موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالِثُ: اضْطِرابُ الأشاعِرةِ في أَدِلَّةِ الصِّفاتِ


 تَقدَّمَ أنَّ الأشاعِرةَ يُقَرِّرونَ أنَّ الأَدِلَّةَ النَّقْليَّةَ وإن كانَت مِن القُرْآنِ الكَريمِ فَضْلًا عن الأحاديثِ المُتَواتِرةِ أو الآحادِ- لا تُفيدُ اليَقينَ.
قالَ الرَّازِيُّ: (الدَّلائِلُ النَّقْليَّةُ لا تُفيدُ اليَقينَ؛ لأنَّها مَبْنيَّةٌ على نَقْلِ اللُّغاتِ، ونَقْلِ النَّحْوِ والتَّصْريفِ، وعَدَمِ الاشْتِراكِ، وعَدَمِ المَجازِ، وعَدَمِ الإضْمارِ، وعَدَمِ النَّقْلِ، وعَدَمِ التَّقْديمِ والتَّأخيرِ، وعَدَمِ التَّخْصيصِ، وعَدَمِ النَّسْخِ، وعَدَمِ المُعارِضِ العَقْليِّ. وعَدَمُ هذه الأشْياءِ مَظْنونٌ لا مَعْلومٌ، والمَوْقوفُ على المَظْنونِ مَظْنونٌ، وإذا ثَبَتَ هذا ظَهَرَ أنَّ الدَّلائِلَ النَّقْليَّةَ ظَنِّيَّةٌ، وأنَّ العَقْليَّةَ قَطْعيَّةٌ، والظَّنُّ لا يُعارِضُ القَطْعَ) [769] ((معالم أُصول الدين)) (ص: 25). ويُنظر: ((الأربعين في أُصول الدين)) للرازي (2/ 251 - 254). .
قالَ ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ المُعارِضينَ بَيْنَ العَقْلِ والنَّقْلِ وبَيْنَ ما أَخبَرَ به الرَّسولُ قد اعْتَرَفوا بأنَّ العِلمَ بانْتِفاءِ المُعارِضِ مُطلَقًا لا سَبيلَ إليه؛ إذ ما مِن مُعارِضٍ بنفْسِه إلَّا ويُحْتمَلُ أن يكونَ له مُعارِضٌ آخَرُ، وهذا ما اعْتَمَدَ عليه صاحِبُ نِهايةِ العُقولِ، وجَعَلَ السَّمْعيَّاتِ لا يُحتَجُّ بِها على العِلمِ بحالٍ! وحاصِلُ هذا أنَّا لا نَعلَمُ ثُبوتَ ما أَخبَرَ به الرَّسولُ حتَّى نَعلَمَ انْتِفاءَ ما يُعارِضُه، ولا سَبيلَ إلى العِلمِ بانْتِفاءِ المُعارِضِ مُطلَقًا لِما تَقدَّمَ، وأيضًا فلا يَلزَمُ مِن انْتِفاءِ العِلمِ بالمُعارِضِ العِلمُ بانْتِفاءِ المُعارِضِ، ولا رَيْبَ أنَّ هذا القَوْلَ مِن أَفسَدِ أقْوالِ العالمِ، وهو مِن أَعظَمِ أُصولِ أهْلِ الإلْحادِ والزَّنْدَقةِ، وليس في عَزْلِ الوَحْيِ عن مَرتَبتِه أَبلَغُ مِن هذا) [770] ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) (2/ 731). .
ومعَ تَقْريرِ الأشاعِرةِ أنَّ الأَدِلَّةَ السَّمْعيَّةَ لا تُفيدُ اليَقينَ يَقْطَعونَ بعِلمِهم بما وَرَدَ في بابِ الإيمانِ باليَوْمِ الآخِرِ معَ عَدَمِ تَيقُّنِهم بانْتِفاءِ المُعارِضِ العَقْليِّ في الدَّليلِ النَّقْليِّ، فتَناقَضوا في قَوْلِهم: إنَّ الدَّليلَ السَّمْعيَّ يُفيدُ الظَّنَّ ولا يُفيدُ اليَقينَ، ومعَ ذلك يَقولونَ بأنَّهم يَجْزِمونَ بما أَخبَرَ اللهُ به في كِتابِه عن اليَوْمِ الآخِرِ، وهذا تَناقُضٌ!
ومِن تَناقُضِهم أيضًا: أنَّهم يُقرِّرونَ أنَّهم لا يَعْتمِدونَ على أحاديثِ الآحادِ في بابِ العَقائِدِ كأحاديثِ الصِّفاتِ، ومعَ ذلك يَعْتمِدونَ على أحاديثَ مَوْضوعةٍ وضَعيفةٍ في تَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، فيُجَوِّزُ بعضُهم مَثَلًا الاسْتِغاثةَ بغَيْرِ اللهِ، وليس لهم حُجَّةٌ على ذلك إلَّا شُبُهاتٌ مُضلَّةٌ، وأحاديثُ مَوْضوعةٌ، وحِكاياتٌ مَكْذوبةٌ، وقد تَقدَّمَتِ الإشارةُ إلى ذلك في البابِ الرَّابِعِ: تَوْحيدُ الأُلوهيَّةِ عنْدَ الأشاعِرةِ، وتَقدَّمَ في البابِ الثَّالِثِ ذِكْرُ بعضِ النُّقولِ عن بعضِ أئِمَّةِ المَذهَبِ الأَشْعَرِيِّ ممَّا فيه مُخالَفةٌ صَريحةٌ لتَوْحيدِ الرُّبوبيَّةِ وتَوْحيدِ الأُلوهيَّةِ، ومِن ذلك الغُلُوُّ في الصَّالِحينَ إلى حَدِّ اعْتِقادِ أنَّهم يَعلَمونَ الغَيْبَ، وأنَّهم يَسْتَجيبونَ لِمَن دَعاهم بَعْدَ مَوْتِهم، ولم يَسْتَدِلُّوا على ذلك بأَدِلَّةٍ قَطْعيَّةٍ مِن القُرْآنِ ولا مِن السُّنَّةِ الصَّحيحةِ المُتَواتِرةِ، أو حتَّى الآحادِ الصَّحيحةِ، معَ أنَّ تَوْحيدَ الأُلوهيَّةِ أَعظَمُ أبوابِ العَقيدةِ، واللهُ المُسْتعانُ!

انظر أيضا: