موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: اضْطِرابُ الأشاعِرةِ في نَفْيِ الصِّفاتِ


اعْتَمَدَ الأشاعِرةُ في نَفْيِ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ؛ كالرَّحْمةِ، والغَضَبِ، والرِّضا، والنُّزولِ، والاسْتِواءِ على أصْلِ نَفْيِ حُلولِ الحَوادِثِ، ثُمَّ شَرَعوا في تَأويلِها فتَناقَضوا واضْطَرَبوا حتَّى وَصَلَ بِهم الحالُ إلى القَوْلِ العَجيبِ الَّذي ما سَبَقَهم به أحَدٌ مِن العالَمينَ، وهو قَوْلُهم: اللهُ لا فَوْقَ ولا تحتَ، ولا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَه [766] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعْتِقاد)) للغزالي (ص: 37)، ((أساس التقديس في علم الكلام)) للفخر الرَّازِيّ (ص: 19)، ((المواقف)) للإيجي مع شرح الجُرْجاني (3/ 31). !
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ رادًّا على مَن يَنْفي صِفاتِ اللهِ بحُجَّةِ أنَّ إثْباتَها يَسْتلزِمُ حُلولَ الحَوادِثِ باللهِ سُبْحانَه، حتَّى نَفَوا أن يكونَ اللهُ يَعلَمُ الشَّيءَ حينَ وُقوعِه: (ليس لهم قَطُّ حُجَّةٌ على نَفْيِ الصِّفاتِ إلَّا ما تَخَيَّلوه مِن أنَّ هذا تَرْكيبٌ، وقدْ بَيَّنَّا فَسادَه مِن وُجوهٍ كَثيرةٍ. أمَّا التَّغَيُّرُ فقالوا: العِلمُ بالمُتَغَيِّراتِ يَسْتَلْزِمُ أن يكونَ عِلمُه بأنَّ الشَّيءَ سيكونُ غَيْرَ عِلمِه بأن قد كانَ، فيَلزَمُ أن يكونَ مَحَلًّا للحَوادِثِ، وهُمْ ليس عنْدَهم على نَفْيِ هذه اللَّوازِمِ حُجَّةٌ أصْلًا، لا بَيِّنةٌ ولا شُبْهةٌ، وإنَّما نَفَوه لنَفْيِهم الصِّفاتِ لا لأمْرٍ يَخْتَصُّ بذلك، بخِلافِ مَن نَفى ذلك مِن الكُلَّابيَّةِ ونَحْوِهم؛ فإنَّهم لمَّا اعْتَقَدوا أنَّ القَديمَ لا تَقومُ به الحَوادِثُ قالوا: لأنَّها لو قامَتْ به لم يَخْلُ مِنها، وما لم يَخْلُ مِن الحَوادِثِ فهو حادِثٌ، وقدْ بَيَّنَ أتْباعُهم كالرَّازيِّ والآمِدِيِّ وغَيْرِهم فَسادَ المُقَدِّمةِ الأُولى الَّتي يُخالِفُهم فيها جُمْهورُ العُقَلاءِ، ويَقولونَ: بلِ القابِلُ للشَّيءِ قد يَخْلو عنه وعن ضِدِّه، أمَّا المُقَدِّمةُ الثَّانيةُ فهي حُجَّةُ المُتَكلِّمينَ الجَهْميَّةِ والقَدَريَّةِ ومَن وافَقَهم مِن أهْلِ الكَلامِ على إثْباتِ حُدوثِ الأجْسامِ باسْتِلْزامِها للحَوادِثِ، وقالوا: ما لا يَخْلو عن الحَوادِثِ أو ما لا يَسبِقُها فهو حادِثٌ؛ لبُطْلانِ حَوادِثَ لا أوَّلَ لها، وهو التَّسَلْسُلُ في الآثارِ. والفَلاسِفةُ لا يَقولونَ بشيءٍ مِن ذلك، بل عنْدَهم القَديمُ تَحُلُّه الحَوادِثُ، ويُجَوِّزونَ الحَوادِثَ لا أوَّلَ لها؛ ولِهذا كانَ كَثيرٌ مِن أساطينِهم ومُتَأخِّريهم كأبي البَرَكاتِ يُخالِفونَهم في إثْباتِ الصِّفاتِ وقِيامِ الحَوادِثِ بالواجِبِ، وقالوا لإخْوانِهم الفَلاسِفةِ: ليس معَكم حُجَّةٌ على نَفْيِ ذلك، بل هذه الحُجَّةُ أَثْبَتُّموها مِن جِهةِ التَّنْزيهِ والتَّعْظيمِ بلا حُجَّةٍ، والرَّبُّ لا يكونُ مُدَبِّرًا للعالَمِ إلَّا بِهذه القَضيَّةِ، فكانَ مِن تَنْزيهِ الرَّبِّ وإجْلالِه تَنْزيهُه عن هذا التَّنْزيهِ، وإجلالُه عن هذا الإجْلالِ. وللنُّظَّارِ في جَوابِهم عن هذا طَريقانِ: مِنهم مَن يَمنَعُ المُقَدِّمةَ الأُولى، ومِنهم مَن يَمنَعُ الثَّانيةَ؛ فالأوَّلُ جَوابُ كَثيرٍ مِن المُعْتَزِلةِ والأشْعَريِّ وأصْحابِه وغَيْرِهم مِمَّن يَنْفي حُلولَ الحَوادِثِ، فادَّعى هؤلاء أنَّ العِلمَ بأنَّ الشَّيءَ سيَكونُ هو عَيْنَ العِلمِ بأنَّه قد كانَ، وأنَّ المُتَجَدِّدَ إنَّما هو نِسْبتُه بَيْنَ المَعْلومِ والعِلمِ، لا أمْرٌ ثُبوتيٌّ، والثَّاني جَوابُ هِشامٍ وابنِ كَرَّامٍ وأبي الحُسَيْنِ البَصْريِّ وأبي عَبْدِ اللهِ بنِ الخَطيبِ، وطَوائِفَ غَيْرِ هؤلاء، قالوا: لا مَحْذورَ في هذا، وإنَّما المَحْذورُ في ألَّا يَعلَمَ الشَّيءَ حتَّى يكونَ؛ فإنَّ هذا يَسْتَلْزِمُ أنَّه لم يكنْ عالِمًا، وأنَّه أَحدَثَ بلا عِلمٍ، وهذا قَوْلٌ باطِلٌ...، والمَقْصودُ أن يَعرِفَ الإنْسانُ أنَّهم يَقولونَ مِن الجَهْلِ والكُفْرِ ما هو في غايةِ الضَّلالِ فِرارًا مِن لازِمٍ ليس لهم قَطُّ دَليلٌ على نَفْيِه، ولو قُدِّرَ شُبْهةٌ تُعارِضُ ثُبوتَ العِلمِ، فأين هذا مِن هذا؟! وأين الأدِلَّةُ الدَّالَّةُ على ثُبوتِ عِلمِه والمَحْذورِ في نَفْيِ عِلمِه ممَّا يُظَنُّ أنَّه يَدُلُّ على نَفْيِ الصِّفاتِ أو نَفْيِ بعضِها دَليلًا ومَحْذورًا؟!) [767] ((الرد على المنطقيين)) (ص: 463 - 467) باختِصارٍ وتصَرُّفٍ. .
ومَن اضْطِرابِ الأشاعِرةِ وتَناقُضِهم: أنَّهم نَفَوا الصِّفاتِ الفِعليَّةَ؛ كصِفةِ الرَّحْمةِ، والغَضَبِ، والرِّضا؛ لأنَّها كما يَزعُمونَ لا يَدُلُّ عليها العَقْلُ، معَ أنَّه يُمكِنُ إثْباتُها بالعَقْلِ، وهي ثابِتةٌ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ.
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (فإن قالَ: تلك الصِّفاتُ أَثبَتَها بالعَقْلِ؛ لأنَّ الفِعلَ الحادِثَ دَلَّ على القُدْرةِ، والتَّخْصيصُ دَلَّ على الإرادةِ، والإحْكامُ دَلَّ على العِلمِ، وهذه الصِّفاتُ مُسْتلزِمةٌ للحَياةِ، والحَيُّ لا يَخْلو عن السَّمْعِ والبَصَرِ والكَلامِ أو ضِدِّ ذلك. قالَ له سائِرُ أهْلِ الإثْباتِ: لك جَوابانِ:
أحَدُهما: أن يُقالَ: عَدَمُ الدَّليلِ المُعيَّنِ لا يَسْتلزِمُ عَدَمَ المَدْلولِ المُعيَّنِ، فهَبْ أنَّ ما سَلَكْتَه مِن الدَّليلِ العَقْليِّ لا يُثبِتُ ذلك؛ فإنَّه لا يَنْفيه، وليس لك أن تَنْفيَه بغَيْرِ دَليلٍ؛ لأنَّ النَّافيَ عليه الدَّليلُ، كما على المُثبِتِ. والسَّمْعُ قد دَلَّ عليه، ولم يُعارِضْ ذلك مُعارِضٌ عَقْليٌّ ولا سَمْعيٌّ، فيَجِبُ إثْباتُ ما أَثبَتَه الدَّليلُ السَّالِمُ عن المُعارِضِ المُقاوِمِ.
الثَّاني: أن يُقالَ: يُمكِنُ إثْباتُ هذه الصِّفاتِ بنَظيرِ ما أَثْبَتَّ به تلك مِن العَقْليَّاتِ، فيقالُ:...، إكْرامُ الطَّائِعينَ يَدُلُّ على مَحَبَّتِهم، وعِقابُ الكُفَّارِ يَدُلُّ على بُغْضِهم، كما قد ثَبَتَ بالشَّاهِدِ والخَبَرِ مِن إكْرامِ أوْلِيائِه وعِقابِ أعْدائِه، والغاياتُ المَحْمودةُ في مَفْعولاتِه ومَأموراتِه -وهي ما تَنْتَهي إليه مَفْعولاتُه ومَأموراتُه مِن العَواقِبِ الحَميدةِ- تَدُلُّ على حِكْمتِه البالِغةِ كما يَدُلُّ التَّخْصيصُ على المَشيئةِ وأَوْلى؛ لِقُوَّةِ العِلَّةِ الغائِيَّةِ؛ ولِهذا كانَ ما في القُرْآنِ مِن بَيانِ ما في مَخْلوقاتِه مِن النِّعَمِ والحِكَمِ أَعظَمَ ممَّا في القُرْآنِ مِن بَيانِ ما فيها مِن الدَّلالةِ على مَحْضِ المَشيئةِ) [768] ((التدمرية)) (ص: 33 - 35). .

انظر أيضا: