موسوعة الفرق

الفَصْلُ الثَّاني: مُخالَفةُ الأشاعِرةِ لمَذهَبِ السَّلَفِ وتَأثُّرُهم بالمُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ والفَلاسِفةِ


تَقدَّمَ أنَّ المَذهَبَ الأَشْعَرِيَّ تَطوَّرَ كَثيرًا بواسِطةِ أعْلامِه حتَّى صارَ مَذهَبًا مُخالِفًا لمَذهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وقد بَدَأَتِ المُخالَفةُ لمَذهَبِ السَّلَفِ مِن أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ نفْسِه؛ فقد خالَفَ السَّلَفَ في بعضِ المَسائِلِ، معَ حِرْصِه على الانْتِسابِ إلى السُّنَّةِ، وقِيامِه بنُصْرةِ مَذاهِبِ السَّلَفِ في كَثيرٍ مِن المَسائِلِ، إلَّا أنَّه كانَ مُتَأثِّرًا ببعضِ أُصولِ المُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ، ثُمَّ ازْدادَ المَذهَبُ الأَشْعَرِيُّ بُعْدًا عن مَذهَبِ السَّلَفِ حتَّى صارَ الأشاعِرةُ يُخالِفونَ مَذهَبَ أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ نفْسِه معَ انْتِسابِهم إليه، ويُخالِفونَ قُدَماءَ أتْباعِه الَّذين أَشهَروا المَذهَبَ الأَشْعَرِيَّ كالباقِلَّانيِّ، ومِن أسْبابِ ذلك خَوْضُهم في عِلمِ الكَلامِ، وتَأثُّرُهم بالمُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ والفَلاسِفةِ.
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (ابنُ كُلَّابٍ قَوْلُه مَشوبٌ بقَوْلِ الجَهْميَّةِ، وهو مُرَكَّبٌ مِن قَوْلِ أهْلِ السُّنَّةِ وقَوْلِ الجَهْميَّةِ، وكذلك مَذهَبُ الأشْعَريِّ في الصِّفاتِ، وأمَّا في القَدَرِ والإيمانِ فقَوْلُه قَوْلُ جَهْمٍ، وأمَّا ما حَكاه عن أهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ وقالَ: وبِكلِّ ما ذَكَرْنا مِن قَوْلِهم نَقولُ، وإليه نَذهَبُ، فهو أَقرَبُ ما ذَكَرَه، وبعضُه ذَكَرَه عنهم على وَجْهِه، وبعضُه تَصرَّفَ فيه وخَلَطَه بِما هو مِن أقْوالِ جَهْمٍ في الصِّفاتِ والقَدَرِ؛ إذ كانَ هو نفْسُه يَعْتقِدُ صِحَّةَ تلك الأُصولِ، وهو يُحِبُّ الانْتِصارَ لأهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ ومُوافَقتَهم، فأرادَ أن يَجمَعَ بَيْنَ ما رآه مِن رأيِ أولئك، وبَيْنَ ما نَقَلَه عن هؤلاء. ولِهذا يَقولُ فيه طائِفةٌ: إنَّه خَرَجَ مِن التَّصْريحِ إلى التَّمْويهِ، كما يَقولُه طائِفةٌ: إنَّهم الجَهْميَّةُ الإناثُ، وأولئك الجَهْميَّةُ الذُّكورُ...، والطَّائِفتانِ أهْلُ السُّنَّةِ والجَهْميَّةُ يَقولونَ: إنَّه تَناقَضَ، لكنَّ السُّنِّيَّ يَحمَدُ مُوافَقتَه لأهْلِ الحَديثِ، ويَذُمُّ مُوافَقتَه للجَهْميَّةِ، والجَهْمِيُّ يَذُمُّ مُوافَقتَه لأهْلِ الحَديثِ، ويَحمَدُ مُوافَقتَه للجَهْميَّةِ؛ ولِهذا كانَ مُتَأخِّرو أصْحابِه كأبي المَعالي ونَحْوِه أَظهَرَ تَجَهُّمًا وتَعْطيلًا مِن مُتَقَدِّميهم، وهي مَواضِعُ دَقيقةٌ يَغفِرُ اللهُ لمَن أَخطَأَ فيها بَعْدَ اجْتِهادِه، لكنَّ الصَّوابَ ما أَخبَرَ به الرَّسولُ، فلا يكونُ الحَقُّ في خِلافِ ذلك قَطُّ، واللهُ أَعلَمُ) [781] ((مجموع الفتاوى)) (16/ 308). .
وقالَ ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (الأشْعريَّةُ الأَغلَبُ عليهم أنَّهم مُرْجِئةٌ في بابِ الأسْماءِ والأحْكامِ، جَبْريَّةٌ في بابِ القَدَرِ، وأمَّا في الصِّفاتِ فليسوا جَهْميَّةً مَحْضةً، بل فيهم نَوْعٌ مِن التَّجَهُّمِ) [782] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 55) باختِصارٍ يسيرٍ. .
وقالَ أيضًا: (كَثيرٌ مِن مُتَأخِّري أصْحابِ الأَشْعَرِيِّ خَرَجوا عن قَوْلِه إلى قَوْلِ المُعْتَزِلةِ أو الجَهْميَّةِ أو الفَلاسِفةِ) [783] ((شرح العَقيدة الأصفهانية)) (ص: 127). .
وقد تَقدَّمَتْ بعضُ النُّقولِ مِن الكُتُبِ المُعْتَمَدةِ عنْدَ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ، وفيها بَيانُ خَوْضِ الأشاعِرةِ في عِلمِ الكَلامِ المَذْمومِ، ومِن أَشهَرِ الأمْثِلةِ الَّتي تُبَيِّنُ قُرْبَ مُتَأخِّري الأشاعِرةِ مِن الجَهْميَّةِ نَفْيُهم الصِّفاتِ الإلَهيَّةَ الخَبَريَّةَ كالاسْتِواءِ؛ فقد خالَفوا مَذهَبَ شَيْخِهم أبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ -رَحِمَه اللهُ- الَّذي أَثبَتَ صِفةَ الاسْتِواءِ وغَيْرَها مِن الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ، ومعَ ذلك خالَفَه المُنْتَسِبونَ إليه، فأوَّلوا هذه الصِّفاتِ بما لا يَثبُتُ عن شَيْخِهم، ولا عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ الصَّالِحِ.
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ في رَدِّه على الرَّازِيِّ الَّذي نَصَرَ قَوْلَ الجَهْميَّةِ بنَفْيِ صِفةِ الاسْتِواءِ للهِ على عَرْشِه: (إذا كانَ قَوْلُ ابنِ كُلَّابٍ والأَشْعَرِيِّ وأئِمَّةِ أصْحابِه، وهو الَّذي ذَكَروا أنَّه اتَّفَقَ عليه سَلَفُ الأمَّةِ وأهْلُ السُّنَّةِ، أنَّ اللهَ فَوْقَ العَرْشِ، وأنَّ له وَجْهًا ويَدَينِ، وتَقْريرُ ما وَرَدَ مِن النُّصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّه فَوْقَ العَرْشِ، وأنَّ تَأويلَ اسْتَوى بمَعْنى: اسْتَولى هو تَأويلُ المُبْطِلينَ- عُلِمَ أنَّ هذا الرَّازِيَّ ونَحْوَه هُمُ المُخالِفونَ لأئِمَّتِهم في ذلك، وأنَّ الَّذي نَصَرَه ليس هو قَوْلَ ابنِ كُلَّابٍ والأَشْعَرِيِّ وأئِمَّةِ أصْحابِه، وإنَّما هو صَريحُ قَوْلِ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ ونَحْوِهم، وإن كانَ قد قالَه بعضُ مُتَأخِّري الأشْعَريَّةِ، كأبي المَعالي ونَحْوِه) [784] ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلاميَّة)) (3/ 382) باختِصارٍ يسيرٍ. .
ومِن الأمْثِلةِ الواضِحةِ على تَأثُّرِ الأشاعِرةِ بأهْلِ البِدَعِ والكَلامِ والفَلْسَفةِ، ومُخالَفتِهم لمُتَقدِّمي أئِمَّتِهم كأبي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ والباقِلَّانيِّ: قَوْلُ أبي المَعالي: (ذَهَبَ بعضُ أئِمَّتِنا إلى أنَّ اليَدَينِ والعَيْنَينِ والوَجْهَ صِفاتٌ ثابِتةٌ للرَّبِّ تَعالى، والسَّبيلُ إلى إثْباتِها السَّمْعُ دونَ قَضيَّةِ العَقْلِ، والَّذي يَصِحُّ عنْدَنا حَمْلُ اليَدَينِ على القُدْرةِ، وحَمْلُ العَيْنَينِ على البَصَرِ، وحَمْلُ الوَجْهِ على الوُجودِ) [785] ((الإرشاد إلى قواطع الادلة في أُصول الاعْتِقاد)) (ص: 175). .
فهذا الَّذي صَحَّحَه الجُوَينيُّ مُوافِقٌ لقَوْلِ الجَهْميَّةِ، وهو الَّذي اعْتَمَدَه الأشاعِرةُ المُتَأخِّرونَ، معَ مُخالَفتِه الصَّريحةِ لأئِمَّتِهم المُتَقدِّمينَ!
وقد وَصَلَ الحالُ بالأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ إلى مُوافَقةِ الجَهْميَّةِ في إنْكارِهم أنَّ اللهَ في السَّماءِ مُسْتَوٍ على عَرْشِه كما أَخبَرَ في كِتابِه، وخالَفوا أبا الحَسَنِ الَّذين يَنْتَسِبونَ إليه، وقالوا قَوْلَهم العَجيبَ الغَريبَ الَّذي لا يَعرِفُه أحَدٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأتْباعِهم: إنَّ اللهَ ليس بداخِلِ العالَمِ ولا خارِجِه، ولا فَوقَ ولا تحتَ [786] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعْتِقاد)) للغزالي (ص: 37)، ((أساس التقديس في علم الكلام)) للفخر الرَّازِي (ص: 19)، ((المواقف)) للإيجي مع شرح الجُرْجاني (3/ 31)، ((براءة الأشعريين من عَقائِد المُخالِفين)) للحامدي (1/ 82)، ويُنظر رسالة: ((نقض قول من تبع الفَلاسِفة في دعواهم أن الله لا داخل العالم ولا خارجه)) لمُحمَّد بن عبد الرحمن الخميس. !
وممَّا يُبَيِّنُ تَأثُّرَ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ بالمُعْتَزِلةِ تَصْريحُ الجُوَيْنيِّ بأنَّ خِلافَ الأشاعِرةِ معَ المُعْتَزِلةِ في صِفةِ الكَلامِ خِلافٌ لَفْظيٌّ، قالَ أبو المَعالي الجُوَيْنيُّ: (اعْلَموا أنَّ الكَلامَ معَ المُعْتَزِلةِ وسائِرِ المُخالِفينَ في هذه المَسْألةِ يَتَعلَّقُ بالنَّفْيِ والإثْباتِ؛ فإنَّ ما أَثبَتوه وقَدَّروه كَلامًا فهو في نفْسِه ثابِتٌ، وقَوْلُهم: إنَّه كَلامُ اللهِ تَعالى، إذا رُدَّ إلى التَّحْصيلِ آلَ الكَلامُ إلى اللُّغاتِ والتَّسْمياتِ؛ فإنَّ مَعْنى قَوْلِهم: "هذه العِباراتُ كَلامُ اللهِ" أنَّهم خَلْقُه، ونحن لا نُنكِرُ أنَّها خَلْقُ اللهِ، ولكن نَمْتنِعُ مِن تَسْميةِ خالِقِ الكَلامِ مُتَكلِّمًا به؛ فقد أَطبَقْنا على المَعْنى، وتَنازَعْنا بَعْدَ الاتِّفاقِ في تَسْميتِه) [787] ((الإرشاد إلى قواطع الإدلة في أُصول الاعْتِقاد)) (ص: 136). .
وقد صَرَّحَ بما قالَه الجُوَيْنيُّ الجُرْجانيُّ فقالَ: (اعْلَمْ أنَّ ما تَقولُه المُعْتَزِلةُ في كَلامِ اللهِ تَعالى، وهو خَلْقُ الأصْواتِ والحُروفِ الدَّالَّةِ على المَعاني المَقْصودةِ، وكَوْنُها حادِثةً قائِمةً بغَيْرِ ذاتِه تَعالى، فنحن نَقولُ به، ولا نِزاعَ بَيْنَنا وبَيْنَهم في ذلك، وما نَقولُه نحن ونُثبِتُه مِن كَلامِ النَّفْسِ المُغايِرِ لسائِرِ الصِّفاتِ فهُمْ يُنكِرونَ ثُبوتَه، ولو سَلَّموه لم يَنْفوا قِدَمَه الَّذي نَدَّعيه في كَلامِه تَعالى، فصارَ مَحَلُّ النِّزاعِ بَيْنَنا وبَيْنَهم نَفْيَ المَعْنى النَّفْسيِّ وإثْباتَه) [788] ((شرح المواقف)) (3/ 135). .
وممَّا يُبيِّنُ تَأثُّرَ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ بالفَلاسِفةِ قَوْلُ التَّفْتازانيِّ: (لمَّا نُقِلَتِ الفَلْسَفةُ إلى العَرَبيَّةِ وخاضَ فيها الإسْلامِيُّونَ، حاوَلوا الرَّدَّ على الفَلاسِفةِ فيما خالَفوا فيه الشَّريعةَ، فخَلَطوا بالكَلامِ كَثيرًا مِن الفَلْسَفةِ؛ ليَتَحَقَّقوا مَقاصِدَها فيَتَمَكَّنوا مِن إبْطالِها، وهَلُمَّ جَرًّا إلى أن أَدْرَجوا فيه مُعظَمَ الطَّبيعياتِ والإلَهيَّاتِ، وخاضوا فى الرِّياضياتِ حتَّى كادَ لا يَتَميَّزُ عن الفَلْسَفةِ، لولا اشْتِمالُه على السَّمْعيَّاتِ، وهذا هو كَلامُ المُتَأخِّرينَ) [789] ((شرح العَقائِد النسفية)) (ص: 12). .

انظر أيضا: