موسوعة الفرق

المَطلَبُ السَّادِسُ: مَوقِفُ المَدرَسةِ العقلانيَّةِ الاعتِزاليَّةِ المُعاصِرةِ من السِّيرةِ النَّبويَّةِ


لن يَشمَلَ الحديثُ هنا أثَرَهم في جميعِ جوانِبِ تاريخِ السِّيرةِ النَّبويَّةِ، وإنَّما في أُسِّها وقاعِدتِها، وهي المُعجِزاتُ المحمَّديَّةُ.
وممَّن تأثَّر بهم في هذه المسألةِ وسار على خُطاهم محمَّد حسين هيكل في كتابِه (حياةُ محمَّدٍ)؛ فهو -حِرصًا منه على تضييقِ نِطاقِ الغيبيَّاتِ التي لا تتَّفِقُ مع عِلميَّةِ الغَربِ الماديَّةِ- راح يُنكِرُ كُلَّ معُجزةٍ لنبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويستثني من هذا -كما استَثْنَوا- معجزةَ القُرآنِ الكريمِ.
حتَّى عُنوانُ الكِتابِ (حياةُ محمَّدٍ) يبدو التَّأثُّرُ فيه واضحًا؛ فليس فيه ما يشيرُ إلى رسالتِه أو نبُوَّتِه، بل "محمَّد" مجرَّدًا من كُلِّ شيءٍ كأيِّ "محمَّد" سواءً!! أليس هذا هو ما يبقى له بَعدَ تجريدِه من المُعجِزاتِ؟ أوَليس هذا هو مرادَ الغربيِّين من ذلك؟ وإن ثبت له شيءٌ بَعدَ هذا فإنَّما هي العَبقَريَّةُ لا النُّبوَّةُ، وربَّما لم يُرِدِ المؤلِّفُ هذا المعنى من العُنوانِ، ولكِنَّه التَّلقِّي والتَّأثُّرُ عن الغربيِّين من غيرِ أن تَترُكَ له عينُ الرِّضا والإعجابِ والدَّهشةِ تمحيصًا وتأمُّلًا!
وقد ذكَر هيكل في كتابِه أنَّ أكثَرَ هذه المعجزاتِ المنسوبةِ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُصَدِّقُها العقلُ فقال: (ندَعُ الدِّينَ جانبًا ونَقِفُ عِندَ سيرةِ صاحبِه عليه السَّلامُ؛ فقد أضافت أكثَرُ كُتُبِ السِّيرةِ إلى حياةِ النَّبيِّ ما لا يُصَدِّقُه العقلُ، ولا حاجةَ إليه في ثُبوتِ الرِّسالةِ) [1808] ((حياة محمد)) (ص: 34). !
وقال أيضًا: (مَضَرَّةُ الرِّواياتِ التي لا يُقِرُّها العقلُ والعِلمُ قد أصبحت واضِحةً ملموسةً؛ فمن الحقِّ على كُلِّ من يَعرِضُ لهذه الأمورِ أن يراعيَ جانِبَ الدِّقَّةِ العِلميَّةِ في تمحيصِها؛ خِدمةً للحَقِّ، وخِدمةً للإسلامِ ولتاريخِ النَّبيِّ العربيِّ، وتمهيدًا لما يجلوه البحثُ في هذا التَّاريخِ العظيمِ من حقائِقَ تُنيرُ أمامَ الإنسانيَّةِ سبيلَها إلى حضارتِها الصَّحيحةِ) [1809] ((حياة محمد)) (ص: 70). .
وقال أيضًا: (لم يَرِدْ في كتابِ اللهِ ذِكرٌ لمُعجزةٍ أراد اللهُ بها أن يؤمِنَ النَّاسُ كافَّةً على اختلافِ عُصورِهم برسالةِ محمَّدٍ إلَّا القُرآنِ الكريمِ) [1810] ((حياة محمد)) (ص: 71). .
ثمَّ قال: (أمَّا وذلك ما يجري به كتابُ اللهِ وما يقتَضيه حديثُ رسولِ اللهِ، فأيُّ داعٍ دعا طائفةً من المُسلِمين فيما مضى ويدعو طائفةً منهم اليومَ إلى إثباتِ خوارِقَ ماديَّةٍ للنَّبيِّ العربيِّ؟ إنَّما دعاهم إلى ذلك أنَّهم تَلَوا ما جاء في القرآنِ عن مُعجزاتِ من سبق محمَّدًا من الرُّسُلِ، فاعتَقَدوا أنَّ هذا النَّوعَ من الخوارِقِ الماديَّةِ لازمٌ لكمالِ الرِّسالةِ، فصَدَّقوا ما رُوِيَ منها وإن لم يَرِدْ في القرآنِ) [1811] ((حياة محمد)) (ص: 71). .
وقال هيكل أيضًا: (ما دام الوَحيُ لم يَنزِلْ بها فلا جُناحَ على من يؤمِنُ باللهِ ورسولِه أن يجعَلَ ما يتَّصِلُ به من أمرِها محلَّ تمحيصٍ؛ فما ثبت بالحُجَّةِ اليَقينيَّةِ أخَذ به، وما لم يَثبُت بها فله فيه رأيُه، ولا تثريبَ عليه؛ فالإيمانُ باللهِ وَحدَه لا شريكَ له لا يحتاجُ إلى مُعجزةٍ، ولا يحتاجُ إلى أكثَرَ من النَّظَرِ في هذا الكونِ الذي خلَقه اللهُ والشَّهادةِ برسالةِ محمَّدٍ.. لا تحتاجُ إلى معجزةِ غيرِ القرآنِ) [1812] ((حياة محمد)) (ص: 72). .
وقال أيضًا: (قد لاحَظ الذين درَسوا هذه الكُتُبَ أنَّ ما روَتْه من أنباءِ الخوارِقِ والمعجزاتِ ومِن كثيرٍ غيرِها من الأنباءِ، كان يزيدُ ويَنقُصُ دونَ مُسَوِّغٍ إلَّا اختلافَ الأزمانِ التي وُضِعت هذه الكتُبُ فيها؛ فقديمُها أقلُّ روايةً للخوارِقِ من متأخِّرِها) [1813] ((حياة محمد)) (ص: 64). .
وهنا وَقفةٌ مع هيكل؛ فقد كشف لنا ناحيةً أُخرى من نواحي تأثُّرِه برجالِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ، ألا وهو التَّقليلُ من شأنِ السُّنَّةِ والاحتجاجِ بها؛ فما الذي يَقصِدُه بقولِه: (فصَدَّقوا ما رُوِيَ منها وإن لم يَرِدْ في القرآنِ)؟ هل يقصِدُ أنَّه لا يَصِحُّ شيءٌ ممَّا ورد في السُّنَّةِ واستقَلَّت ببيانِه ولم يَرِدْ في القرآنِ؟!
إن كان يقصِدُ هذا فالأمرُ أخطَرُ وأكثَرُ ضلالًا وانحرافًا، وهل يقولُ هذا من فَقِهَ الإسلامَ؟! إذَنْ ففي أيِّ سورةٍ من سُوَرِ القرآنِ ذِكرُ عَدَدِ ركَعاتِ الصَّلواتِ الخَمسِ وأوقاتِها؟ وفي أيِّ سورةٍ بيانُ أنصِبةِ الزَّكاةِ المفروضةِ؟ وفي أيِّ سورةٍ بيانُ وَقتِ الصَّومِ؟ وفي أيِّ سورةٍ بيانُ أركانِ الحَجِّ وواجباتِه؟ إنْ كان هذا كُلُّه ممَّا لا يُصَدَّقُ لأنَّه لم يَرِدْ في القرآنِ، فأيُّ شيءٍ من الإسلامِ يبقى؟!
إذًا ففِقهُ الإسلامِ وحقيقتُه تُحتِّمُ الأخذَ بالسُّنَّةِ مع القرآنِ الكريمِ، وبهما معًا يكونُ كمالُ الإسلامِ، ومَن نبَذ أحَدَهما فقد نبَذ الإسلامَ كُلَّه؛ لأنَّ الإسلامَ كُلٌّ لا يتجَزَّأُ، "والإسلامُ الكامِلُ" الذي جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عِندِ اللهِ وأُمِر بنَشرِه، جاء بالمُعجِزاتِ ورواها عنه أصحابُه إلى أن وصَلَت إلينا كما وقعَت، وإن أصاب رواياتِها ما أصاب غيرَها من الرِّواياتِ من الزِّيادةِ أو النَّقصِ أو الوَضعِ؛ فإنَّ هذا لا يُبرِّرُ رَفضَها جميعًا وإنكارَها؛ فإنَّ أهلَ الحديثِ قد محَّصوا الرِّواياتِ ونَقَّوها من الزِّيادات الموضوعةِ، وبَيَّنوا الدَّخيلَ منها والأصيلَ.
ولو أنَّه دعا إلى التَّمحيصِ والتَّدقيقِ القائمِ على القواعِدِ والأُسُسِ الثَّابتةِ التي سار على نهجِها عُلَماءُ الحديثِ، لامتُدِح لذلك، أمَّا أن يرفُضَ المعجِزاتِ النَّبَويَّةَ التي رُوِيت في الصِّحاحِ وأقرَّها عُلَماءُ الحديثِ المُسلِمون، يَرفُضُ هذا كُلَّه لمجرَّدِ أن شابَهُ بعضُ الوَضعِ، فهذا مَنهَجٌ مردودٌ.
أمَّا الزَّعمُ بأنَّه مخالَفةٌ للعقلِ أو العِلمِ، فهذا لا يَثبُتُ ولا يَصِحُّ، ولْيَعلَمْ أولئك الذين يسعَونَ لتجريدِ نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من المُعجِزاتِ تقَرُّبًا منهم "للعِلميَّةِ الغربيَّةِ" أنَّهم بهذا يَجنون جنايةً عظيمةً، وأنَّهم بهذا يُجَرِّدونه من صِفةِ النُّبوَّةِ إلى صِفةِ "العَبقَريَّةِ" التي يُقِرُّ بها بعضُ "أحرارِ الإفرِنْجِ"، ويَطمَعونَ مِنَّا أن نُسَلِّمَ لهم بهذا، وهو ما يؤدِّي إلى تجريدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من المُعجِزاتِ.
وتأثُّرُهم بالعِلميَّةِ الغربيَّةِ والمُستَشرِقين تجاوَز حَدَّه إلى قَبولِ أقوالِهم وأخْذِها بعينِ الاعتبارِ، وتقديمِها في الحُكمِ على الأحاديثِ، ومِن حيثُ السَّنَدِ أيضًا على أقوالِ أهلِ الحديثِ أنفُسِهم؛ فحديثُ شَقِّ الصَّدرِ الذي رواه البُخاريُّ ومُسلِمٌ يقولُ فيه هيكل: (لا يَطمَئِنُّ المُستَشرِقون ولا يَطمَئِنُّ جماعةٌ من المُسلِمين كذلك إلى قِصَّةِ المَلَكيِن هذه، ويَرَونَها ضعيفةَ السَّنَدِ) [1814] ((حياة محمد)) (ص: 111 – 112). !
ويقولُ أيضًا: (وإنَّما يدعو المُستَشرِقين ويدعو المُفَكِّرين من المُسلِمين إلى هذا الموقِفِ من ذلك الحديثِ أنَّ حياةَ محمَّدٍ كانت كلُّها إنسانيَّةً ساميةً، وأنَّه لم يلجَأْ في إثباتِ رسالتِه إلى ما لجأَ إليه مَن سَبَقه من أصحابِ الخوارِقِ) [1815] ((حياة محمد)) (ص: 111-112). .
وقد أنكَر هيكل غيرَ هذا من الخوارِقِ والمُعجِزاتِ المحمَّديَّةِ؛ ففي قِصَّةِ فَرَسِ سُراقةَ مثلًا زعَم أنَّ ما أصاب فرَسَه من الكَبْوِ إنَّما هو (لشِدَّةِ ما جَهَده) وعند قَومةِ الجَوادِ من كَبوتِه الثَّانيةِ (كَبا كَبوةً عنيفةً ألقى بها الفارِسَ من فَوقِ ظَهرِه يتدحرَجُ في سِلاحِه، وتَطَيَّرَ سُراقةُ، وأُلقيَ في رُوعِه أنَّ الآلهةَ مانعةٌ منه ضالَّتَه، وأنَّه مُعَرِّضٌ نَفسَه لخَطَرٍ داهِمٍ إذا همَّ مرَّةً رابعةً لإنفاذِ محاولتِه) [1816] ((حياة محمد)) (ص: 227). .
والذي ورد في صحيحِ البُخاريِّ قولُ سُراقةَ نَفسِه في وَصفِ ما جرى له ولفَرَسِه عِندَ مطاردتِه لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبِه أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في طريقِ هِجرتِهما من مكَّةَ إلى المدينةِ، قال عن ذلك: ((ساخَت يدا فَرَسِي في الأرضِ حتَّى بلَغَتا الرُّكبتَينِ فخَرَرْتُ عنها ثمَّ زجَرْتُها فنَهَضت فلم تكَدْ تُخرِجُ يَدَيها، فلمَّا استوت قائمةً إذا لأثَرِ يَدَيها عُثانٌ -أي: غُبارٌ- ساطِعٌ في السَّماءِ مِثلَ الدُّخانِ )) [1817] رواه البخاري (3906). .
وحتَّى نُدرِكَ عُمقَ الصِّلةِ بَينَ هيكل وأتباعِ المَدرَسةِ العقليَّةِ الحديثةِ في التَّفسيرِ وتأثُّرِه بهم، نذكُرُ أنَّ الشَّيخَ مصطفى المراغي هو الذي كتَب المقَدِّمةَ لهذا المؤلَّفِ مُشيدًا بما جاء فيه، ومُعجَبًا به ومُؤَيِّدًا له!
ودافَع عن المؤلِّفِ والكِتابِ محمَّد رشيد رضا في مجلَّته (المنار)، وجاء في دفاعِه: (أهَمُّ ما يُنكِرُه الأزهريُّون والطُّرُقيُّون على هيكل أو أكثَرُه مسألةُ المُعجِزاتِ أو خوارِقِ العاداتِ، وقد حرَّرْتُها في كتابِ (الوَحيُ المحمَّديُّ) بما أُثبِتُ به أنَّ القرآنَ وَحدَه هو حُجَّةُ اللهِ القطعيَّةُ على ثبوتِ نبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالذَّاتِ... وأنَّ الخوارِقَ الكونيَّةَ شُبهةٌ عِندَ عُلَمائِه لا حُجَّةٌ؛ لأنَّها موجودةٌ في زمانِنا ككُلِّ زمانٍ مضى، وأنَّ المفتونين بها هم الخُرافيُّون من جميعِ المِلَلِ) [1818] ((مجلة المنار)) في 3 مايو 1935 مجلد 34 الجزء العاشر (ص: 793). !
وهيكل نفسُه كثيرًا ما يستَشهِدُ فيما يذهَبُ إليه بأقوالِ محمَّد عَبدُه نفسِه ويُشيدُ به [1819] يُنظر: مثلًا الصفحات (34، 70، 181، 520، 521، 571، 573). ، وأكبَرُ ظَنِّه أنَّ أولئك الذين كَتَبوا السِّيرةَ النَّبَويَّةَ لو عاشوا إلى زمانِنا هذا ورأَوا كيف اتَّخذ خُصومُ الإسلامِ ما ذكَروه منها حُجَّةً على الإسلامِ وعلى أهلِه، لالتَزَموا ما جاء به القرآنُ، ولقالوا بما قال به محمَّد عَبدُه، والمراغي، وغيرهما [1820] يُنظر: ((حياة محمد)) (ص: 70). !
وقد قال عن محمَّد عَبدُه ودعوتِه: (كانت دعوتُه مَوضِعَ إعجابي، وقد دعاني ذلك لقراءةِ كتابِه (الإسلامُ والنَّصرانيَّةُ)، وكتابِ أستاذِه السَّيِّد جمال الدِّين الأفغانيِّ في (الرَّد على الدَّهْريِّين)، وأذكُرُ أنَّه قد كان لكثيرٍ من مقالاتِه في جريدةِ (العُروةُ الوُثقى) التي كان يُصدِرُها مع أستاذِه جمال الدِّينِ أثناءَ نَفيِه في باريسَ أبلَغُ الأثَرِ في نفسي) [1821] ((مذكرات في السياسة المصرية)) (1/28-29). .
فالصِّلةُ إذًا قويَّةٌ لا تنفَصِمُ بَينَ هيكل ورجالِ المَدرَسةِ العقليَّةِ أو الإصلاحيَّةِ.
وممَّن تأثَّر بهم أيضًا في هذا النَّاحيةِ محمَّد أحمد خلف الله، الذي زعَم أنَّ القرآنَ حارَب فِكرةَ المُعجِزاتِ، وبَيَّنَ أنَّها لم تكُنْ إلَّا للتَّخويفِ والإلزامِ، وأنَّ العقلَ البَشَريَّ يجِبُ أن يُترَكَ من غيرِ تخويفٍ ليتحَمَّلَ المسؤوليَّةَ على أساسٍ من الحُرِّيَّةِ والمقدِرةِ الحقَّةِ على التَّمييزِ والمفاضَلةِ والاختيارِ) [1822] ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) (ص: 76). .
وهو أيضًا يَستنِدُ فيما يقولُ إلى محمَّد عَبدُه، فقال: (يقولُ الأستاذُ الإمامُ قولًا يؤكِّدُ دورَ القرآنِ في عمليَّةِ تحريرِ العقلِ البَشَريِّ من فِكرةِ الخوارِقِ والمُعجِزاتِ... دخل الإنسانُ بدينِ الإسلامِ في سِنِّ الرُّشدِ فلم تَعُدْ مُدهِشاتُ الخوارِقِ هي الجاذِبةَ له إلى الإيمانِ) [1823] ((القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة)) (ص: 77). .

انظر أيضا: