موسوعة الفرق

الفَرعُ الثَّالثُ: شُبهةُ المُعتَزِلةِ التي يتمسَّكونَ بها في قولِهم بوُجوبِ اللُّطفِ على اللهِ، ومُناقَشتُها


عرَفْنا آنِفًا أنَّ المُعتَزِلةَ ترى وُجوبَ اللُّطفِ على اللهِ، والآنَ لِنعرِفْ ما شُبهتُهم التي يتمسَّكونَ بها معَ المُناقَشةِ.
الشُّبهةُ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (الدَّليلُ على صحَّةِ ما اخترْناه مِن المذهَبِ هو أنَّه تعالى إذا كَلَّف المُكلَّفُ، وكان غَرضُه بذلك تعريضَه إلى درجةِ الثَّوابِ، وعَلِم أنَّ في مقدورِه ما لو فعَله به لاختار عندَه الواجِبَ واجتنَب القبيحَ، فلا بُدَّ مِن أن يفعَلَ به ذلك الفِعلَ، وإلَّا عاد بالنَّقضِ، وصار الحالُ فيه كالحالِ في أحدِنا إذا أراد مِن بعضِ أصدقائِه أن يُجيبَه إلى طعامٍ قد اتَّخَذه، وعَلِم مِن حالِه أنَّه لا يُجيبُه إلَّا إذا بعَث إليه بعضَ أعزَّتِه مِن وَلدٍ أو غَيرِه؛ فإنَّه يجِبُ عليه أن يبعَثَ إليه، حتَّى إذا لم يفعَلْ عاد بالنَّقضِ على غَرضِه، كذا هنا) [932] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 521). .
المُناقَشةُ:
يُقالُ لهم: ما مُرادُكم بهذا اللُّطفِ الذي إذا فعَله اللهُ بالعبدِ اختار عندَه الإيمانَ على الكُفرِ؟
(إن كنْتُم تُريدونَ به البيانَ العامَّ والهُدى العامَّ والتَّمكينَ مِن الطَّاعةِ وتهيئةَ أسبابِها، فهذا حاصِلٌ لكُلِّ كافِرٍ بَلغَته الحُجَّةُ، وتمكَّن مِن الإيمانِ) [933] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/415، 416). ، لكنَّه لم يلزَمْ منه إيمانُهم، بل وجَدْناهم قد بَلغَتهم الحُجَّةُ، ومعَ ذلك لم يُؤمِنوا؛ فعلى هذا: تفسيرُكم اللُّطفَ بهذا المعنى لا يلزَمُ منه الإيمانُ حتَّى يُقالَ بوُجوبِه أو عَدمِ وُجوبِه.
وإن كنتُم تُريدونَ باللُّطفِ الذي إذا فعَله سُبحانَه وتعالى بعبدِه أصبَح مُؤمِنًا، وإذا لم يفعَلْه لم يكنْ مُؤمِنًا، وهو التَّوفيقُ إلى فِعلِ ما يُرضيه، وذلك بأن يجعَلَه مُريدًا له مُحبًّا له مُؤثِرًا له على غَيرِه، ويجعَلَه مُبغِضًا كُلَّ ما يُسخِطُه وكارِهًا له [934] ((مدارج السالكين)) (1/414). ، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] ؛ فهذا اللُّطفُ قد فعَله اللهُ بمَن شاء مِن عِبادِه تفضُّلًا لا واجِبًا، بدليلِ قولِه تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 83] ، وبدليلِ قولِه تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور: 21] ، ولأنَّه لو كان واجِبًا لاستلزَم أن يكونَ النَّاسُ كُلُّهم مُؤمِنينَ، فلمَّا لم يكنْ ذلك دلَّ على أنَّه ليس بواجِبٍ.
ولأنَّ الواجِبَ على اللهِ مُحالٌ؛ لاستِحالةِ موجِبٍ فوقَه يوجِبُ عليه شيئًا [935] يُنظر: ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 79). ، ثُمَّ إنَّ قياسَكم الغائِبَ على الشَّاهِدِ معَ الفارِقِ؛ لأنَّ المخلوقَ يجوزُ في حقِّه الوُجوبُ بعكسِ الخالِقِ، فلا، وإذًا فالقياسُ باطِلٌ، وبذلك يَبطُلُ قولُكم: إنَّه يجِبُ على اللهِ أن يفعَلَ بعَبدِه اللُّطفَ الذي يختارُ عندَه الإيمانَ على الكُفرِ، وعليه فتبطُلُ شُبهتُكم مِن أساسِها. واللهُ أعلَمُ.

انظر أيضا: