موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: مَوقِفُ المَدرَسةِ العقلانيَّةِ الاعتِزاليَّةِ المُعاصِرةِ من السُّنَّةِ النَّبويَّةِ


لقد تأثَّر رجالُ هذه المَدرَسةِ بالمُعتَزِلةِ وآرائِهم في الحديثِ النَّبويِّ الشَّريفِ؛ ردًّا وتشكيكًا، وتأثَّروا كذلك بالشُّبَهِ التي أثارها المُستَشرِقون، وردَّدوها في مواقِفِهم وانحِرافاتِهم.
فأحاديثُ الآحادِ: رَدُّها الإصلاحيُّون، كما رَدَّها سلَفُهم من أهلِ الاعتزالِ، وطعَنوا فيها؛ لأنَّها تفيدُ ظَنًّا، ولا مجالَ للظَّنِّ في أمورِ العقائِدِ [1746] يُنظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) للأمين (ص: 638-643). .
قال محمَّد عَبدُه: (وأمَّا ما ورد في حديثِ مريمَ وعيسى من أنَّ الشَّيطانَ لم يَلمِسْهما، وحديثِ إسلامِ شيطانِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإزالةِ حَظِّ الشَّيطانِ مِن قَلبِه؛ فهو من الأخبارِ الظَّنيَّةِ؛ لأنَّه من روايةِ الآحادِ، ولَمَّا كان موضوعُها عالَمَ الغيبِ، والإيمانُ بالغيبِ من قِسمِ العقائِدِ، وهي لا يؤخَذُ فيها بالظَّنِّ؛ لقَولِه تعالى: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] - كنَّا غيرَ مُكَلَّفينَ بالإيمانِ بمضمونِ تلك الأحاديثِ في عقائِدِنا) [1747] ((تفسير المنار)) لرضا (3/392). .
وأكَّد هذا المَنهَجَ محمَّد رشيد رضا بقولِه: (أصولُ العقائِدِ وقضايا الإيمانِ التي يكونُ بها المرءُ مؤمنًا... لا يتوقَّفُ شَيءٌ منها على أحاديثِ الآحادِ) [1748] ((مجلة المنار))، (19/29). .
وهناك كثيرٌ من الأحاديثِ الصَّحيحةِ الثَّابتةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، رَدَّها الإصلاحيُّونَ بعقولِهم، وطَعَنوا فيها بحُجَّةِ أنَّها أحاديثُ آحادٍ مُفادُها الظَّنُّ، فلا تُبنى على مِثلِها العقائِدُ الثَّابتةُ؛ منها [1749] يُنظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) للأمين (ص: 644-714)؛ ففيها تفصيلٌ لموقِفِ الإصلاحيِّين، والرُّدودُ المناسبةُ على افتراءاتِهم. :
1- حديثُ نُزولِ عيسى عليه السَّلامُ في آخِرِ الزَّمانِ [1750] أخرجه البخاريُّ (2476)، ومسلم (155) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- أحاديثُ الدَّجَّالِ والجَسَّاسةِ [1751] أخرجه مسلم (2942) من حديثِ فاطِمةَ بنتِ قَيسٍ رَضِيَ اللهُ عنها. .
3- حديثُ سِحرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1752] أخرجه البخاريُّ (5763)، ومسلم (2189). .
4- حديثُ المعراجِ [1753] أخرجه البخاريُّ (7047). .
5- حديثُ وقوعِ الذُّبابِ في الإناءِ [1754] أخرجه البخاريُّ (5782) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
6- حديثُ: إنَّ أحَدَكم يَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ [1755] أخرجه البخاريُّ (7454) واللَّفظُ له، ومسلم (2643) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
7- حديثُ موسى عليه السَّلامُ ومَلَكِ الموتِ [1756] أخرجه البخاريُّ (1339)، ومسلم (2372) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
8- حديثُ إسلامِ شيطانِ النَّبيِّ [1757] أخرجه مسلم (2815). .
9- حديثُ عَدَمِ مَسِّ الشَّيطانِ لعيسى بنِ مَريمَ وأمِّه عليهما السَّلامُ [1758] أخرجه البخاريُّ (3431)، ومسلم (2366) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
إنَّ شيخَ المَدرَسةِ الإصلاحيَّةِ "محمَّد عَبدُه" كان قليلَ البضاعةِ في الحديثِ، وكان يرى في الاعتمادِ على المنطِقِ والبُرهانِ العَقليَّينِ خَيرَ سِلاحٍ للدِّفاعِ عن الإسلامِ، ومن هذينِ العامِلَينِ وقعَت له آراءٌ في السُّنَّةِ ورُواتِها، وفي العَمَلِ بالحديثِ والاعتدادِ به، ما صَحَّ أن يتَّخِذَه تلاميذُه -ومنهم أبو ريَّة- تُكَأةً يتَّكِئُ عليها؛ ليَخرُجَ على المُسلِمين بمِثلِ الآراءِ الشَّاذَّةِ التي خرَج بها.
وقد أثبَت الشَّافعيُّ في الرِّسالةِ تحتَ عُنوانِ: (الحُجَّةُ في تثبيتِ خَبَرِ الواحِدِ) ببيانِ قَوِيٍّ وأدلةٍ ناهِضةٍ من الكِتابِ والسُّنَّةِ وعمَلِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وتابِعي التَّابعينَ وفُقَهاءِ المُسلِمين: وجوبَ العَمَلِ بخبرِ الواحِدِ والأخذِ به [1759] يُنظر: ((الرسالة)) (ص: 41). .
تأثُّرُ الإصلاحيِّينَ بالمُستَشرِقين في إثارةِ الشُّبَهِ حَولَ السُّنَّةِ:
تحامَل المُستَشرِقون على السُّنَّةِ النَّبويَّةِ وأثاروا الشُّبَهَ والشُّكوكَ حولها، وأشاعوا أنَّ فيها كثيرًا من الوَضعِ، وأنَّ تدوينَها قد تأخَّر؛ ولذلك فلا صِحَّةَ لكثيرٍ من الأحاديثِ المُتداوَلةِ، كما شكَّكوا في كبارِ رُواةِ الحديثِ من الصَّحابةِ، كأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
وقد تأثَّر الإصلاحيُّون بشُبَهِ المُستَشرِقين، وآراءِ المُعتَزِلة، وكانوا جِسرًا يسيرُ فوقَه العصرانيُّون الجُدُدُ في إثارةِ الشُّبَهِ نَفسِها حولَ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ، كما سيتَّضِحُ ذلك بإذنِ اللهِ تعالى.
أوَّلًا: التَّشكيكُ في صِحَّةِ الحديثِ النَّبويِّ الشَّريفِ:
قال بعضُ تلامِذةِ الاستِشراقِ: (خلاصةُ القَولِ في هذا الموضوعِ أنَّنا يجِبُ علينا الاقتصارُ على كتابِ اللهِ تعالى مع استعمالِ العَقلِ والتَّصَرُّفِ، أو بعبارةٍ أُخرى "الكتابُ والقياسُ"، أمَّا السُّنَّةُ فما زاد منها على الكِتابِ، إنْ شِئْنا عَمِلْنا به، وإنْ شِئْنا ترَكْناه) [1760] ((مجلة المنار)) في العددين (7-12) من السنة التاسعة، د. توفيق صدقي في مقالين تحت عنوان ((الإسلام هو القرآن وحده)). .
قال الشَّافعيُّ: (إنَّ سُنَّةَ رَسولِ اللهِ لا تكونُ مُخالِفةً لكتابِ اللهِ بحالٍ، ولكِنَّها مُبَيِّنةٌ، عامَّةً وخاصَّةً) [1761] ((الرسالة)) (ص: 228). .
وقال ابنُ حزمٍ: (لو أنَّ امرأً قال: لا نأخُذُ إلَّا ما وجَدْنا في القرآنِ، لكان كافرًا بإجماعِ الأمَّةِ، وكان لا يَلزَمُه إلَّا ركعةٌ ما بَينَ دُلوكِ الشَّمسِ إلى غَسَقِ اللَّيلِ، وأُخرى عِندَ الفَجرِ، وإنَّما ذهب إلى هذا بعضُ غاليةِ الرَّافِضةِ ممَّن اجتمَعَت الأمَّةُ على كُفرِهم) [1762] ((الإحكام في أصول الأحكام)) (2/79 – 80). .
ومن المعلومِ أنَّ مُعارَضةَ السُّنَّةِ بالقرآنِ مَذهَبٌ رَديءٌ تَبَنَّاه أهلُ البِدَعِ والضَّلالةِ من المُعتَزِلةِ ومن سار على مِنوالِهم، وأمَّا السَّلَفُ -رحِمَهم اللهُ- فكانوا مُنَزَّهينَ عنه، وقد رَدَّ العُلَماءُ قديمًا على من عارَض السُّنَّةَ بالقُرآنِ، وبَيَّنوا فسادَ مَنهَجِه وضلالِه [1763] يُنظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) للأمين (ص: 743). .
ثانيًا: التَّشكيكُ في بعضِ ما في الصَّحيحَينِ:
قال محمَّد رشيد رضا: (دعوى وجودِ أحاديثَ موضوعةٍ في أحاديثِ البُخاريِّ المُسنَدةِ بالمعنى لا يَسهُلُ على أحدٍ إثباتُها، ولكِنَّه لا يخلو من أحاديثَ قليلةٍ في مُتونِها نَظَرٌ، قد يَصدُقُ عليه بعضُ ما عَدُّوه من علاماتِ الوضعِ، وإنَّ في البخاريِّ أحاديثَ في أمورِ العاداتِ والغرائزِ ليست من أصولِ الدِّينِ ولا فُروعِه... فإذا تأمَّلْتُم هذا وذاك عَلِمتُم أنَّه ليست من أصولِ الإيمانِ ولا من أركانِ الإسلامِ أن يؤمِنَ المُسلِمُ بكُلِّ حديثٍ رواه البُخاريُّ مهما يكُنْ موضوعُه... فالعُلَماءُ الذين أنكَروا صِحَّةَ بَعضِ تلك الأحاديثِ لم يُنكِروها إلَّا بأدلَّةٍ قامت عِندَهم، قد يكونُ بعضهًا صوابًا، وبعضُها خطأً، ولا يُعَدُّ أحَدُهم طاعنًا في دينِ الإسلامِ) [1764] ((مجلة المنار)) (29/ 104-105). .
وقد جاء مَن أنكَر كثيرًا ممَّا في الصَّحيحَينِ من أتباعِ هذه المَدرَسةِ، كأحمد أمين، ومحمود أبي ريَّة.
ولرَدِّ هذه الضَّلالةِ نَنقُلُ بعضَ أقوالِ العُلَماءِ:
قال النَّوويُّ: (اتَّفَق العُلَماءُ -رَحِمهم اللهُ- على أنَّ أصَحَّ الكُتُبِ بَعدَ القُرآنِ العزيزِ الصَّحيحانِ: البُخاريِّ ومُسلِمٍ، وتلقَّتْهما الأمَّةُ بالقَبولِ، وكِتابُ البُخاريِّ أصَحُّهما وأكثَرُهما فوائِدَ ومعارِفَ ظاهِرةً وغامِضةً) [1765] ((شرح مسلم)) (1/14). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (ليس تحتَ أديمِ السَّماءِ كِتابٌ أصَحُّ من البُخاريِّ ومُسلِمٍ بَعدَ القُرآنِ) [1766] ((مجموع الفتاوى)) (18/74). .
ثالثًا: التَّشكيكُ في تدوينِ الحديثِ النَّبويِّ:
زعَم هؤلاء جريًا وراءَ تُرَّهاتِ المُستَشرِقين أنَّ الحديثَ لم يُكتَبْ في عهدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ممَّا يدعو إلى التَّلاعُبِ والفسادِ، وأنَّه قد حصل ذلك بالفعلِ؛ ولذا طرأ على السُّنَّةِ من التَّبديلِ والزِّيادةِ كما طرَأ على أهلِ الكتابِ؛ لعَدَمِ كتابتِها في عَهدِه، وعَدَمِ حَصرِ الصَّحابةِ لها في كتابٍ مُعَيَّنٍ، وعَدَمِ تَبليغِها للنَّاسِ بالتَّواتُرِ، وعَدَمِ حِفظِها لهم جيدًا في صُدورِهم [1767] يُنظر: ((مجلة المنار)) (9/ 515، 911). .
قال محمَّد أبو زهو عن رشيد رضا: (هذه الدَّعوى من الشَّيخِ -عفا اللهُ عنه- لا أساسَ لها، بل تخالِفُ نصوصَ القُرآنِ الكريمِ، وتتعارَضُ مع ما تواتر من سُنَّةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأمينِ، ولا تتَّفِقُ وما أجمع عليه المُسلِمون في كافَّةِ الأزمانِ من عهدِ النَّبيِّ إلى اليومِ) [1768] ((الحديث والمحَدِّثون)) (ص: 242، 237). .
وقال أيضًا: (الحَقُّ أنَّ الصّحابةَ فَهِموا أنَّ السُّنَّةَ دِينٌ عامٌّ دائِمٌ كالقرآنِ، وكان هذا أمرًا بَدَهيًا عندَهم لا يحتاجُ إلى استدلالٍ، بل هو ضرورةٌ من ضروراتِ الدِّينِ، وبَدَهيٌّ عِندَ عامَّةِ المُسلِمين في جميعِ الأزمانِ حتَّى اليومِ) [1769] ((الحديث والمحَدِّثون)) (ص: 242، 237). .
رابعًا: تقسيمُ السُّنَّةِ إلى عَمَليَّةٍ وغيرِ عَمَليَّةٍ:
لا يلتَزِمُ الإصلاحيُّون إلَّا بالسُّنَّةِ العَمَليَّةِ دونَ القوليَّةِ.
قال محمَّد رشيد رضا: (إنَّ سُنَّتَه التي يجِبُ أن تكونَ أصلَ القُدوةِ هي ما كان عليه وخاصَّةُ أصحابِه عملًا وسيرةً، فلا تتوقَّفُ على الأحاديثِ القوليَّةِ) [1770] ((مجلة المنار)) (10/ 852) و (27/ 616). !
وقال أيضًا: (العُمدةُ في الدِّينِ هو القُرآنُ، وسُنَّةُ الرَّسولِ المتواتِرةُ، وهي السُّنَّةُ العَمَليَّةُ، كصِفةِ الصَّلاةِ، والمناسكِ مثلًا، وبعضُ الأحاديثِ القوليَّةِ التي أخذ بها جمهورُ السَّلَفِ. وما عدا هذا من أحاديثِ الآحادِ التي هي غيرُ قطعيَّةِ الرِّوايةِ أو غيرُ قطعيَّةِ الدَّلالةِ، فهي محلُّ اجتهادٍ) [1771] ((مجلة المنار)) (10/ 852) و (27/ 616). !
وقال محمود أبو ريَّة: (سُنَّةُ الرَّسولِ المتواتِرةُ -وهي السُّنَّةُ العَمَليَّةُ- وما أجمع عليه مُسلِمو الصَّدرِ الأوَّلِ، وكان معلومًا عندهم بالضَّرورةِ؛ كُلُّ ذلك قَطعيٌّ لا يَسَعُ أحدًا رَفضُه أو جَحدُه بتأويلٍ ولا اجتهادٍ... أمَّا إطلاقُ السُّنَّةِ على ما يَشمَلُ الأحاديثَ فاصطِلاحٌ حادِثٌ) [1772] ((أضواء على السنة المحمدية)) (ص: 351). .
ولو قُصِرت السُّنَّةُ على السُّنَّةِ المتواتِرةِ العَمَليَّةِ لفُرِّط في كثيرٍ من الأحاديثِ القوليَّةِ التي نُقِلت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جوانِبِ الدِّينِ في الأحكامِ والأخلاقِ والمواعِظِ [1773] يُنظر: ((دفاع عن السنة)) لأبي شهبة (ص: 29). .
هذا، وإنَّ السُّنَّةَ تشمَلُ أقوالَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأفعالَه وتقريراتِه، وهذا الذي عليه أهلُ العِلمِ قديمًا وحديثًا، كما تُطلَقُ على الأحاديثِ المتواتِرةِ والآحادِ، والقَولُ بأنَّ السُّنَّةَ هي السُّنَّةُ العَمَليَّةُ المتواتِرةُ فقط قولٌ لا صِحَّةَ له، بل هو اصطِلاحٌ حادِثٌ لا يخفى بُطلانُه [1774] يُنظر: ((الأنوار الكاشفة)) للمُعَلِّمي (ص: 21، 57). .
خامسًا: القَدحُ في عدالةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم:
شكَّك بعضُ الإصلاحيِّينَ وتلامِذتِهم في عدالةِ الصَّحابةِ؛ رُواةِ الحديثِ [1775] يُنظر: ((موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية)) للأمين (ص: 754-768). .
قال محمود أبو ريَّة: (إنَّهم -أي العُلَماءَ- قد جعلوا جَرحَ الرُّواةِ وتعديلَهم واجبًا تطبيقُه على كُلِّ راوٍ مهما كان قَدرُه، وإنَّهم قد وقَفوا دونَ عَتَبةِ الصَّحابةِ فلم يتجاوزوها؛ إذ اعتَبَروهم جميعًا عُدولًا لا يجوزُ عليهم نَقدٌ، ولا يتَّجِهُ إليهم تجريحٌ، ومن قولِهم في ذلك: (إنَّ بِساطَهم قد طُوِيَ)، ومن العَجَبِ أنَّهم يَقِفون هذا الموقِفَ على حينِ أنَّ الصَّحابةَ أنفُسَهم قد انتقَد بعضُهم بعضًا) [1776] ((أضواء على السنة المحمدية)) (ص310). !
وهذا التَّساؤُلُ أجاب عنه قديمًا أبو حاتمِ بنُ حِبَّانَ، فقال: (إن قال قائِلٌ: فكيف جَرَحْتَ مَن بَعدَ الصَّحابةِ وأَبيتَ ذلك في الصَّحابةِ، والسَّهوُ والخطَأُ موجودٌ في أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما وُجِد فيمن بَعدَهم مِن المحَدِّثين؟ يقالُ له: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ نَزَّه أقدارَ أصحابِ رَسولِه عن ثَلبِ قادحٍ، وصان أقدارَهم عن وقيعةِ مُنتَقِصٍ، وجعَلَهم كالنُّجومِ يُقتَدى بهم... ومن شَهِد التَّنزيلَ وصَحِبَ الرَّسولَ فالثَّلبُ لهم غيرُ حلالٍ، والقَدحُ ضِدُّ الإيمانِ، والتَّنقُّصُ لأحَدِهم نَفسُ النِّفاقِ؛ لأنَّهم خيرُ النَّاسِ قَرنًا بَعدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1777] ((الضعفاء والمتروكين من المحدثين)) (1/ 35). .
وممَّن ألصَقوا بهم مجموعةً من التُّهَمِ: الصَّحابيُّ الجليلُ أبو هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، متابعينَ في ذلك من أكَل الحِقدُ قُلوبَهم من المُستَشرِقين يهودًا أو نصارى، وذلك افتراءٌ وبُطلانٌ [1778] يُنظر: ((مجلة المنار)) (29/43)، و(19/99)، ((فجر الإسلام)) لأمين (ص: 219)، ((أضواء على السنة المحمدية)) لأبي رية (ص: 154، 196). .
سادسًا: إنكارُ حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ:
مُنذُ صدَع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما أُمِر، وأعرَض عن المُشرِكين، ومُنذُ أنذَر عشيرتَه الأقرَبين وخفَض جَناحَه لمن اتَّبَعه من المُؤمِنين، وقال: أنا النَّذيرُ المُبِينُ؛ مُنذُ ذلك الحينِ وأعداءُ الدِّينِ ما فَتِئوا يَكيدون للإسلامِ وأهلِه ويُحارِبونه بكُلِّ وسيلةٍ وكُلِّ سبيلٍ.
فزَعَموا أنَّ القرآنَ أساطيرُ، وزعَموا أنَّ محمَّدًا ساحِرٌ وشاعِرٌ وكاهِنٌ، وزعَموا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "كذَّابٌ أَشِرٌ"، وزعَموا أنَّه عبقريٌّ لا نبيٌّ، وزعَموا أنَّ الإسلامَ مجموعةُ أفكارٍ إصلاحيَّةٍ بَشَريَّةٍ لا دينٌ إلهيٌّ. وقيل بأنَّ الوَحيَ عِرفانٌ يجِدُه الشَّخصُ في نفسِه، وجاء من يُشَكِّكُ في أحاديثِ أبي هُريرةَ وأنَّه لا يَبعُدُ أن يكونَ قد رواه عن كَعبِ الأحبارِ أو وَهبِ بنِ مُنَبِّهٍ، فجاء مَن يَسُبُّ أبا هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ويَشتِمُه ويرفُضُ أحاديثَه كُلَّها صحيحَها وضعيفَها!
وقد نشَر محمَّد حسين هيكل كتابَه (حياةُ محمَّدٍ) وأنكر فيه مُعجزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقدَّم للكتابِ الشَّيخُ محمَّد مصطفى المَراغي، وقرَّظه رشيد رضا!
وأنكَر الدُّكتورُ توفيق صدقي حُجِّيَّةَ السُّنَّةِ، وعُنوانُ مقالِه (الإسلامُ هو القرآنُ وَحدَه)، وقد نشَره الأستاذُ محمَّد رشيد في عددَينِ من مجلَّتِه (المنار)!
وتحدَّث أحمد أمين في كتابِه: "فَجرُ الإسلامِ" عن الحديثِ النَّبويِّ، فمَزَج السُّمَّ بالدَّسَمِ وخلَط الحَقَّ بالباطلِ، كما يقولُ مصطفى السِّباعي [1779] يُنظر: ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) (ص: 236). ، فزعَم أنَّ هناك أمورًا كثيرةً تُضعِفُ من حُجِّيَّةِ السُّنَّةِ؛ منها: أنَّ الحديثَ لم يُدَوَّنْ في عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزعَم أنَّه نشَأ عن هذا كثرةُ الوضعِ والكَذِبِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ساعد على ذلك كثرةُ دخولِ الشُّعوبِ في الإسلامِ، وزعَم أنَّ عُلَماءَ الحديثِ إنَّما اعتَنَوا بالسَّنَدِ، ولم يَعتَنوا بنَقدِ المتنِ عُشرَ عنايتِهم بالسَّنَدِ، ثمَّ شَكَّك في حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، وفي حِفظِه!
وقد نشَر إسماعيل أدهم رسالةً سَنةَ (1353ه) زعَم فيها أنَّ الأحاديثَ التي تضمَّنَتْها كُتُبُ الصِّحاحِ ليست ثابتةَ الأُصولِ والدَّعائِمِ، بل هي مشكوكٌ فيها ويَغلِبُ عليها صفةُ الوَضعِ، وثارت حولَ هذه الرِّسالةِ ضَجَّةٌ انتهت بمُصادَرتِها، ودافَع أدهمُ عن نفسِه بأنَّ ما قاله قد وافقه عليه كِبارٌ أُدباءُ وعُلَماءُ، ذكَرَ منهم أحمد أمين، ولم يُكَذِّبْ أحمد أمين ما قال هذا، بل كتَب ما يُفيدُ تألُّمَه ممَّا حصَل لصاحبِه،، واعتبارَ ذلك محارَبةً لحُرِّيَّةِ الرَّأيِ، وحَجَرَ عَثرةٍ في سبيلِ البُحوثِ العِلميَّةِ [1780] يُنظر: ((السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي)) للسباعي (ص: 238). !
وفي عامِ (1377ه) ظهَر كتاب (أضواءٌ على السُّنَّةِ المحمَّديَّةِ) أو (دفاعٌ عن الحديثِ) لمحمود أبو ريَّة. ومن التَّوافُقِ العجيبِ أنَّ الذي قدَّم لهذا الكتابِ الذي أنكَر حُجِّيَّةَ السُّنَّةِ هو الذي أنكَر صِدقَ قَصَصِ القُرآنِ، وأنكر حُجِّيَّتَه فيما يخبِرُ به، وهو طه حسين!
ونشَر (السيد صالح أبو بكر) كتابًا زعَم أنَّه (الأضواءُ القرآنيَّةُ في اكتِساحِ الأحاديثِ الإسرائيليَّةِ وتطهيرِ البُخاريِّ منها) زعَم فيه أنَّ من أهدافِه (تقديمَ حصيلةِ الفَحصِ الدَّقيقةِ للأحاديثِ المعارِضةِ للقُرآنِ، والمنافيةِ لِما يليقُ باللهِ وبرسولِه، والتي جمَعْناها من صحيحِ البُخاريِّ باعتبارِه عُمدةَ المراجِعِ في هذا المجالِ، وعَدَدُها مئةٌ وعِشرون حديثًا، والتَّعقيبِ القُرآنيِّ على كُلٍّ منها بما يُثبِتُ أنَّها دخيلةٌ على كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1781] ((الأضواء القرآنية)) (ص: 3-6). !
وعدَّ من أهدافِه (القضاءَ على مُنازعةِ الحديثِ الباطِلِ للقُرآنِ الكريمِ) [1782] ((الأضواء القرآنية)) (ص: 3-6). ، ومنها: (إدراكُ العواقِبِ المترتِّبةِ على تَركِ الأحاديثِ المُخالِفةِ للقرآنِ الكريمِ دونَ تجريحٍ وإظهارٍ لعُيوبِها) [1783] ((الأضواء القرآنية)) (ص: 3-6). و(إثباتُ أنَّ دينَ اللهِ هو القرآنُ بدايةً ونهايةً) [1784] ((الأضواء القرآنية)) (ص: 3-6). ، وقال أخيرًا: (كتابُنا هذا يَستَنِدُ إلى كتابِ اللهِ نصًّا ومعنًى) [1785] ((الأضواء القرآنية)) (ص: 3-6). .
والحقُّ أنَّنا في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى مِثلِ هذه الأهدافِ، والحَقُّ أيضًا أنَّ هذا الرَّجُلَ بعيدٌ كُلَّ البُعدِ عن المَنهَجِ الذي زعَم، بل عِمادُ نَقلِه وأُسُّه محمود أبو ريَّة السَّالِفُ ذِكرُه؛ فهو كثيرًا ما ينقُلُ عنه، بل نستطيعُ القولَ: إنَّ الجزءَ الأوَّلَ منه خُلاصةٌ لكتابِ أبي رَيَّة، ثمَّ أراد المؤلِّفُ مُنافَسةَ أبي رَيَّة على مناهِلِه الأُولى، فنَقَل أيضًا عن محمَّد عَبدُه، وعن رشيد رضا، وغيرِهما من مَدرَسةِ المنار.
بل إنَّ بَدءَ هجومِه على أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه يُصدِرُه برأيِ مَدرَسةِ المنارِ، فيَضَعُ عُنونًا (أبو هريرةَ ورأيُ عُلَماءِ الحديثِ فيه مثلًا في مَدرَسةِ المنار) [1786] ((الأضواء القرآنية)) (ص: 58). .
وقد خَصَّص المؤلِّفُ الصَّفحاتِ مِن 58 إلى 63 للتَّشكيكِ في أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، وفي روايتِه.

انظر أيضا: