موسوعة الفرق

المَبحثُ الأوَّلُ: مَذهَبُ الجَهْميَّةِ في القَدَرِ وقولُهم بالجَبرِ في أفعالِ العبادِ


يرى الجَهْميَّةُ أنَّ العَبدَ مجبورٌ على أفعالِه، لا مشيئةَ له فيها ولا اختيارَ، وأنَّ أفعالَه كُلَّها اضطراريَّةٌ؛ كحَرَكاتِ المُرتَعِشِ، والعُروقِ النَّابضةِ، وحرَكَاتِ الأشجارِ [229] يُنظر: ((التحفة المهدية شرح العقيدة التدمرية)) لآل مهدي (2/81). .
والجَبريَّةُ مَذهَبٌ عَقَديٌّ اشترك فيه عَدَدٌ من الفِرَقِ، ومنهم الجَهْميَّةُ، ومعنى قَولِهم بـ "الجَبرِ": نفيُ الفعلِ حقيقةً عن العبدِ، وإضافتُه إلى الرَّبِّ تعالى [230] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/85). .
والجَبْريَّةُ صِنفانِ: جَبْريَّةٌ متوسِّطةٌ، وجَبْريَّةٌ خالصةٌ:
1- الجَبْريَّةُ المتوسِّطةُ: وهي التي تُثبِتُ للعبدِ قُدرةً غيرَ مُؤثِّرةٍ.
2- الجَبْريَّةُ الخالصةُ: لا تُثبِتُ للعبدِ قُدرةً على الفِعلِ أصلًا، وهي فِرقةُ الجَهْميَّةِ [231] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/85)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 74)، ((أبكار الأفكار)) للآمدي (5/91). . وأشهَرُ وأوَّلُ من يُنسَبُ إليه القَولُ بالجَبرِ هو: الجَهْمُ بنُ صَفوانَ.
إلَّا أنَّ الجَهْمَ بنَ صَفوانَ لم يُذكَرْ عنه استدلالٌ صريحٌ لقَولِه بالجَبْرِ، وغايةُ ما يُنقَلُ عنه في ذلك نفيُ نسبةِ الفِعلِ إلى العبدِ على الحقيقةِ؛ لأنَّ اللهَ هو الخالِقُ لفِعلِ العبدِ [232] يُنظر: ((الخلاف العقدي في القدر)) للقرني (ص: 32). .
ونصُّ مقالةِ الجَهْمِ بنِ صَفوانَ في القَدَرِ كما حكاها أهلُ المقالاتِ: (لا فِعْلَ لأحَدٍ في الحقيقةِ إلَّا اللهِ وَحدَه، وأنَّه هو الفاعِلُ، وأنَّ النَّاسَ إنَّما تُنسَبُ إليهم ‌أفعالُهم ‌على ‌المجازِ، كما يقالُ: تحرَّكَت الشَّجرةُ، ودار الفُلكُ، وزالت الشَّمسُ، وإنَّما فَعَل ذلك بالشَّجَرةِ والفُلكِ والشَّمسِ اللهُ سُبحانَه، إلَّا أنَّه خَلَقَ للإنسانِ قُوَّةً كان بها الفِعلُ، وخلَقَ له إرادةً للفِعلِ واختيارًا له مُنفرِدًا له بذلك، كما خلَقَ له طولًا كان به طويلًا، ولونًا كان به متلوِّنًا) [233] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/219)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (2/585). .
قال ابنُ أبي العِزِّ: (الجَبْريَّةُ: أصلُ قولِهم من الجَهْمِ بنِ صَفوانَ... وأنَّ ‌فِعلَ ‌العبدِ ‌بمنزلةِ ‌طولِه ‌ولونهِ! وهم عَكسُ القَدَريَّةِ نُفاةِ القَدَرِ؛ فإنَّ القَدَريَّة إنما نُسِبوا إلى القَدَرِ لنَفْيهم إيَّاه) [234] ((شرح الطحاوية)) (2/797). .
وممَّا يُنبَّهُ إليه أنَّ قولَ الجَهْميَّةِ بالجَبْرِ له تعلُّقٌ بقولهم في أسماءِ اللهِ تعالى؛ فقد ذُكِر عنه أنَّه لا يجوزُ أن يوصَفَ الباري تعالى بصفةٍ يُوصَفُ بها خَلقُه؛ لأنَّ ذلك يقتضي تشبيهًا، فنفى كونَه حيًّا عالِمًا، وأثبت كونَه قادرًا فاعلًا خالقًا؛ لأنَّه لا يوصَفُ شيءٌ من خَلقِه بالقُدرةِ والفِعلِ والخَلقِ.
وذُكِر عن الجَهْمِ بنِ صَفوانَ وأتباعِه أنَّهم قالوا: إنَّ العبدَ مجبورٌ، وأنَّه لا فِعلَ له أصلًا، وليس بقادرٍ أصلًا، وكان الجَهْمُ غاليًا في تعطيلِ الصِّفاتِ، فكان ينفي أن يُسمَّى اللهُ تعالى باسمٍ يُسمَّى به العبدُ؛ فلا يُسمَّى شيئًا ولا حيًّا ولا عالِمًا، ولا سميعًا ولا بصيرًا، إلَّا على وجهِ المجازِ. وحُكيَ عنه أنَّه كان يُسمِّي اللهَ تعالى قادرًا؛ لأنَّ العبدَ عِندَه ليس بقادرٍ، فلا تشبيهَ بهذا الاسمِ على قَولِه [235] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/86)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/460). ويُنظر لتحليل العلاقة بين نفي الصفات والقول بالجبر: ((الخلاف العقدي في باب القدر)) للقرني (ص: 88). .

انظر أيضا: