موسوعة الفرق

البابُ الثَّاني: نشأةُ الخَوارِجِ


اختلف المُؤَرِّخون وعُلَماءُ الفِرَقِ والعقائِدِ في تحديدِ بدايةِ نشأةِ فِرقةِ الخَوارِجِ: هل كان ذلك في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو في عهدِ عُثمانَ، أو في عهدِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما؟ أو أنَّ نشأتَهم لم تبدأْ إلَّا بظُهورِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ وخُروجِه عام 64هـ؟ وهل يُفرَّقُ بَينَ بدءِ نزعةِ الخروجِ على صورةٍ ما، وبَينَ ظهورِ الخَوارِجِ كفِرقةٍ مُستَقِلَّةٍ لها آراؤُها العَقَديَّةُ الخاصَّةُ؟ [18] يُنظر: ((الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية)) (ص: 37)، ((فرق معاصرة)) (1/232) كلاهما للعواجي. بتصرُّفٍ يسيرٍ. وللاستزادة يُنظر: ((الإيمان الأوسط)) لابن تيمية (ص: 314- 320)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (10/ 559- 647). .
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ أوَّلَ الخَوارِجِ هو ذو الخُوَيصِرةِ التَّميميُّ:
الذي بدأ الخروجَ بالاعتراضِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قِسمةِ الفَيءِ واتِّهامِه إيَّاه بعَدَمِ العَدلِ
عن أبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقسِمُ جاء عبدُ اللهِ بنُ ذي الخُوَيصِرةِ التَّميميُّ فقال: اعدِلْ يا رسولَ اللهِ. فقال: وَيلَك! مَن يَعدِلُ إذا لم أعدِلْ؟! قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: دَعْني أضرِبْ عُنُقَه. قال: دَعْه؛ فإنَّ له أصحابًا يحقِرُ أحَدُكم صلاتَه مع صلاتِه، وصيامَه مع صيامِه، يَمرُقون من الدِّينِ كما يمرُقُ السَّهمُ من الرَّميَّةِ، يُنظَرُ في قُذَذِه [19] قُذَذِه: بضَمِّ القافِ، أي: ريشِ السَّهمِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 170). فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ، يُنظَرُ في نَصلِه [20] ‌نَصلِه: أي: حديدةِ السَّهمِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 618). فلا يوجَدُ فيه شيءٌ، ثمَّ يُنظَرُ في رِصافِه [21] ‌الرِّصافُ: بكَسرِ الرَّاءِ، أي: مَدخَلُ النَّصلِ من السَّهمِ. يُنظر: ((شرح مُسلِم)) للنووي (7/ 165). فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ، ثمَّ يُنظَرُ في نَضِيِّه [22] النَّضِيُّ: نَصلُ السَّهمِ، وقيل: هو القِدْحُ قبل أن يُنحَتَ، وقيل: النَّضِيُّ من السَّهمِ: ما جاوز الرِّيشَ إلى النَّصلِ، ومن الرُّمحِ: ما فوقَ المِقبَضِ. يُنظر: ((المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث)) للمديني (3/ 312). فلا يُوجَدُ فيه شيءٌ، قد سَبَق الفَرثَ والدَّمَ، آيتُهم رجلٌ إحدى يَدَيه -أو قال ثَدْيَيه- مِثلُ ثَدْيِ المرأةِ -أو قال مِثلُ البَضعةِ- تَدَرْدَرُ [23] ‌تَدَرْدَرُ: أي: تَضطَرِبُ وتتحرَّكُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 379). ، يخرُجون على حينِ فُرقةٍ من النَّاسِ. قال أبو سعيدٍ: أشهَدُ سَمِعتُ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشهَدُ أنَّ عَلِيًّا قتَلَهم وأنا معه، جيءَ بالرَّجُلِ على النَّعتِ الذي نعَتَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: فنزَلَت فيه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة: 58] )) [24] أخرجه البخاري (6933) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1064). .
وفي روايةٍ أخرى عن أبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((بَعَث عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه وهو باليمَنِ بذَهَبةٍ في تُربتِها [25] المرادُ قِطعةُ ذَهَبٍ غيرُ مَسبوكةٍ، لم تَخلُصْ من تُرابِها. يُنظر: ((السيرة الحلبية)) للحلبي (3/ 174)، حاشية «صحيح مُسلِم» لعبد الباقي (2/ 742). إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقَسَمها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَ أربعةِ نَفَرٍ؛ الأقرَعِ بنِ حابِسٍ الحَنظليِّ، وعُيَينةَ بنِ بَدرٍ الفَزاريِّ، وعَلقَمةَ بنِ عُلاثةَ العامِريِّ، ثمَّ أحَدِ بني كِلابٍ، وزيدِ الخَيرِ الطَّائيِّ، ثمَّ أحَدِ بني نَبْهانَ، قال: فغَضِبَت قُريشٌ فقالوا: أيُعطي صناديدَ نجدٍ ويَدَعُنا؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنِّي إنَّما فعلْتُ ذلك لأتألَّفَهم. فجاء رجلٌ كَثُّ اللِّحيةِ، مُشرِفُ الوَجنتَينِ، غائِرُ العينَينِ، ناتِئُ الجَبينِ، محلوقُ الرَّأسِ، فقال: اتَّقِ اللهَ يا محمَّدُ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فمن يُطِعِ اللهَ إن عَصيتُه؟! أيَأمَنُني على أهلِ الأرضِ ولا تَأمَنوني؟! قال: ثمَّ أدبر الرَّجُلُ، فاستأذن رجلٌ من القومِ في قَتلِه -يُرَونَ أنَّه خالِدُ بنُ الوليدِ-، فقال رسولُ اللهِ: إنَّ مِن ضِئْضِئِ [26] يعني النَّسْلَ والعَقِبَ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/ 69). هذا قومًا يقرؤونَ القُرآنَ لا يجاوِزُ حَناجِرَهم، يَقتُلون أهلَ الإسلامِ ويَدَعون أهلَ الأوثانِ، يَمرُقون من الإسلامِ كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَّميَّةِ، لئِنْ أدرَكْتُهم لأقتُلَنَّهم قَتْلَ عادٍ )) [27] أخرجه البخاري (4351)، ومُسلِم (1064) واللَّفظُ له. .
وقد أخبر عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه ببعضِ أوصافِهم التي أخبره بها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووقع مِصداقُ ذلك حينَ قتَلَهم في مَعركةِ النَّهْرَوانِ، كما جاء في كلامِ عُبَيدِ اللهِ بنِ أبي رافعٍ مولى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّ الحَروريَّةَ لَمَّا خرَجَت وهو مع عليِّ بنِ أبي طالبٍ، قالوا: لا حُكمَ إلَّا للهِ، قال عليٌّ: كَلِمةُ حَقٍّ أُريدَ بها باطِلٌ؛ إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَف ناسًا إنِّي لأعرِفُ صِفَتَهم في هؤلاء، يقولون الحَقَّ بألسِنَتِهم لا يجوزُ هذا منهم (وأشار إلى حَلْقِه)، مِن أبغَضِ خَلقِ الله إليه، منهم أسوَدُ، إحدى يَدَيه طُبْيُ شاةٍ [28] قوله: ((إحدى يديه ‌طُبْيُ ‌شاةٍ)): المرادُ به ضَرعُ الشَّاةِ. يُنظر: ((شرح مُسلِم)) للنووي (7/ 174). أو حَلَمةُ ثَدْيٍ، فلمَّا قتلَهم عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: انظُروا، فنظَروا فلم يجِدوا شيئًا فقال: ارجِعوا فواللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، مرَّتينِ أو ثلاثًا، ثمَّ وَجَدوه في خَرِبةٍ، فأتَوا به حتى وضَعوه بَينَ يَدَيه. قال عُبَيدُ اللهِ: وأنا حاضِرُ ذلك مِن أمرِهم وقَولِ عَليٍّ فيهم)) [29] أخرجه مُسلِم (1066).
وقد ذهب إلى القولِ بأنَّ أوَّلَ الخَوارِجِ هو ذو الخُوَيصِرةِ كثيرٌ من العُلَماءِ؛ منهم ابنُ الجوزيِّ، وذلك في قولِه: (هذا أوَّلُ خارِجيٍّ خرج في الإسلامِ، وآفتُه أنَّه رَضِيَ برأيِ نَفسِه، ولو وقف لعَلِم أنَّه لا رأيَ فوقَ رأيِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأتباعُ هذا الرَّجُلِ هم الذين قاتلوا عَليَّ بنَ أبي طالبٍ) [30] ((تلبيس إبليس)) (ص: 90). .
ومنهم ابنُ حزمٍ [31] يُنظر: ((الفصل في الملل والنحل)) (4/157). ، وهو رأيُ الشَّهْرَسْتانيِّ أيضًا؛ حيثُ قال: (هم الذين أوَّلُهم ذو الخُوَيصِرةِ، وآخِرُهم ذو الثُّدَيَّةِ) [32] ((الملل والنحل)) (1/116). .
واعتَبر الشَّهْرَسْتانيُّ اعتراضَ ذي الخُوَيصِرةِ خروجًا صريحًا؛ إذ إنَّ الاعتراضَ على الإمامِ الحَقِّ يسمَّى خروجًا، فكيف بالاعتراضِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! فقال بَعدَ أن ذَكَر حديثَ ذي الخُوَيصِرةِ: (ذلك خروجٌ صريحٌ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو صار مَن اعترض على الإمامِ الحَقِّ خارِجيًّا، فمَن اعترض على الرَّسولِ أحَقُّ بأن يكونَ خارِجيًّا) [33] ((الملل والنحل)) (1/21). .
والآجُرِّيُّ يرى أنَّ أوَّلَ الخَوارِجِ كان في عهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ إنَّهم بَعدَ ذلك خرجوا من بُلدانٍ شتَّى، واجتمعوا وأظهروا الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ، حتى قَدِموا المدينةَ فقَتَلوا عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، ثُمَّ خرجوا بَعدَ ذلك على عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه [34] يُنظر: ((آراء الخوارج)) للطالبي (ص: 45). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ نشأةَ الخَوارِجِ بدأت بالخُروجِ على عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه:
وذلك في الفتنةِ التي انتَهت بقَتلِه، وتُسمَّى الفِتنةَ الأولى
وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ ابنُ أبي العِزِّ، فقال: (الخَوارِجُ والشِّيعةُ حَدَثوا في الفتنةِ الأولى) [35] ((شرح الطحاوية)) (ص: 472). .
وسمَّى ابنُ كثيرٍ الذين ثاروا على عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه وقتلوه خَوارِجَ، فقال: (جاء الخَوارِجُ، فأخذوا مالَ بيتِ المالِ، وكان فيه شيءٌ كثيرٌ جِدًّا) [36] ((البداية والنهاية)) (7/189). .
القَولُ الثَّالثُ: أنَّ نشأةَ الخَوارِجِ بدأت مُنذُ أن فارق طلحةُ والزُّبَيرُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عنهم بَعدَ مُبايعتِهما له:
وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: الوَرْجَلانيُّ [37] هو: يوسُفُ بنُ إبراهيمَ ‌الوَرْجَلانيُّ، أبو يعقوبَ، إباضيٌّ. تُوفِّي سنةَ 570هـ. يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (8/212). فقال: (شَرَعا دينَ الخَوارِج دينًا؛ فلهما أجورُ الخَوارِجِ وأوزارُهما) [38] ((الدليل لأهل العقول)) (ص: 15). !
القَولُ الرَّابعُ: أنَّ نشأةَ الخَوارِجِ بدأت سنةَ 64هـ بقيادةِ نافعِ بنِ الأزرَقِ في أواخِرِ ولايةِ ابنِ زيادٍ:
وهذا الرَّأيُ لعَلي يحيى مَعمَر [39] هو علي يحيى مَعْمَر، الإباضيُّ، وُلِد بطَرابُلُسَ سَنةَ 1337هـ، له العديدُ من المُؤَلَّفاتِ، منها (الإباضية في موكب التاريخ) و(الإباضية بين الفرق الإسلامية) و(الإباضية مذهب إسلامي معتدل) وغيرها. تُوفِّي سنةَ 1400هـ. يُنظر: ((الشيخ علي يحي معمر: مؤرخ، أديب، وداعية)) لناصر، منشور إلكترونيا بـ (المكتبة السعيدية). الإباضيِّ [40] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 377)، ((الإباضية في موكب التاريخ)) (ص: 33) كلاهما لمعمرٍ. . وهو في هذا الرَّأيِ يتابِعُ أبا إسحاقَ أَطَّفَيِّشَ الإباضيَّ الذي يرى أنَّ ما حدث بَينَ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وبَينَ الطَّائفةِ التي انفصلت عن جيشِه، والتي سُمِّيت فيما بَعدُ بالمحَكِّمةِ، إنَّما هو نوعٌ من أنواعِ الفِتَنِ الدَّاخليَّةِ التي وقعت بَينَ المُسلِمين في ذلك العصرِ؛ حيثُ اعتَبَرت تلك الطَّائفةُ أنَّ عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه قد زالت عنه الإمامةُ الشَّرعيَّةُ حينما قَبِل التَّحكيمَ؛ ولهذا فقد ولَّوا عبدَ اللهِ بنَ وَهبٍ الرَّاسِبيَّ [41] هو عبدُ ‌اللهِ ‌بنُ ‌َوهبٍ ‌الرَّاسبيُّ من بني راسِبٍ؛ قبيلةٍ معروفةٍ، وهو أميرُ الخوارجِ يومَ النَّهْرَوانِ، وقُتِل في المعركةِ. وذكره الجُوزَجانيُّ في كتابِه "أحوال الرجال" باسمِ عبدِ اللهِ بنِ راسبٍ، وقال: إنَّه قد أدرك الجاهليَّةَ. قال ابنُ حَجَرٍ: ولا أعلَمُ له روايةً. وليس له صُحبةٌ. ((أحوال الرجال)) للجوزجاني (ص: 34)، ((لسان الميزان)) (3/ 284) و((الإصابة)) (5/ 78) كلاهما لابنِ حَجَرٍ. في زُهدِه وتقواه [42] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 377). .
فلم يكُنْ ما حدث بَينَ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه ومَن معه في نظَرِ أصحابِ هذا الرَّأيِ إلَّا فتنةً انتهت على نحوِ ما انتهت عليه، وليس خروجًا على الإمامِ، كما هو المعنى الحقيقيُّ للخروجِ الذي يَرَون أنَّه لم يبتدِئْ إلَّا بخُروجِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ. أمَّا ما كان قَبلَ ذلك من حرَكاتٍ ثوريَّةٍ على عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه والأُمَويِّين مِن بَعدِه، فهي مجرَّدُ ثَوراتٍ ومواقِعَ حربيَّةٍ دارت بَينَ الفريقَينِ، وليست خروجًا بالمعنى الصَّحيحِ.
وقد قال في هذا أبو إسحاقَ أَطَّفَيِّشُ: (الخَوارِجُ طوائِفُ من النَّاسِ في زمَنِ التَّابعين وتابعِ التَّابِعين، رؤوسُهم: نافِعُ بنُ الأزرقِ، ونَجدةُ بنُ عامرٍ، ومحمَّدُ بنُ الصَّفَّارِ، ومَن شايَعهم، وسُمُّوا خَوارِجَ؛ لأنَّهم خرجوا عن الحقِّ وعن الأمَّةِ بالحُكمِ على مُرتَكِبِ الذَّنبِ بالشِّرْكِ) [43] ((عمان تاريخ يتكلم)) للسالمي (ص: 103). .
وقال علي يحيى مَعمَر: (سبق إلى أذهانِ أكثَرِ النَّاسِ -بسَبَبِ خطأِ المؤَرِّخين في ربطِ الأحداثِ- أنَّ الـمُحَكِّمةَ الذين قتَلهم أميرُ المُؤمِنين عليُّ بنُ أبي طالبٍ في وَقعةِ النَّهْرَوانِ هم أصلُ الخَوارِجِ، وهو مفهومٌ خاطئٌ؛ فإنَّ المُحَكِّمةَ قد قُتلوا في النَّهرِ ولم يَنجُ منهم إلَّا تسعةُ أفرادٍ، ثُمَّ ثار على الحُكمِ الأُمَويِّ طوائِفُ كثيرةٌ من النَّاسِ جماعاتٍ وأفرادًا، حتَّى ظهر الخَوارِجُ في أواخِرِ ولايةِ ابنِ زيادٍ سَنةَ 64هـ، بقيادةِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ؛ فمَعركةُ النَّهْرَوانِ هي فتنةٌ بَينَ الصَّحابةِ وقعت بَينَ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ والمُحَكِّمةِ) [44] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 377). .
وممَّا يجدُرُ بالذِّكرِ أنَّه قد استُبعِد أن يكونَ النَّاجون من حربِ النَّهْرَوانِ تسعةً فقط!
القَولُ الخامِسُ: أنَّ نشأةَ الخَوارِجِ بدأت بانفصالِهم عن جيشِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وخروجِهم عليه:
وهذا الرَّأيُ هو الذي عليه الكثرةُ الغالبةُ من العُلَماءِ؛ إذ يُعَرِّفون الخَوارِجَ بأنَّهم هم الذين خرجوا على عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه بَعدَ التَّحكيمِ، ومن هؤلاء الأشعَريُّ؛ فقد أرَّخ للخَوارِج، وأقدَمُ مَن أرَّخ لهم منهم هم الخارِجون على عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وقال عنهم: (السَّبَبُ الذي سُمُّوا له خَوارِجَ: خروجُهم على عليِّ بنِ أبي طالبٍ) [45] ((مقالات الإسلاميين)) (1/207). .
وقد تابعه في ذلك البغداديُّ؛ حيث بدأ التَّأريخَ للخَوارِجِ بذِكرِ الخارِجين على عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه [46] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) (ص: 74). . وكذلك يرى أبو الحُسَينِ المَلَطيُّ أنَّ الفِرقةَ الأولى للخَوارِجِ هي المُحَكِّمةُ [47] يُنظر: ((التنبيه والرد)) (ص: 15). .
وقد سار على هذا الرَّأيِ أصحابُ المعاجِمِ ودوائِرِ المعارفِ (في مادَّةِ الخروجِ)، والكُتَّابُ المُحْدَثون الذين كتَبوا عن الفِرَقِ الإسلاميَّةِ؛ كأحمد أمين، وأبي زهرةَ، والغُرابيِّ، والمؤرِّخون في تأريخِهم لأحداثِ الفِتنةِ الكُبرى.
قال أحمد أمين: (اسمُ الخَوارِجِ جاء من أنَّهم خرَجوا على عليٍّ وصَحبِه) [48] ((فجر الإسلام)) (ص: 257). .
وقال أبو زهرةَ عن الخَوارِج: (اقترن ظُهورُ هذه الفِرقةِ بظُهورِ الشِّيعةِ؛ فقد ظهر كِلاهما كفِرقةٍ في عهدِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وقد كانوا من أنصارِه) [49] ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/65). .
وصاحِبُ كتابِ (الأديان) -وهو كاتِبٌ إباضيٌّ (مجهول)- يَعتبرُ خروجَ الخَوارِجِ إنَّما كان على عليٍّ حينما حَكَّم [50] ((الأديان)) (ص: 96). .
وقد أصبح إطلاقُ اسمِ الخَوارِج على الخارِجين على عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أمرًا مُشتَهِرًا، بحيثُ لا يكادُ ينصَرِفُ إلى غيرِهم بمجَرَّدِ ذِكرِه.
تلك هي الأقوالُ في بدءِ نشأةِ الخَوارِجِ، وينبغي عِندَ اختيارِ القَولِ الأصَحِّ منها التَّفريقُ بَينَ بدءِ نزعةِ الخروجِ على صورةٍ ما، وظهورِ الخَوارِجِ كفِرقةٍ لها آراؤُها الخاصَّةُ، ولها تجمُّعُها الذي تحافِظُ عليه وتعمَلُ به على نُصرةِ تلك الآراءِ.
والواقِعُ أنَّ نَزعةَ الخروجِ قد بدأت بَذْرتُها الأولى على عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باعتراضِ ذي الخُوَيصِرةِ عليه، لكِنْ هل كان خروجًا حقيقيًّا أم كان مجرَّدَ حادثةٍ فرديَّةٍ اعترض فيها واحِدٌ من المُسلِمين على طريقةِ تقسيمِ الفَيءِ؛ طَمَعًا في أن يأخُذَ منه نصيبًا أكبرَ؟
أمَّا تعبيرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذي الخُوَيصِرةِ بأن له أصحابًا، فله عِدَّةُ احتمالاتٍ:
أوَّلًا: أن يكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد توقَّع وجودَ أصحابٍ يُؤَيِّدون هذا الرَّجُلَ؛ حيثُ استطاع الاعتراضَ على صاحِبِ الدَّعوةِ، فامتنع عن قَتلِه تألُّفًا له ولهم.
ثانيًا: أن يكونَ ذلك القولُ من النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إخبارًا عمَّا سيكونُ من عاقبةِ هذا الرَّجُلِ وأمثالِه؛ إذ إنَّ الاعتراضَ على شخصيَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يجعَلُ من المتوقَّعِ أن يوجَدَ الاعتراضُ على الخُلَفاءِ مِن بَعدِه، والخروجُ عليهم من بابِ أَولى.
ثالثًا: أن يكونَ قَصدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأصحابِ لهذا الرَّجُلِ من يكونون على شاكِلتِه في مُستقبَلِ الأيَّامِ، بحيثُ يكونون مُتابِعين له على فِكرتِه، وإنْ لم يتزعَّمْ قيادتَهم في هذا الخروجِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى الخُلَفاءِ مِن بَعدِه.
لقد مضى عهدُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَهدُ أبي بكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولم يكُنْ لذي الخُوَيصِرةِ ذِكرٌ في هذه العُهودِ بَعدَ تلك الحادثةِ لا بنَفسِه ولا مع من يمكِنُ أن يكونوا على شاكِلتِه.
ولم يذكُرِ التَّاريخُ أنَّه كان كذلك من الثَّائِرين على عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، أو أنَّه كان له أبناءٌ أو أصحابٌ يَنتَسِبون إليه في تلك الثَّورةِ، مع أنَّ الفارِقَ الزَّمَنيَّ بَينَ وُرودِ الحديثِ فيه وبَينَ أحداثِ الفِتنةِ الكُبرى يسمَحُ بمِثلِ هذا لو كان.
كُلُّ ذلك يجعَلُ من تلك الحادثةِ التي ارتكَبها ذو الخُوَيصِرةِ حادِثةً فرديَّةً في وقتِها؛ حيثُ لم يشتَهِرْ بالخروجِ ولم تُعرَفْ له آراءٌ خاصَّةٌ يتمَيَّزُ بها.
وأمَّا القولُ بأنَّ نشأتَهم تبدأُ بثورةِ الثَّائِرين على عثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، فلا شَكَّ أنَّ ما حدث كان خروجًا عن طاعةِ الإمامِ، إلَّا أنَّه لم يكُنْ يتميَّزُ بأنَّه خروجُ فِرقةٍ ذاتِ طابَعٍ عقائِديٍّ خاصٍّ، لها آراءٌ وأحكامٌ في الدِّينِ، غايةُ ما هنالك أنَّ قومًا غَضِبوا على عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، واستحوَذ عليهم الشَّيطانُ حتَّى أدَّى بهم إلى ارتكابِ جريمةِ قَتلِه، ثُمَّ دخلوا بَينَ صُفوفِ المُسلِمين كأفرادٍ منهم.
وفيما يتعلَّقُ بالقولِ بأنَّ طَلحةَ والزُّبيرَ رَضِيَ اللهُ عنهما كانا أوَّلَ الخارِجين على عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه -كما يقولُ الوَرْجَلانيُّ- فمِن الصَّعبِ عليه إثباتُ ذلك؛ فقد كان معهما أمُّ المُؤمِنين عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها، ومَن معهم من المُسلِمين، وعلى كُلٍّ فقد انتهت موقعةُ الجمَلِ واندمج من بَقِيَ منهم في صُفوفِ المُسلِمين دونَ أن تجمَعَهم رابطةٌ مُعَيَّنةٌ، وطلحةُ والزُّبَيرُ من العَشَرةِ الذين بَشَّرهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجنَّةِ، فكيف يجوزُ أن يُعتَبَرا من الخَوارِجِ ويُطَبَّقَ عليهما أحاديثُ المُروقِ الواردةُ في الخَوارِجِ؟!
أمَّا القولُ بأنَّ نشأتَهم تبدأُ من قيامِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ فإنَّه لم يقُلْ به غيرُ عَليِّ بنِ يحيى مَعْمَر تَبَعًا لقُطبِ الأئمَّةِ الإباضيَّةِ أبي إسحاقَ أَطَّفَيِّشَ؛ لنَفيِهم وجودَ صِلةٍ ما بَينَ المُحَكِّمةِ ومَن ثار على طريقتِهم وبَينَ الأزارقةِ بَعدَهم، وهو قولٌ غيرُ مقبولٍ؛ لتسلسُلِ الأحداثِ وارتباطِها من المُحَكِّمةِ إلى ظهورِ نافِعِ بنِ الأزرَقِ، بحيثُ يظهَرُ أنَّ الأوَّلينَ هم سَلَفُ الخَوارِجِ جميعًا.
وهكذا يتَّضِحُ الفَرقُ بَينَ مجرَّدِ وُجودِ نَزعةِ الاعتراضِ أو الثَّورةِ خُروجًا عن طاعةِ الإمامِ، وبَينَ الخروجِ في شكلِ طائفةٍ لها اتِّجاهُها العَقَديُّ وآراؤُها الخاصَّةُ؛ كخُروجِ الذين خرجوا على عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه مُنذُ وَقعةِ صِفِّينَ، وهم الذين ينطَبِقُ عليهم مُصطَلَحُ الخَوارِجِ بالمعنى الدَّقيقِ لهذه الكَلِمةِ، وهذا القَولُ الأخيرُ هو الأقرَبُ للصَّوابِ إن شاء اللهُ، وهو ما يَشهَدُ له واقِعُ تلك الحركةِ التي أحدَثت آثارًا كبيرةً في تاريخِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ ولعِدَّةِ قُرونٍ ظهرت فيها بآراءٍ ومُعتَقَداتٍ وأنظِمةٍ لفَتت إليها أنظارَ عُلَماءِ التَّاريخِ والفِرَقِ الإسلاميَّةِ، بخلافِ ما سبقها من حركاتٍ؛ فإنَّها لم يكُنْ لها أثَرٌ فِكريٌّ أو عقائِديٌّ يُذكَرُ.

انظر أيضا: