موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: اضطِرابُ الأشاعِرةِ في إثْباتِ الصِّفاتِ


أَثبَتَ الأشاعِرةُ مِن الصِّفاتِ الوُجوديَّةِ الثُّبوتيَّةِ سَبْعَ صِفاتٍ سَمَّوها صِفاتِ المَعاني، ونَفَوا ما عَداها مِن الصِّفاتِ الخَبَريَّةِ الذَّاتيَّةِ والفِعْليَّةِ، معَ أنَّ الأصْلَ أنَّ القَوْلَ في بعضِ الصِّفاتِ كالقَوْلِ في بعضِها الآخَرِ، فإن كانَ لا يَلزَمُ مِن إثْباتِ الصِّفاتِ السَّبْعِ أيُّ مَحْذورٍ مِن المَعاني فكذلك لا يَلزَمُ مِن إثْباتِ بَقيَّةِ الصِّفاتِ تلك المَحاذيرُ. وإذا كانَ يَلزَمُ مِن إثْباتِ بَقيَّةِ الصِّفاتِ تلك المَحاذيرُ فقد لَزِمَ إثْباتُها مِن إثْباتِ الصِّفاتِ السَّبْعِ؛ لأنَّ الأصْلَ واحِدٌ.
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (إن كانَ المُخاطَبُ ممَّن يُقِرُّ بأنَّ اللهَ حيٌّ بحَياةٍ، عَليمٌ بعِلمٍ، قَديرٌ بقُدْرةٍ، سَميعٌ بسَمْعِ، بَصيرٌ ببَصَرٍ، مُتَكلِّمٌ بكَلامٍ، مُريدٌ بإرادةٍ، ويَجعَلُ ذلك كلَّه حَقيقةً، ويُنازِعُ في مَحبَّتِه ورِضاه وغَضَبِه وكَراهيتِه، فيَجعَلُ ذلك مَجازًا، ويُفَسِّرُه إمَّا بالإرادةِ، وإمَّا ببعضِ المَخْلوقاتِ مِن النَّعِمِ والعُقوباتِ- قيلَ له: لا فَرْقَ بَيْنَ ما نَفَيْتَه وبَيْنَ ما أَثْبَتَّه، بلِ القَوْلُ في أحَدِهما كالقَوْلِ في الآخَرِ، فإن قُلْتَ: إنَّ إرادتَه مِثلُ إرادةِ المَخْلوقينَ، فكذلك مَحبَّتُه ورضاه وغَضَبُه، وهذا هو التَّمْثيلُ، وإن قُلْتَ: له إرادةٌ تَليقُ به كما أنَّ للمَخْلوقِ إرادةٌ تَليقُ به، قيلَ لك: وكذلك له مَحَبَّةٌ تَليقُ به، ولِلمَخْلوقِ مَحَبَّةٌ تَليقُ به، وله رِضًا وغَضَبٌ يَليقُ به، ولِلمَخْلوقِ رِضًا وغَضَبٌ يَليقُ به. وإن قالَ: الغَضَبُ غَلَيانُ دَمِ القَلْبِ لطَلَبِ الانْتِقامِ، قيلَ له: والإرادةُ مَيْلُ النَّفْسِ إلى جَلْبِ مَنْفعةٍ أو دَفْعِ مَضَرَّةٍ، فإن قُلْتَ: هذه إرادةُ المَخْلوقِ، قيلَ لك: وهذا غَضَبُ المَخْلوقِ. وكذلك يَلزَمُ بالقَوْلِ في كَلامِه وسَمْعِه وبَصَرِه وعِلمِه وقُدْرتِه، إن نَفى عنه الغَضَبَ والمَحَبَّةَ والرِّضا ونَحْوَ ذلك ممَّا هو مِن خَصائِصِ المَخْلوقينِ، فهذا مُنْتَفٍ عن السَّمْعِ والبَصَرِ والكَلامِ وجَميعِ الصِّفاتِ، وإن قالَ: إنَّه لا حَقيقةَ لِهذا إلَّا ما يَختَصُّ بالمَخْلوقينَ فيَجِبُ نَفْيُه عنه، قيلَ له: وهكذا السَّمْعُ والبَصَرُ والكَلامُ والعِلمُ والقُدْرةُ. فهذا المُفرِّقُ بَيْنَ بعضِ الصِّفاتِ وبعضٍ، يُقالُ له فيما نَفاه كما يَقولُه هو لِمُنازِعه فيما أَثبَتَه، فإذا قالَ المُعْتزِليُّ: ليس له إرادةٌ ولا كَلامٌ قائِمٌ به؛ لأنَّ هذه الصِّفاتِ لا تَقومُ إلَّا بالمَخْلوقاتِ، فإنَّه يُبيِّنُ لِلمُعْتزِليِّ أن هذه الصِّفاتِ يَتَّصِفُ بها القَديمُ، ولا تكونُ كصِفاتِ المُحدَثاتِ. فهكذا يقولُ له المُثبِتونَ لسائِرِ الصِّفاتِ مِن المَحَبَّةِ والرِّضا ونَحْوِ ذلك) [757] ((التدمرية)) (ص: 31 - 33). .
ومِن اضْطِرابِ الأشاعِرةِ في الصِّفاتِ إثْباتُهم صِفةَ الكَلامِ النَّفْسيِّ الَّذي ابْتَدَعوه، ونَفَوا لِذلك أن يكونَ اللهُ يَتَكلَّمُ متى شاءَ، ونَفَوا أن يكونَ كَلامُ اللهِ مَسْموعًا، ويَقولونَ: إنَّ كَلامَ اللهِ أَزلِيٌّ، وكلُّه واحِدٌ، فالأمْرُ والنَّهْيُ والخَبَرُ كلُّه كَلامٌ واحِدٌ، ولا يُثبِتونَ كأهْلِ السُّنَّةِ أنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ متى شاءَ بحَرْفٍ وصَوْتٍ، بل كَلامُه سُبْحانَه عنْدَهم صِفةٌ قَديمةٌ لا تَجدُّدَ لها، في حينِ أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ يَقولونَ: كَلامُ اللهِ قَديمُ النَّوْعِ، حادِثُ الآحادِ، وخالَفوا الأَدِلَّةَ الكَثيرةَ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ على إثْباتِ صِفةِ الكَلامِ للهِ سُبْحانَه، وأنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ بما شاءَ متى شاءَ، وأنَّ كَلامَ اللهِ بصَوْتٍ وحَرْفٍ، وقد تَقدَّمَ تَفْصيلُ ذلك في مَبحَثِ صِفةِ الكَلامِ مِن البابِ الخامِسِ.
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (مَسْألةُ الكَلامِ الَّتي امْتازَ بِها ابنُ كَلَّابٍ والأَشْعَرِيُّ عن غَيْرِهما، وإلَّا فسائِرُ المَسائِلِ ليس لابنِ كُلَّابٍ والأَشْعَرِيِّ بها اخْتِصاصٌ، بل ما قالاه قالَه غَيْرُهما، إمَّا مِن أهْلِ السُّنَّةِ والحَديثِ، وإمَّا مِن غَيْرِهم، بخِلافِ ما قالَه ابنُ كُلَّابٍ في مَسْألةِ الكَلامِ، واتَّبَعَه عليه الأَشْعَرِيُّ؛ فإنَّه لم يَسبِقِ ابنَ كُلَّابٍ إلى ذلك أحَدٌ، ولا وافَقَه عليه مِن رُؤوسِ الطَّوائِفِ، وأصْلُه في ذلك مَسْألةُ الصِّفاتِ الاخْتِياريَّةِ، ونَحْوِها مِن الأمورِ المُتَعلِّقةِ بمَشيئتِه وقُدْرتِه تَعالى: هل تَقومُ بذاتِه أم لا؟ فكانَ السَّلَفُ والأئِمَّةُ يُثبِتونَ ما يَقومُ بذاتِه مِن الصِّفاتِ والأفْعالِ مُطلَقًا، والجَهْميَّةُ مِن المُعْتَزِلةِ وغَيْرِهم يُنكِرونَ ذلك مُطلَقًا، فوافَقَ ابنُ كُلَّابٍ السَّلَفَ والأئِمَّةَ في إثْباتِ الصِّفاتِ، ووافَقَ الجَهْميَّةَ في نَفْيِ قِيامِ الأفْعالِ به تَعالى، وما يَتَعلَّقُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه؛ ولِهذا وغَيْرِه تَكلَّمَ النَّاسُ فيمَن اتَّبَعَه، كـالقَلانِسيُّ والأَشْعَرِيِّ ونَحْوِهما بأنَّ في أقْوالِهم بَقايا مِن الاعْتِزالِ، وهذه البَقايا أصْلُها هو الاسْتِدْلالُ على حُدوثِ العالَمِ بطَريقةِ الحَرَكاتِ؛ فإنَّ هذا الأصْلَ هو الَّذي أَوقَعَ المُعْتَزِلةَ في نَفْيِ الصِّفاتِ والأفْعالِ) [758] ((درء تعارض العَقْل والنَّقْل)) (2/ 98) بتصَرُّفٍ يَسيرٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (السَّلَفُ وأئِمَّةُ السُّنَّةِ والحَديثِ يَقولونَ: إنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، وكَلامُه ليس بمَخْلوقٍ، بل كَلامُه صِفةٌ له قائِمةٌ بذاتِه...، مُتَّفِقونَ على أنَّه لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ وكيف شاءَ...، يَقولونَ: إنَّه صِفةُ ذاتٍ وفِعْلٍ، هو يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه كَلامًا قائِمًا بذاتِه، وهذا هو المَعْقولُ مِن صِفةِ الكَلامِ لكلِّ مُتَكلِّمٍ، فكلُّ حَيٍّ وُصِفَ بالكَلامِ؛ كالمَلائِكةِ، والبَشَرِ، والجِنِّ، وغَيْرِهم فكَلامُهم لا بُدَّ أن يَقومَ بأنْفُسِهم، وهُمْ يَتَكلَّمونَ بمَشيئتِهم وقُدْرتِهم. والكلامُ صِفةُ كَمالٍ لا صِفةُ نَقْصٍ، ومَن تَكلَّمَ بمَشيئتِه أَكمَلُ ممَّن لا يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه، فكيف يَتَّصِفُ المَخْلوقُ بصِفاتِ الكَمالِ دونَ الخالِقِ؟! ولكنَّ الجَهْميَّةَ والمُعْتَزِلةَ بَنَوا على أصْلِهم أنَّ الرَّبَّ لا يَقومُ به صِفةٌ؛ لأنَّ ذلك بزَعْمِهم يَسْتلزِمُ التَّجْسيمَ والتَّشْبيهَ المُمْتنِعَ؛ إذ الصِّفةُ عَرَضٌ، والعَرَضُ لا يَقومُ إلَّا بجِسْمٍ، والكُلَّابيَّةُ يَقولونَ: هو مُتَّصِفٌ بالصِّفاتِ الَّتي ليس له عليها قُدْرةٌ، ولا تكونُ بمَشيئتِه، فأمَّا ما يكونُ بمَشيئتِه فإنَّه حادِثٌ، والرَّبُّ تَعالى لا تقومُ به الحَوادِثُ، ويُتَرجِمونَ الصِّفاتِ الاخْتِياريَّةَ بمَسْألةِ حُلولِ الحَوادِثِ؛ فإنَّه إذا كَلَّمَ موسى بنَ عِمْرانَ بمَشيئتِه وقُدْرتِه وناداه حينَ أتاه بقُدْرتِه ومَشيئتِه كانَ ذلك النِّداءُ والكَلامُ حادِثًا. قالوا: فلو اتَّصَفَ الرَّبُّ به لَقامَتْ به الحَوادِثُ، قالوا: ولو قامَتْ به الحَوادِثُ لم يَخْلُ مِنها، وما لم يَخْلُ مِن الحَوادِثِ فهو حادِثٌ، قالوا: ولأنَّ كَوْنَه قابِلًا لتلك الصِّفةِ إن كانَ مِن لَوازِمِ ذاتِه كانَ قابِلًا لها في الأزَلِ، فيَلزَمُ جَوازُ وُجودِها في الأزَلِ، والحَوادِثُ لا تكونُ في الأزَلِ؛ فإنَّ ذلك يَقْتَضي وُجودَ حَوادِثَ لا أوَّلَ لها) [759] ((جامع الرسائل لابن تيمية)) (2/ 4، 6، 7) بتصَرُّفٍ. .
وقالَ ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (السَّلَفُ والأئِمَّةُ قالوا: إنَّ اللهَ تَكلَّمَ بالقُرْآنِ وغَيْرِه مِن الكُتُبِ المُنزَّلةِ، وإنَّ اللهَ نادى موسى بصَوْتٍ سَمِعَه موسى بأُذُنِه، كما دَلَّتْ على ذلك النُّصوصُ، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: إنَّ ذلك النِّداءَ الَّذي سَمِعَه موسى قَديمٌ أزَليٌّ، ولكن قالوا: إنَّ اللهَ لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ وكيف شاءَ؛ لأنَّ الكَلامَ صِفةُ كَمالٍ لا صِفةُ نَقْصٍ، وإنَّما يكونُ صِفةَ كَمالٍ إذا قامَ به، لا إذا كانَ مَخْلوقًا بائِنًا عنه؛ فإنَّ المَوْصوفَ -إلَّا بما قامَ به- لا يَتَّصِفُ بما هو بائِنٌ عنه، فلا يكونُ المَوْصوفُ حَيًّا عالِمًا قادِرًا، مُتَكلِّمًا رَحيمًا مُريدًا، بحَياةٍ قامَتْ بغَيْرِه، ولا بعِلمٍ وقُدْرةٍ قامَت بغَيْرِه، ولا بكَلامٍ ورَحْمةٍ وإرادةٍ قامَت بغَيْرِه، والكُلامُ بمَشيئةِ المُتَكلِّمِ وقُدْرتِه أَكمَلُ ممَّن لا يكونُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، وأمَّا كَلامٌ يَقومُ بذاتِ المُتَكلِّمِ بلا مَشيئتِه وقُدْرتِه؛ فإمَّا أنَّه مُمْتنِعٌ، أو هو صِفةُ نَقْصٍ، كما يُدَّعى مِثلُ ذلك في المَصْروعِ. وإذا كانَ كَمالًا فدَوامُ الكَمالِ له، وأنَّه لم يَزَلْ مَوْصوفًا بصِفاتِ الكَمالِ أَكمَلُ مِن كَوْنِه صارَ مُتَكلِّمًا بَعْدَ أن لم يكنْ، لو قُدِّرَ أنَّ هذا مُمْكِنٌ فكيف إذا كانَ مُمْتنِعًا؟! وكانَ أئِمَّةُ السُّنَّةِ والجَماعةِ كلَّما ابتُدِعَ في الدِّينِ بِدْعةٌ أَنكَروها، ولم يُقِرُّوها؛ ولِهذا حَفِظَ اللهُ دينَ الإسلامِ، فلا يَزالُ في أمَّةِ مُحمَّدٍ طائِفةٌ هادِيةٌ مَهْديَّةٌ، ظاهِرةٌ مَنْصورةٌ) [760] ((الجواب الصَّحيح لمن بدل دين المسيح)) (4/ 341). .
وكذلك أَثبَتَ الأشاعِرةُ للهِ إرادةً ومَشيئةً قَديمةً، ونَفَوا أن يكونَ اللهُ يَفعَلُ ما يَشاءُ في أيِّ وَقْتٍ وحينٍ، وهذا شيءٌ غَريبٌ أَوقَعَهم في إشْكالاتٍ مُتَناقِضةٍ، وقد تَقدَّمَ نَقْلُ كَلامِ أئِمَّتِهم في مَبحَثِ صِفةِ الإرادةِ مِن البابِ الخامِسِ.
قالَ ابنُ تَيْميَّةَ: (الإرادةُ الَّتي يُثبِتونَها لم يَدُلَّ عليها سَمْعٌ ولا عَقْلٌ؛ فإنَّه لا تُعرَفُ إرادةٌ تُرجِّحُ مُرادًا على مُرادٍ بلا سَبَبٍ يَقْتَضي التَّرجيحَ، ومَن قالَ مِن الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ: إنَّ القادِرَ يُرَجِّحُ أحَدَ مَقْدورَيه على الآخَرِ بلا مُرَجِّحٍ فهو مُكابِرٌ، وتَمْثيلُهم ذلك بالجائِعِ إذا أخَذَ أحَدَ الرَّغيفَينِ، والهارِبِ إذا سَلَكَ أحَدَ الطَّريقَينِ حُجَّةٌ عليهم، فإنَّ ذلك لا يَقَعُ إلَّا معَ رُجْحانِ أحَدِهما؛ إمَّا لكَوْنِه أَيسَرَ في القُدْرةِ، وإمَّا لأنَّه الَّذي خَطَرَ ببالِه وتَصَوُّرِه أو ظَنَّ أنَّه أَنفَعُ، فلا بُدَّ مِن رُجْحانِ أحَدِهما بنَوْعٍ ما؛ إمَّا مِن جِهةِ القُدْرةِ، وإمَّا مِن جِهةِ التَّصَوُّرِ والشُّعورِ، وحينَئذٍ يُرَجِّحُ إرادتَه والآخَرُ لم يُرِدْه، فكيف يُقالُ: إنَّ إرادتَه رَجَّحَتْ أحَدَهما بِلا مُرَجِّحٍ، أو إنَّه رَجَّحَ إرادةَ هذا على إرادةِ ذاك بِلا مُرَجِّحٍ؟! وهذا مُمْتنِعٌ، يَعرِفُ امْتِناعَه مَن تَصَوَّرَه حَقَّ التَّصَوُّرِ، ولكن لمَّا تَكَلَّموا في مَبدَأِ الخَلْقِ بكَلامٍ ابْتَدَعوه خالَفوا به الشَّرْعَ والعَقْلَ احْتاجوا إلى هذه المُكابَرةِ، وبِذلك تَسَلَّطَ عليهم الفَلاسِفةُ مِن جِهةٍ أخرى، فلا لِلإسْلامِ نَصَروا، ولا لِلفَلاسِفةِ كَسَروا، ومَعْلومٌ بصَريحِ العَقْلِ أنَّ القادِرَ إذا لم يكنْ مُريدًا للفِعْلِ ولا فاعِلًا، ثُمَّ صارَ مُريدًا فاعِلًا، فلا بُدَّ مِن حُدوثِ أمْرٍ اقْتَضى ذلك. والكَلامُ هنا في مَقامَينِ؛ أحَدُهما: في جِنْسِ الفِعْلِ والقَوْل، هلْ صارَ فاعِلًا مُتَكلِّمًا بمَشيئتِه بَعْدَ أن لم يكنْ أو ما زالَ فاعِلًا مُتَكلِّمًا بمَشيئتِه؟ والثَّاني: إرادةُ الشَّيءِ المُعيَّنِ وفِعْلُه، كقَوْلِه تَعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ، وقَوْلِه: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38] . وهو سُبْحانَه إذا أرادَ شَيئًا مِن ذلك فلِلنَّاسِ فيه أقْوالٌ: قيلَ: الإرادةُ قَديمةٌ أزَلِيَّةٌ واحِدةٌ، وإنَّما يَتَجدَّدُ تَعَلُّقُها بالمُرادِ. ونِسْبتُها إلى الجَميعِ واحِدةٌ، ولكنْ مِن خَواصِّ الإرادةِ أنَّها تُخَصَّصُ بلا مُخَصِّصٍ، فهذا قَوْلُ ابنِ كُلَّابٍ والأشْعَريِّ ومَن تابَعَهما، وكَثيرٌ مِن العُقَلاءِ يَقولُ: إنَّ هذا فَسادُه مَعْلومٌ بالاضْطِرارِ، حتَّى قالَ أبو البَرَكاتِ: ليس في العُقَلاءِ مَن قالَ بِهذا! وما عَلِمَ أنَّه قَوْلُ طائِفةٍ كَبيرةٍ مِن أهْلِ النَّظَرِ والكَلامِ! وبُطْلانُه مِن جِهاتٍ: مِن جِهةٍ جَعلَ إرادةَ هذا غَيْرَ إرادةِ ذاك، ومِن جِهةٍ أنَّه جَعَلَ الإرادةَ تُخَصَّصُ لِذاتِها، ومِن جِهةٍ أنَّه لم يَجعَلْ عنْدَ وُجودِ الحَوادِثِ شَيئًا حَدَثَ حتَّى تُخَصَّصَ أو لا تُخَصَّصَ، بلْ تَجَدَّدَتْ نِسْبةٌ عَدَميَّةٌ ليستْ وُجودًا، وهذا ليس بشيءٍ، فلم يَتَجَدَّدْ شيءٌ، فصارَتِ الحَوادِثُ تَحدُثُ وتَتَخَصَّصُ بِلا سَبَبٍ حادِثٍ ولا مُخَصِّصٍ. والقَوْلُ الثَّاني: قَوْلُ مَن يَقولُ بإرادةٍ واحِدةٍ قَديمةٍ مِثلَ هؤلاء لكنْ يَقولُ: تَحدُثُ عنْدَ تَجَدُّدِ الأفْعالِ إراداتٌ في ذاتِه بتلك المَشيئةِ القَديمةِ، كما تَقولُه الكَرَّاميَّةُ وغَيْرُهم، وهؤلاء أَقرَبُ مِن حيثُ أثْبَتوا إراداتِ الأفْعالِ، ولكنْ يَلزَمُهم ما لَزِمَ أولئك مِن حيثُ أَثْبَتوا حَوادِثَ بلا سَبَبٍ حادِثٍ، وتَخْصيصاتٍ بِلا مُخَصِّصٍ، وجَعَلوا تلك الإرادةَ واحِدةً تَتَعلَّقُ بجَميعِ الإراداتِ الحادِثةِ، وجَعَلوها أيضًا تُخَصَّصُ لِذاتِها، ولم يَجْعلوا عنْدَ وُجودِ الإراداتِ الحادِثةِ شَيئًا حَدَثَ حتَّى تُخَصِّصَ تلك الإراداتُ الحُدوثَ. والقَوْلُ الثَّالِثُ: قَوْلُ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ الَّذين يَنْفونَ قِيامَ الإرادةِ به، ثُمَّ إمَّا أن يَقولوا بنَفْيِ الإرادةِ، أو يُفَسِّروها بنَفْسِ الأمْرِ والفِعْلِ، أو يَقولوا بحُدوثِ إرادةٍ لا في مَحَلٍّ، كقَوْلِ البَصْريِّينَ، وكلُّ هذه الأقْوالِ قد عُلِمَ أيضًا فَسادُها. والقَوْلُ الرَّابِعُ: أنَّه لم يَزَلْ مُريدًا بإراداتٍ مُتَعاقِبةٍ، فنَوْعُ الإرادةِ قَديمٌ، وأمَّا إرادةُ الشَّيءِ المُعيَّنِ فإنَّما يُريدُه في وَقْتِه، وهو سُبْحانَه يُقدِّرُ الأشْياءَ ويَكتُبُها، ثُمَّ بَعْدَ ذلك يَخلُقُها، فهو إذا قَدَّرَها عَلِمَ ما سيَفعَلُه، وأرادَ فِعْلَه في الوَقْتِ المُسْتَقبَلِ، لكن لم يُرِدْ فِعْلَه في تلك الحالِ، فإذا جاءَ وَقْتُه أرادَ فِعْلَه، فالأوَّلُ عَزْمٌ، والثَّاني قَصْدٌ، وهل يَجوزُ وَصْفُه بالعَزْمِ؟ فيه قَوْلانِ: أحَدُهما المَنْعُ، كقَوْلِ القاضي أبي بَكْرٍ والقاضي أبي يَعْلى، والثَّاني الجَوازُ، وهو أَصَحُّ؛ فقدْ قَرَأَ جَماعةٌ مِن السَّلَفِ: فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159] بالضَّمِّ، وفي الحَديثِ الصَّحيحِ مِن حَديثِ أمِّ سَلَمةَ: ((ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لي)) [761] أخرجه مسلم (918). ، وسَواءٌ سُمِّيَ عَزْمًا أو لم يُسَمَّ فهو سُبْحانَه إذا قَدَّرَها عَلِمَ أنَّه سيَفعَلُها في وَقْتِها وأرادَ أن يَفعَلَها في وَقْتِها، فإذا جاءَ الوَقْتُ فلا بُدَّ مِن إرادةِ الفِعْلِ المُعيَّنِ ونَفْسِ الفِعْلِ، ولا بُدَّ مِن عِلمِه بما يَفعَلُه، ثُمَّ الكَلامُ في عِلمِه بما يَفعَلُه: هلْ هو العِلمُ المُتَقدِّمُ بما سيَفعَلُه، وعِلمُه بأن قد فَعَلَه هل هو الأوَّلُ؟ فيه قَوْلانِ مَعْروفانِ، والعَقْلُ والقُرْآنُ يَدُلُّ على أنَّه قَدْرٌ زائِدٌ كما قالَ: لِنَعْلَمَ [البقرة: 143] ، وحينَئذٍ فإرادةُ المُعيَّنِ تَتَرَجَّحُ لعِلمِه بما في المُعيَّنِ مِن المَعْنى المُرَجِّحِ لإرادتِه. فالإرادةُ تَتْبَعُ العِلمَ، وكونُ ذلك المُعيَّنِ مُتَّصِفًا بتلك الصِّفاتِ المُرَجِّحةِ إنَّما هو في العِلمِ والتَّصَوُّرِ ليس في الخارِجِ شيءٌ، ومِن هنا غَلِطَ مَن قالَ: المَعْدومُ شيءٌ؛ حيثُ أثْبَتوا ذلك المُرادَ في الخارِجِ، ومَن لم يُثبِتْه شَيئًا في العِلمِ أو كانَ ليس عنْدَه إلَّا إرادةٌ واحِدةٌ، وعِلمٌ واحِدٌ، ليس للمَعْلوماتِ والمُراداتِ صورةٌ عِلمِيَّةٌ عنْدَ هؤلاء، فهؤلاء نَفَوا كَوْنَه شَيئًا في العِلمِ والإرادةِ، وأولئك أَثبَتوا كَوْنَه شَيئًا في الخارِجِ، وتلك الصُّورةُ العِلمِيَّةُ الإرادِيَّةُ حَدَثَتْ بَعْدَ أن لم تكنْ، وهي حادِثةٌ بمَشيئتِه وقُدْرتِه كما يُحدِثُ الحَوادِثَ المُنْفَصِلةَ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، فيُقَدِّرُ ما يَفعَلُه ثُمَّ يَفعَلُه، فتَخْصيصُها بصِفةٍ دونَ صِفةٍ، وقَدْرٍ دونَ قَدْرٍ هو للأُمورِ المُقْتَضِيةِ لِذلك في نَفْسِه، فلا يُريدُ إلَّا ما تَقْتَضي نَفْسُه إرادتَه، بمَعْنًى يَقْتَضي ذلك، ولا يُرَجِّحُ مُرادًا على مُرادٍ إلَّا لِذلك، ولا يَجوزُ أن يُرَجِّحَ شَيئًا لمُجَرَّدِ كَوْنِه قادِرًا؛ فإنَّه كانَ قادِرًا قَبْلَ إرادتِه، وهو قادرٌ على غَيْرِه، فتَخْصيصُ هذا بالإرادةِ لا يَكونُ بالقُدْرةِ المُشْترَكةِ بَيْنَه وبَيْنَ غَيْرِه، ولا يَجوزُ أيضًا أن تكونَ الإرادةُ تُخَصِّصُ مِثْلًا على مِثْلٍ بلا مُخَصِّصٍ، بلْ إنَّما يُريدُ المُريدُ أحَدَ الشَّيْئَينِ دونَ الآخَرِ لمَعنًى في المُريدِ والمُرادِ، لا بُدَّ أن يكونَ المُريدُ إلى ذلك أَميَلَ، وأن يكونَ في المُرادِ ما أَوجَبَ رُجْحانَ ذلك المَيْلِ، والقُرْآنُ والسُّنَّةُ تُثبِتُ القَدَرَ وتَقْديرَ الأمورِ قَبْلَ أن يَخلُقَها، وأنَّ ذلك في كِتابٍ، وهذا أصْلٌ عَظيمٌ يُثبِتُ العِلمَ والإرادةَ لكلِّ ما سيَكونُ، ويُزيلُ إشْكالاتٍ كَثيرةً ضَلَّ بسَبَبِها طَوائِفُ في هذا المَكانِ في مَسائِلِ العِلمِ والإرادةِ؛ فالإيمانُ بالقَدَرِ مِن أُصولِ الإيمانِ كما ذَكَرَه النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِ جِبْريلَ، قالَ: ((الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ ومَلائِكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه وبالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه )) [762] أخرجه البخاريُّ (50)، ومسلمٌ (10) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُ مُسلمٍ: (... قال: يا رَسولَ اللهِ، ما الإيمانُ؟ قال: ((أن تؤمِنَ باللهِ ومَلائِكَتِه وكِتابِه ولِقائِه ورُسُلِه، وتؤمِنَ بالبَعْثِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ كُلِّه. قال: صدَقْتَ...). وأخرجه مسلمٌ (8) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلَفظِ: (... فأخبِرْني عن الإيمانِ. قال: أن تؤمِنَ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه. قال: صَدَقْتَ...). ، وقدْ تَبَرَّأَ ابنُ عُمَرَ وغَيْرُه مِن الصَّحابةِ مِن المُكَذِّبينَ بالقَدَرِ [763] أخرجه مُسلِم (8) عن يحيى بنِ يَعْمَرَ قال: كان أوَّلَ مَن قال في القَدَرِ بالبَصْرةِ مَعْبَدٌ الجُهَنيُّ، فانطلَقْتُ أنا وحُمَيدُ بنُ عَبدِ الرَّحمنِ الحِمْيَريُّ حاجَّينِ أو مُعتَمِرَينِ، فقُلْنا: لو لَقِينا أحَدًا من أصْحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأَلْناه عمَّا يقولُ هؤلاءِ في القَدَرِ، فوُفِّقَ لنا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ داخِلًا المسجِدَ، فاكتنَفْتُه أنا وصاحِبي أحَدُنا عن يمينِه، والآخَرُ عن شِمالِه، فقُلْتُ: أبا عَبدِ الرَّحمنِ إنَّه قد ظَهَر قِبَلَنا ناسٌ يَقْرَؤون القُرْآنَ، ويتقفَّرونَ العِلمَ، وأنَّهم يَزْعُمون أنْ لا قَدَرَ، وأنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ! قال: (فإذا لَقِيتَ أولئك فأخبِرْهم أنِّي بَريءٌ منهم، وأنَّهم برآءُ مِنِّي، والَّذي يَحلِفُ به عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ لو أنَّ لأحَدِهم مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فأنفَقَه، ما قَبِلَ اللهُ منه حتى يؤمِنَ بالقَدَرِ). ، ومعَ هذا فطائِفةٌ مِن أهْلِ الكَلامِ وغَيْرِهم لا تُثبِتُ القَدَرَ إلَّا عِلمًا أزَلِيًّا، وإرادةً أزَلِيَّةً فقط) [764] ((مجموع الفتاوى)) (16/ 300 - 306) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ. .
وقال ابنُ تَيْميَّةَ أيضًا: (الإرادةُ ذَكَروا لها ثَلاثةَ لَوازِمَ تُناقِضُ الإرادةَ! قالوا: إنَّها تكونُ ولا مُرادَ لها، بلْ لم يَزَلْ كذلك ثُمَّ حَدَثَ مُرادُها مِن غَيْرِ تَحَوُّلِ حالِها، وهذا مَعْلومُ الفَسادِ ببَديهةِ العَقْلِ؛ فإنَّ الفاعِلَ إذا أرادَ أن يَفعَلَ فالمُتَقدِّمُ كانَ عَزْمًا على الفِعلِ، وقَصْدًا له في الزَّمَنِ المُسْتَقبَلِ، لم يكنْ إرادةً للفِعْلِ في الحالِ، بلْ إذا فَعَلَ فلا بُدَّ مِن إرادةِ الفِعلِ في الحالِ؛ ولِهذا يُقالُ: الماضي عَزْمٌ، والمُقارِنُ قَصْدٌ، فوُجودُ الفِعلِ بمُجَرَّدِ عَزْمٍ مِن غَيْرِ أن يَتَجَدَّدَ قَصْدٌ مِن الفاعِلِ مُمْتنِعٌ، فكانَ حُصولُ المَخْلوقاتِ بِهذه الإرادةِ مُمْتَنِعًا لو قُدِّرَ إمْكانُ حُدوثِ الحَوادِثِ بِلا سَبَبٍ، فكيف وذاك أيضًا مُمْتنِعٌ في نَفْسِه؟! فصارَ الامْتِناعُ مِن جِهةِ الإرادةِ، ومِن جِهةِ تَعَيَّنَتْ بما هو مُمْتنِعٌ في نَفْسِه. الثَّاني: قَوْلُهم: إنَّ الإرادةَ تُرَجِّحُ مِثلًا على مِثلٍ، فهذا مكابَرةٌ، بلْ لا تكونُ الإرادةُ إلَّا لِما تَرَجَّحَ وُجودُه على عَدَمِه عنْدَ الفاعِلِ؛ إمَّا لعِلمِه بأنَّه أَفضَلُ، أو لكَوْنِ مَحَبَّتِه له أَقْوى، وهو إنَّما يَتَرَجَّحُ في العِلمِ لكَوْنِ عاقِبتِه أَفضَلَ، فلا يَفعَلُ أحَدٌ شَيئًا بإرادتِه إلَّا لكَوْنِه يُحِبُّ المُرادَ أو يُحِبُّ ما يَؤولُ إليه المُرادُ، بحيثُ يكونُ وُجودُ ذلك المُرادِ أَحَبَّ إليه مِن عَدَمِه، لا يكونُ وُجودُه وعَدَمُه عنْدَه سَواءً. الثَّالِثُ: أنَّ الإرادةَ الجازِمةَ يَتَخَلَّفُ عنها مُرادُها معَ القُدْرةِ، فهذا أيضًا باطِلٌ، بلْ متى حَصَلَتِ القُدْرةُ التَّامَّةُ والإرادةُ الجازِمةُ وَجَبَ وُجودُ المَقْدورِ، وحيثُ لا يَجِبُ فإنَّما هو لنَقْصِ القُدْرةِ أو لعَدَمِ الإرادةِ التَّامَّةِ، والرَّبُّ تَعالى ما شاءَ كانَ، وما لم يَشَأْ لم يكنْ، وهو يُخبِرُ في غَيْرِ مَوضِعٍ أنَّه لو شاءَ لفَعَلَ أمورًا لم يَفعَلْها، كما قالَ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13] ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود: 118] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة: 253] ، فبَيَّنَ أنَّه لو شاءَ ذلك لكانَ قادِرًا عليه، لكنَّه لا يَفعَلُه؛ لأنَّه لم يَشَأْه؛ إذ كانَ عَدَمُ مَشيئتِه أَرجَحَ في الحِكْمةِ معَ كَوْنِه قادِرًا عليه لو شاءَه. ومِن هؤلاء مَن يَقولُ: إنَّما يَقدِرُ على الأُمورِ المُبايِنةِ له دونَ الأفْعالِ القائِمةِ بنَفْسِه، كما يَقولُ ذلك المُعْتَزِلةُ، والجَهْميَّةُ، ومَن وافَقَهم مِن الأشْعَريَّةِ، وغَيْرُهم. ومِنهم مَن يَقولُ: بلْ يَقدِرُ على ما يَقومُ به مِن الأفْعالِ، وعلى ما هو بايِنٌ عنه كما يُحْكى عن الكَرَّاميَّةِ، والصَّوابُ الَّذي دَلَّ عليه القُرْآنُ والعَقْلُ أنَّه يَقدِرُ على هذا وهذا؛ قالَ تَعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 4] ، وقالَ: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون: 18] ، وهذا كَثيرٌ في القُرْآنِ أَكثَرَ مِن النَّوْعِ الآخَرِ، فإنَّ ما قالَه الكَرَّاميَّةُ والهِشاميَّةُ أَقرَبُ إلى العَقْلِ والنَّقْلِ ممَّا قالَتِ الجَهْميَّةُ ومَن وافَقَهم، وإن كانَ فيما حَكَوه عنهم خَطَأٌ مِن جِهةِ نَفْيِهم القُدْرةَ على الأُمورِ المُبايِنةِ، واللهُ تَعالى قد أَخبَرَ أنَّه على كلِّ شيءٍ قَديرٌ) [765] ((مجموع الفتاوى)) (16/ 458 - 460) باختِصارٍ وتصرف. .

انظر أيضا: