمِرَ الأمرُ، أي: كَبُر وكَثُر. وقيل: عجبًا [1145] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 269)، ((تفسير الطبري)) (15/335-336)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/137)، ((المفردات)) للراغب (ص: 90)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 220).   .
تُرْهِقْنِي: تُغْشِني، وتُكَلِّفْني، وتُلْحِقْني، وأصلُ (رهق): يدُلُّ على غِشيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ [1146] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 270)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/451)، ((البسيط)) للواحدي (14/88)، ((تفسير غريب ما في الصحيحين)) للحميدي (ص: 430)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/377).   .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: فانطلق موسى والخَضِرُ يَمشِيانِ على السَّاحِلِ، فمَرَّت بهما سَفينةٌ، فطلبا مِن أهلِها أن يركَبا معهم، فلمَّا رَكِبا قَلَعَ الخَضِرُ لوحًا من السَّفينةِ فخَرَقَها، فقال له موسى: أَخَرَقْتَ السَّفينةَ؛ لتُغرِق أهلَها؟! لقد فعَلْتَ فعلًا عظيمًا مُنكَرًا. قال له الخَضِرُ: قد قُلتُ لك مِن أوَّلِ الأمرِ: إنَّك لن تستطيعَ الصَّبرَ على صُحبتي. قال موسى مُعتَذِرًا: لا تؤاخِذْني بنِسياني شَرطَك عليَّ، ولا تُكَلِّفْني مَشقَّةً في تعلُّمي منك، وعامِلْني بيُسرٍ ورِفقٍ.

تفسير الآيات:

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71).
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا.
أي: فانطلق موسى والخَضِرُ يَسيرانِ إلى أنْ رَكِبا سَفينةً في البَحرِ، فقام الخَضِرُ بخَرقِها [1147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/335)، ((البسيط)) للواحدي (14/85)، ((تفسير ابن كثير)) (5/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/374، 375).   .
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ: ((فانطلقَ الخَضِرُ وموسى يمشِيانِ على ساحِلِ البَحرِ، فمَرَّت بهما سَفينةٌ، فكَلَّماهم أن يحمِلوهما، فعَرَفوا الخَضِرَ، فحَمَلوهما بغَيرِ نَولٍ [1148] بغَيرِ نَولٍ: أي: بغير أجرٍ ولا جُعْلٍ، والنَّولُ والنَّوالُ: العطاءُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/129)، ((شرح النووي على مسلم)) (15/140).   ، فعمَد الخَضِرُ إلى لوحٍ مِن ألواحِ السَّفينةِ فنَزَعه )) [1149] رواه البخاري (122)، ومسلم (2380) واللفظ له.   .
وفي روايةٍ: ((وجدا معابِرَ [1150] معابِرَ: أي: مَراكِبَ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/152).   صِغارًا تحمِلُ أهلَ هذا السَّاحِلِ إلى أهلِ هذا السَّاحِلِ الآخَرِ، عَرَفوه فقالوا: عبدُ الله الصَّالحُ -قال: قُلْنا لسعيدِ بنِ جُبَير: خَضِر؟ قال: نَعَم- لا نحمِلُه بأجرٍ، فخَرَقَها ووتَدَ فيها وتدً ا [1151] وتَدَ فيها وتدًا: أي: جعل فيها وتدًا، والوَتدُ: ما ثُبِّتَ في الأرضِ أو الحائِطِ من خَشَبٍ ونَحوِه. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (7/224)، ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) (3/2394).   ) [1152] رواه البخاري (4726).   .
قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا.
أي: قال موسى للخَضِر: أخرَقْتَ السَّفينةَ لتُغرقَ [1153] قال ابنُ عثيمين: (واللامُ في قَولِه: لِتُغْرِقَ ليست للتعليلِ، ولكِنَّها للعاقبةِ، يعني: أنَّك إذا خرَقْتَها غَرِقَ أهلُها، وإلَّا لا شَكَّ أنَّ موسى عليه السَّلامُ لا يدري ما غَرَضُ الخَضِر، ولا شَكَّ أيضًا أنَّه يدري أنَّه لا يريدُ أن يُغرِقَ أهلَها؛ لأنَّه لو أراد أن يُغرِقَ أهلَها لكان أوَّلَ مَن يَغرَقُ هو وموسى). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 115).   ركَّابَها؛ فإنَّ خرقَها سببٌ لدخولِ الماءِ فيها وغَرقِهم [1154] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (3/327)، ((تفسير البيضاوي)) (3/288)، ((تفسير ابن كثير)) (5/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 482)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 115).   ؟!
وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((فقال له موسى: قومٌ حَمَلونا بغيرِ نَولٍ، عَمَدْتَ إلى سفينتِهم فخَرَقْتَها لتُغرِقَ أهلَها؟ !)) [1155] رواه البخاري (122)، ومسلم (2380) واللفظ له.  
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا.
أي: لقد أتيتَ شيئًا عظيمًا، وفعَلْتَ فِعلًا منكرًا [1156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/335)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 668)، ((تفسير ابن كثير)) (5/182)، ((تفسير الشوكاني)) (3/357)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/375)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 116). قال الواحدي: (قال مجاهدٌ: منكرًا. وهو قولُ قتادةَ، والمفسرينَ). ((البسيط)) للواحدي (14/86).   !
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72).
أي: قال الخَضِرُ لِموسى: ألم أُخبِرْك بأنَّك لن تُطيقَ الصَّبرَ على اتِّباعي؛ لِما تراه مِن أفعالي التي ظاهِرُها مُنكَرٌ قَبيحٌ؟! وأنَّك لن تَصبِرَ عن سؤالي عن أفعالي؛ لأنَّك لم تُحِطْ بها خُبْرًا [1157] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/338)، ((تفسير ابن كثير)) (5/182، 183)، ((تفسير السعدي)) (ص: 482)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/376).   ؟!
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73).
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ.
أي: قال موسى للخَضِر مُعتَذِرًا: لا تُؤاخِذْني بالذي نَسيتُه مِن عَهدِك إليَّ، واشتِراطِك ألَّا أسألَك عن شَيءٍ حتى تُخبِرَني [1158] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/338)، ((تفسير أبي حيان)) (7/207)، ((تفسير الشوكاني)) (3/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 482).   .
عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ قال: ((كانت الأولى مِن موسى نِسيانًا ) ) [1159] رواه البخاري (4725)، ومسلم (2380).   .
وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا.
أي: ولا تُضَيِّقْ عليَّ أمري معك، وتشدِّدْ عليَّ في صُحبتي لك [1160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/339)، ((تفسير البيضاوي)) (3/288)، ((تفسير ابن كثير)) (5/183)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/377). قال ابنُ عاشور: (مِنْ يجوزُ أن تكونَ ابتدائيَّةً، فيكون المرادُ بـ «أمْرِه»: نسيانَه، أي: لا تجعَلْ نسياني مُنشِئًا لإرهاقي عُسرًا. ويجوزُ أن تكونَ بيانيَّةً، فيكون المرادُ بـ «أمرِه»: شأنَه معه، أي: لا تجعَلْ شأني إرهاقَك إيَّاي عُسرًا). ((تفسير ابن عاشور)) (15/377).   .

الفوائد التربوية:

1- في قولِه: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا نِسيانُ نَفسِه عندَما قال: لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا وهو بينَ الرَّاكِبين، وهو جَديرٌ بأن يَنهمِكَ بأمرِ نفْسِه، وما هو مُقْدِمٌ عليه مِن سوءِ المصيرِ، وإنَّما حمَلَه على المبادَرةِ بالإنكارِ الالْتِهابُ والحَميَّةُ للحقِّ، فنَسِي نفْسَه واشتَغَل بغيرِه في الحالةِ الَّتي يقولُ فيها كلُّ واحدٍ: نَفْسي نَفسي، ولا يَلْوي على مالٍ ولا ولَدٍ، وتلك حالةُ الغرَقِ تَذهَلُ فيها العقولُ، وتَغرُبُ الأحلامُ، ويَضيعُ الرُّشدُ مِن الألبابِ [1161] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/12).   .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فيه أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يأخُذَ مِن أخلاقِ النَّاسِ ومُعامَلاتِهم العَفوَ منها، وما سَمَحَت به أنفُسُهم، ولا ينبغي له أن يُكَلِّفَهم ما لا يُطيقونَ، أو يَشُقَّ عليهم ويُرهِقَهم؛ فإنَّ هذا مَدعاةٌ إلى النُّفورِ منه والسَّآمةِ، بل يأخُذُ المُتيَسِّرَ ليتيسَّرَ له الأمرُ [1162] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 482).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَانْطَلَقَا إنْ قيل: فما بالُ فتَى موسَى ذُكِر في أوَّلِ القصةِ، ثمَّ لم يُذكَرْ بعدَ ذلك؟
فالجوابُ: أنَّ المقصودَ بالسياقِ إنما هو قصةُ موسَى معَ الخضرِ، وذِكرُ ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبعٌ، فاقتصر على ذكرِ المتبوعِ دونَ التابعِ، ويحتملُ أن يكونَ يوشعُ تأخَّر عنهما؛ لأنَّ المذكورَ انطلاقُ اثنينِ [1163] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (3/328)، ((تفسير ابن كثير)) (5/188)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 115).   . وقيل: كان موسى قد صَرَفه ورَدَّه إلى بَني إسرائيلَ [1164] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/206).   .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ فيه جوازُ رُكوبِ البَحرِ في غيرِ الحالةِ التي يُخافُ منها [1165] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٢).   .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا فيه أنَّ الأمورَ تجري أحكامُها على ظاهِرِها، وتُعَلَّقُ بها الأحكامُ الدُّنيويَّةُ، في الأموالِ والدِّماءِ وغَيرِها؛ فإنَّ موسى -عليه السَّلامُ- أنكر على الخَضِر خَرْقَه السَّفينةَ، وقَتْلَ الغُلامِ -كما سيأتي-، وأنَّ هذه الأمورَ ظاهِرُها أنَّها مِن المُنكَر، وموسى عليه السَّلامُ لا يَسَعُه السُّكوتُ عنها في غيرِ هذه الحالِ التي صَحِبَ عليها الخَضِرَ، فاستعجل عليه السَّلامُ، وبادر إلى الحُكمِ في حالتِها العامَّةِ، ولم يلتَفِتْ إلى هذا العارِضِ الذي يوجِبُ عليه الصَّبرَ، وعَدَمَ المبادرةِ إلى الإنكارِ [1166] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٢).   .
4- في قَولِه تعالى عن موسى عليه السَّلامُ: قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا دَلالةٌ على أنَّ قُلوبَ المؤمنينَ مَجبولةٌ على إنكارِ المنكَر؛ وغيرُ مالكةٍ للصَّبرِ على احتمالِه؛ لأنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَعَد الخَضِرَ أنْ يَصْبِرَ على ما يراه منه، فلمَّا رأَى منه ما يَعتقدُ أنه منكرٌ أنكَرَه عليه [1167] يُنظر: ((النُّكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/215).   .
5- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ فيه أنَّ النَّاسيَ غيرُ مُؤاخَذٍ بنِسيانِه؛ لا في حقِّ اللهِ، ولا في حُقوقِ العِبادِ [1168] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٢).   .
6- قَولُه تعالى عن موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا إلى قَولِه سُبحانَه: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف: 76] فيه قيامُ العُذْرِ بالمَرَّة الواحدةِ، وقيامُ الحُجَّةِ بالثَّانيةِ [1169] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/422).   .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا
     - في الكلامِ إيجازٌ دلَّ عليه قولُه: إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ؛ فأصلُ الكلامِ: حتَّى استَأْجَرا سفينةً فرَكِباها، فلمَّا رَكِبا في السَّفينةِ خرَقَها، وتعريفُ السَّفينةِ تعريفُ العَهدِ الذِّهْنيِّ [1170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/374).   .
     - والاستفهامُ في أَخَرَقْتَهَا للإنكارِ، ومَحلُّ الإنكارِ هو العِلَّةُ بقولِه: لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؛ لأنَّ العِلَّةَ مُلازِمةٌ للفِعْلِ المستفهَمِ عنه؛ ولذلك تَوجَّهَ أن يُغيِّر موسى عليه السَّلامُ هذا المنكَرَ في ظاهرِ الأمرِ، وتأكيدُ إنكارِه بقولِه: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [1171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/375).   .
     - وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيث قال عزَّ وجلَّ هنا مُخبِرًا عن قولِ موسى للخَضِرِ عَليهِما السَّلامُ حين خرَق السَّفينةَ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، وعندَ قَتلِ الغُلامِ قال: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74] ؛ ففي الأُولى (الإِمْرُ) وفي الثَّانيةِ: (النُّكْرُ)، وذلك لِمُناسَبةٍ حسَنةٍ: وهي أنَّ خَرْقَ السَّفينةِ لم يَبلُغْ بحيثُ يُتلِفُها، وإنَّما قَصَد به الخَضِرُ عَيْبَها؛ ليَزهدَ فيها مُريدُ غَصْبِها؛ بدليلِ قولِه بعدُ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف: 79] ، فإنَّما أراد إبقاءَها على مالِكِها، ودَفْعَ هذا الغاصبِ إذا رأى ما بها مِن العيبِ المانِعِ مِن الرَّغبةِ فيها، وهذا لا يَبلُغُ ظاهِرُه مبلغَ ظاهرِ قتلِ الغُلامِ بغيرِ سببٍ ظاهرٍ، فوصَف بإمرٍ في قولِه: شَيْئًا إِمْرًا، وهو دُونَ النُّكْرِ. وأمَّا البادي الظَّاهرُ مِن قتْلِ الغُلامِ عِندَ مَن يَغيبُ عنه ما عَلِمه مِن الخَضِرِ فشيءٌ نُكْرٌ، ومُرتَكَبٌ -عندَ مَن لَحَظَه بظاهرِه، وغابَ عنه ما في طَيِّه- شنيعٌ ووِزرٌ، فوقَع التَّعبيرُ في الموضِعَينِ بما يُناسِبُ كِلا الفِعْلَين، وعن قتادةَ رَحِمه اللهُ: (النُّكْرُ أشَدُّ مِن الإمْرِ)، فجاء كلٌّ على ما يُلائِمُ، ولم يَكُنْ لِيَحسُنَ مَجيءُ أحَدِ الوصفَينِ في الموضِعِ الآخَرِ، واللهُ أعلمُ [1172] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/322). ويُنظر أيضًا: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 878-880)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 170)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 345).   . وقيل: لأنَّ العملَ الذي عَمِله الخَضِرُ ذَريعةٌ للغرقِ، ولم يقَعِ الغرقُ بالفِعلِ، أمَّا قتلُ النفسِ فإنَّه مباشرةٌ، وهو منكرٌ حادثٌ ما فيه احتمالٌ، فالأوَّلُ ذريعةُ فسادٍ، والثاني فسادٌ حاصلٌ [1173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/375)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 118).   .
2- قوله تعالى: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
     - قولُه: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا استفهامُ تَقريرٍ وتعريضٍ باللَّومِ على عَدمِ الوَفاءِ بما الْتَزم، أي: أتُقِرُّ أنِّي قُلتُ: إنَّك لا تَستطيعُ مَعي صَبرًا [1174] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/235).   ؟ ومَعِيَ ظرفٌ مُتعلِّقٌ بـ تَسْتَطِيعَ، فاستِطاعةُ الصَّبرِ المنفيَّةُ هي الَّتي تَكونُ في صُحبتِه؛ لأنَّه يَرى أُمورًا عَجيبةً لا يُدرِكُ تأويلَها. وحذَف مُتعلَّقَ القولِ؛ تنزيلًا له مَنزِلةَ اللَّازِم، أي: ألَم يقَعْ منِّي قولٌ فيه خِطابُك بعدَمِ الاستِطاعةِ [1175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/376).   ؟
     - وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيثُ قال تعالى في حِكايةِ قَولِ الخَضِرِ لموسى عليهِما السَّلامُ في خَرْقِ السَّفينةِ: أَلَمْ أقُلْ إنَّكَ بحَذفِ لَكَ، وفي قَتْلِ الغلامِ: أَلَمْ أقُلْ لَكَ إِنَّكَ [الكهف: 75] بذِكْرِه؛ لأنَّ في ذِكْرِه قصْدَ زِيادةِ المواجَهةِ بالعِتابِ على تَرْكِ الوصيَّةِ مرَّةً ثانيةً [1176] يُنظر: ((فتح الرحمن)) لزكريا الأنصاري (ص: 345 - 346).   ، فإثباتُه فيه لومٌ أشدُّ على موسَى، فلو أنَّك كلَّمتَ شخصًا بشيءٍ، وخالَفك، فتقولُ في الأوَّلِ: (ألم أقلْ: إنَّك)، وفي الثاني تقولُ: (ألم أقلْ لك)، يعني: أنَّ الخطابَ ورَد عليك ورودًا لا خفاءَ فيه، ومع ذلك خالفْتَ، فكان قولُ الخضرِ لموسَى في الثانيةِ أشدَّ [1177] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 118).   .
وقيل: إنَّ إثباتَه للتوكيدِ، واختزالَه له؛ لوضوحِ المعنَى، وكلاهما معروفٌ عندَ الفصحاءِ [1178] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/100).   .
وقيل: إنَّ الفَرقَ الموجِبَ لزِيادة «لك» في هذا القول الثَّاني: أنَّ الخَضِرَ قد كان قال لِمُوسى -حينَ قال له موسى عليه السَّلامُ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا-:  قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، فلَمَّا كان مِن موسى عندَ خَرْقِ السَّفينةِ ما كان مِن الإنكارِ بقولِه: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف: 71] ، ذَكَّره الخَضِرُ بما كان قدْ قاله له، مِن غيرِ أن يَزيدَه على إيرادِ ما كان قد قالَه، فاعتذَر موسى عليه السَّلامُ بقولِه: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف: 73] ، فلمَّا وقَع منه بعدَ ذلك إنكارُ قتلِ الغُلامِ، وأبلَغ في وصْفِ الفَعْلةِ بقولِه: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74] ، قابَل الخَضِرُ ذلك بتَأكيدِ الكلامِ المتقدِّمِ، فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف: 75] ؛ فهذه الزِّيادةُ (لَك) بيانٌ جيءَ به تأكيدًا؛ لِيُقابِلَ بالكَلامِ ما وقَع جَوابًا له مِن قَولةِ موسى عليه السَّلامُ؛ زيادةً للتَّناسُبِ [1179] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/323-324).   .
     - وقِيل: وجهُ زيادة (لك): أنَّ الخَضِرَ عليه السَّلامُ قال في الأولى: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، أي: إنَّك تَعجِزُ عن احْتِمالِ ما تَرى حتَّى تُبادِرَ إلى الإنكارِ، فلمَّا رأى قَتْلَ الغُلامِ وعادَ إلى الإنكارِ أكَّد التَّقريرَ الثَّانيَ بقولِه: لَكَ، وهذا وجَبَ في الثَّاني لا في الأوَّلِ الَّذي لم تتَأكَّدْ حُجَّةُ الخَضِرِ كتَأكُّدِها في الثَّاني [1180] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 881-882)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 170).   .
3- قوله تعالى: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا
قولُه: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي المؤاخَذةُ: مُفاعَلةٌ مِن الأخذِ، وهي هُنا للمُبالَغةِ؛ لأنَّها مِن جانبٍ واحدٍ؛ كقَولِه تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ [1181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/376).   [النحل: 61] .
     - قولُه: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ أي: بالذي نسيتُه، أو بشيءٍ نسيتُه، أو بنِسْياني: أراد أنَّه نَسي وصيَّتَه، ولا مُؤاخَذةَ على النَّاسي. أو أخرَج الكلامَ في مَعرِضِ النَّهيِ عن المؤاخَذةِ بالنِّسيانِ، يُوهِمُه أنَّه قد نَسي؛ لِيَبسُطَ عُذرَه في الإنكارِ، وهو مِن التوريةِ ومَعاريضِ الكلامِ الَّتي يُتَّقى بها الكَذِبُ، مع التَّوصُّلِ إلى الغرَضِ، وهو هنا إيهامُ خِلافِ المرادِ؛ لِئلَّا يُلزَمَ الكَذِبَ، وهو فنٌّ ظَريفٌ مِن فُنونِهم، ولَعلَّه أجمَلُ أنواعِ التَّوريَةِ [1182] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/735)، ((تفسير أبي السعود)) (5/235)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/12).   . وقيل: اعتذَر موسى بالنِّسيانِ، وكان قد نَسِي التزامَه بما غَشِي ذِهنَه مِن مُشاهدةِ ما يُنكِرُه. والنَّهيُ مُستعمَلٌ في التَّعطُّفِ والتماسِ عدمِ المؤاخذةِ؛ لأنَّه قد يُؤاخِذُه على النِّسيانِ مُؤاخذةَ مَن لا يَصلُحُ للمُصاحبةِ؛ لِما يَنشأُ عن النِّسيانِ مِن خطَرٍ؛ فالحزامةُ الاحتِرازُ مِن صُحبةِ مَن يَطرَأُ عليه النِّسيانُ؛ ولذلك بُني كلامُ موسى على طلَبِ عدمِ المؤاخَذةِ بالنِّسيانِ، ولم يُبنَ على الاعتذارِ بالنِّسيانِ، كأنَّه رأى نفْسَه مَحقوقًا بالمؤاخَذةِ، فكان كَلامًا بَديعَ النَّسيجِ في الاعْتِذارِ [1183] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/376).   .