موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالِثُ: محاوَلاتُ إحياءِ الفِكرِ الاعتِزاليِّ من جديدٍ


بعضُ الكُتَّابِ والمُفَكِّرين في الوقتِ الحاضِرِ يحاوِلون إحياءَ فِكرِ المُعتَزِلةِ من جديدٍ بَعدَ أن عفا عليه الزَّمنُ أو كاد، فألبَسوه ثوبًا جديدًا، وأطلَقوا عليه أسماءً جديدةً؛ مِثلُ العقلانيَّةِ، أو التَّنويرِ، أو التَّجديدِ، أو التَّحَرُّرِ الفِكريِّ، أو التَّطَوُّرِ، أو المُعاصَرةِ، أو التَّيَّارِ الدِّينيِّ المُستَنيرِ، أو اليَسارِ الإسلاميِّ.
وقد قوَّى هذه النَّزعةَ التَّأثُّرُ بالفِكرِ الغَربيِّ العَقلانيِّ المادِّيِّ، وحاولوا تفسيرَ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ وَفْقَ العقلِ الإنسانيِّ؛ فلجَؤوا إلى التَّأويلِ كما لجأت المُعتَزِلةُ من قَبلُ، ثمَّ أخذوا يَتلَمَّسون في مصادِرِ الفِكرِ الإسلاميِّ ما يَدعَمُ تصوُّرَهم، فوجَدوا في المُعتَزِلةِ بُغيَتَهم فأنكروا المُعجِزاتِ المادِّيَّةَ.
وأهمُّ مَبدأٍ مُعتَزليٍّ سار عليه المُتأثِّرون بالفِكرِ المُعتَزليِّ هو ذاك الذي يزعُمُ أنَّ العقلَ هو الطَّريقُ الوحيدُ للوصولِ إلى الحقيقةِ، حتَّى لو كانت هذه الحقيقةُ غَيبيَّةً شرعيَّةً، أي: أنَّهم أخضَعوا كُلَّ عقيدةٍ وكُلَّ فِكرٍ للعَقلِ البَشَريِّ القاصِرِ.
وأخطَرُ ما في هذا الفِكرِ الاعتِزاليِّ محاولةُ تغييرِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ التي ورد فيها النَّصُّ اليقينيُّ من الكتابِ والسُّنَّةِ، مِثلُ عُقوبةِ المُرتَدِّ، وفرضيَّةِ الجِهادِ، والحُدودِ، وغيرِ ذلك، فضلًا عن موضوعِ الحجابِ وتعَدُّدِ الزَّوجاتِ، والطَّلاقِ والإرثِ... إلخ، وطلَب أصحابُ هذا الفِكرِ إعادةَ النَّظَرِ في ذلك كُلِّه، وتحكيمَ العَقلِ في هذه المواضيعِ.
ومن الواضِحِ أنَّ هذا العَقلَ الذي يُريدون تحكيمَه هو عَقلٌ متأثِّرٌ بما يقولُه الفِكرُ الغربيُّ حولَ هذه القضايا في الوَقتِ الحاضِرِ.
وهناك كُتَّابٌ كثيرون مُعاصِرون، ومُفَكِّرون إسلاميُّون يسيرونَ على المنهَجِ نفسِه ويَدْعون إلى أن يكونَ للعَقلِ دورٌ كبيرٌ في الاجتهادِ وتطويرِه، وتقييمِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وحتَّى الحوادِثِ التَّاريخيَّةِ، ولا شَكَّ في أهميَّةِ الاجتهادِ وتحكيمِ العقلِ في التَّعامُلِ مع الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، ولكِنْ ينبغي أن يكونَ ذلك في إطارِ نصوصِها الثَّابتةِ، وبدوافِعَ ذاتيَّةٍ، وليس نتيجةَ ضغوطٍ أجنبيَّةٍ وتأثيراتٍ خارجيَّةٍ لا تَقِفُ عِندَ حَدٍّ، وإذا انجرف المُسلِمون في هذا الاتِّجاهِ؛ اتِّجاهِ ترويضِ الإسلامِ بمُستجَدَّاتِ الحياةِ والتَّأثيرِ الأجنبيِّ بدلًا من ترويضِ كُلِّ ذلك لمنهَجِ اللهِ الذي لا يأتيه الباطِلُ من بَينِ يَدَيه ولا مِن خَلفِه؛ فستُصبِحُ النَّتيجةُ ألَّا يبقى من الإسلامِ إلَّا اسمُه، ولا من الشَّريعةِ إلَّا رَسمُها، ويحصُلُ للإسلامِ ما حصل للرِّسالاتِ السَّابقةِ التي حُرِّفت بسببِ اتِّباعِ الأهواءِ والآراءِ، حتَّى أصبحت لا تَمُتُّ إلى أصولِها بأيِّ صلةٍ.

انظر أيضا: