الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الرَّابعُ: التَّصَرُّفُ في المَبيعِ الدَّينِ قَبلَ القَبضِ


الفَرْعُ الأوَّلُ: بَيعُ الدَّينِ المُستَقِرِّ على مَن هو عليه بثَمَنٍ حالٍّ
يَجوزُ بَيْعُ الدَّينِ المُستَقِرِّ الدَّينُ المُستَقِرُّ؛ كالقَرضِ، والمَهرِ بَعدَ الدُّخولِ، والأجرةِ الَّتي استوفَى نَفعُها. على من هو عليه بثَمَنٍ حالٍّ كأن يَكونَ لِرَجُلٍ على آخَرَ دينٌ ألفُ دولارٍ، فأرادَ أن يُعطيَه بَدَلًا مِنها أربَعةَ آلافِ ريالٍ سُعوديٍّ في مَجْلِسِ العَقْدِ. ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ واشتَرَطوا لِذلك شُروطًا: مِنها: أن يَكونَ المَبيعُ مِمَّا يَجوزُ بَيعُه قَبلَ قَبضِه، فلا يَجوزُ بَيعُ المُسلمِ فيه، كما سَيَأتي في المَسألةِ التَّاليةِ، وهوَ مَذهَبُ الجُمهورِ. واشتَرَطَ المالِكيَّةُ ألَّا يَكونَ الدَّينُ طَعامًا، وأن يَكونَ الغَريمُ حاضِرًا مُقِرًّا بِه، وأن يُباعَ بِغَيرِ جِنسِه، وألَّا يُقصَدَ بِبَيعِه ضَررُ المِدْيانِ، وأن يَكونَ الثَّمنُ نَقدًا. ينظر: ((المدونة)) لسحنون (3/133)، ((التاج والإكليل)) للموَّاق (4/542)، ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/234)،. : الحَنَفيَّةِ ((تبيين الحقائق)) للزَّيلعي (4/139، 140)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/280)، (6/216)، ((الفتاوى الهندية)) (3/102). ، والمالِكيَّةِ ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/234)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/46). ، والشَّافِعيَّةِ ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/71،70)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/90، 92). ، والحَنابِلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/87)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/ 307،265)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/172).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
الأصلُ في البَيعِ الحِلُّ إلَّا ما دَلَّ الدَّليلُ على تَحريمِه ((تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي)) (4/87)، ((البناية)) للعيني (8/270). ، ولا دليلَ على التحريمِ.
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ أنَّهُ: (كانَ لا يَرى بَأسًا، يَعني في قَبضِ الدَّراهمِ مِنَ الدَّنانيرِ، والدَّنانيرِ مِنَ الدَّراهمِ) أخرجه النسائي (4585) واللَّفظُ له، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (14577)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (21208 ) بمعناه صَحَّحه الألباني في ((صحيح النسائي)) (4599)، وحسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في ((تخريج المسند)) (8/490).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
الأثَرُ يَدُلُّ على جَوازِ بَيعِ ما في الذِّمَّةِ مِن أحَدِ النَّقْدَينِ بالآخَرِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/87).
ثالثًا: لأنَّهُ إذا باعَه على مَن هو عليه الدَّينُ يَصيرُ قابِضًا لهُ؛ لأنَّهُ في ذِمَّتِه ((المبسوط)) للسرخسي ( (15/122، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (5/148).
الفَرْعُ الثَّاني: بَيْعُ الدَّينِ غَيرِ المُستَقِرِّ على مَن هو عليه إذا كانَ سَلَمًا
اختَلَفَ العُلَماءُ في بَيعِ الدَّينِ غَيرِ المُستَقِرِّ على مَن هو عليه إذا كانَ سَلَمًا قَبلَ قَبضِه على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَجوزُ بَيعُ الدَّينِ غَيرِ المُستَقِرِّ (المُسَلَّمِ فيه) على مَن هو عليه مُطلَقًا، سَواءٌ كانَ المُسَلَّمُ فيه مَوجودًا، أو مَعدومًا، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ ((الهداية)) للمرغيناني (3/74)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/179). ، والشَّافِعيَّةِ ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/405)، ((نهاية المحتاج)) للرَّملي (4/90). ، والحَنابِلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/87)، ((الإنصاف)) للمرداوي (5/84). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابنُ قُدامةَ: (أمَّا بَيعُ المُسلمِ فيه قَبلَ قَبضِه، فلا نَعلَمُ في تَحريمِه خِلافًا) ((المغني)) (4/227). وقال ابنُ القَيِّمِ في نَقضِه لِلإجماعِ: (قالوا: وأمَّا قَولُكم: إنَّ المَنعَ مِنه إجماعٌ، فكَيفَ يَصِحُّ دَعوَى الإجماعِ مَعَ مُخالَفةِ حَبْرِ الأمَّةِ ابنِ عَبَّاسٍ وعالِمِ المَدينةِ مالِكِ بنِ أنَسٍ، فثبَت أنَّه لا نَصَّ في التَّحريمِ ولا إجماعَ ولا قياسَ، وأنَّ النَّصَّ والقياسَ يَقتَضيانِ الإباحةَ كما تَقَدَّمَ، والواجِبُ عِندَ التَّنازُعِ الرَّدُّ إلَى اللهِ وإلَى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) ((تهذيب السنن)) (9/260).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عَبدِ اللهِ بنِ دِينارٍ قال: سَمِعتُ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما يَقولُ: ((قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَنِ ابتاعَ طَعامًا فلا يَبِعْهُ حَتَّى يَقبِضَه )) أخرجه البخاري (2133)، ومسلم (1526).
وَجْهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثِ:
أنَّهُ نَهى عن بَيعِ الطَّعامِ قَبلَ قَبضِه، والمُسَلَّمُ فيه لم يَتِمَّ قَبضُه، فيَكونُ مَنهيًّا عن بَيعِه، وقِيسَ غَيرُ الطَّعامِ على الطَّعامِ ((المغني)) لابن قدامة (4/227).
ثانيًا: لأنَّهُ مَبِيعٌ لم يَدخُلْ في ضَمانِه، فلَم يَجُزْ بَيعُه، كالطَّعامِ قَبلَ قَبضِه ((المغني)) لابن قدامة (4/227).
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ بَيعُ الدَّينِ غَيرِ المُستَقِرِّ (المُسَلَّمِ فيه) على مَن هو عليه أجازه المالِكيَّةُ بشُروطٍ. ينظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/220، 221)، ((منح الجليل)) لعليش (5/396). ، وهو روايةٌ عن أحمَدَ ((الإنصاف)) للمرداوي (5/84). ، وقولُ ابنِ عبَّاسٍ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/519). ، واختاره ابنُ تَيمِيَّةَ اشتَرَطَ ابنُ تيميَّةَ بِأن يَبيعَه بِسِعرِ يَومِه، وأن يَحصُلَ التَّقابُضُ قَبلَ التَّفَرُّقِ فيما إذا باعَه بِشَيءٍ يَجري فيه رِبا النَّسيئةِ. قال ابنُ تيميَّةَ: (إذا أسلَمَ في حِنطةٍ فاعتاضَ عَنها شَعِيرًا ونَحوَ ذلك: فهذه فيها قَولانِ لِلعُلَماءِ: أحَدُهما: أنَّه لا يَجوزُ الِاعتياضُ عَنِ السَّلَمِ بِغَيرِه، كما هوَ مَذهَبُ أبي حَنيفةَ والشَّافِعيِّ وأحمَدَ في إحدَى الرِّوايَتَينِ عَنه. والثَّاني: يَجوزُ الِاعتياضُ عَنه في الجُملةِ إذا كانَ بِسِعرِ الوَقتِ أو أقَلَّ. وهَذا هوَ المَرويُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ حَيثُ جوَّز إذا أسلَمَ في شَيءٍ أن يَأخُذَ عِوَضًا بِقيمَتِه، ولا يَربَح مَرَّتَينِ. وهوَ الرِّوايةُ الأخرَى عَن أحمَدَ؛ حَيثُ يَجوزُ أخذُ الشَّعيرِ عَنِ الحِنطةِ إذا لَم يَكُنْ أغلَى مِن قيمةِ الحِنْطةِ... والقَولُ الثَّاني: أصَحُّ، وهوَ قَولُ ابنِ عَبَّاسٍ، ولا يُعرَفُ لَه في الصَّحابةِ مُخالِفٌ؛ وذلك لِأنَّ دَينَ السَّلَمِ دَينٌ ثابِتٌ، فجازَ الِاعتياضُ عَنه، كبَدَلِ القَرْضِ وكالثَّمَنِ في المَبيعِ؛ ولِأنَّه أحَدُ العِوَضَينِ في البَيعِ، فجازَ الِاعتياضُ عَنه، كالعِوَضِ الآخَرِ) ((مجموع الفتاوى)) (29/512،519). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (فإذا جازَ في الأعيانِ أن تُباعَ لبائِعِها قَبلَ القَبضِ فدَينُ السَّلَمِ أَولَى بالجَوازِ، كما جازَتِ الإقالةُ فيه قَبلَ القَبضِ اتِّفاقًا بِخِلافِ الإقالةِ في الأعيانِ، ومِمَّا يُوَضِّحُ ذلك أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ لا يُجوِّزُ بَيعَ المَبيعِ قَبلَ قَبضِه، واحتَجَّ عليه بنَهيِ النَّبيِّ عَن بَيعِ الطَّعامِ قَبلَ قَبضِه، وقال: أحسبُ كُلَّ شَيءٍ بِمَنزِلةِ الطَّعامِ، ومَعَ هَذا فقَد ثَبَتَ عنه أنَّه جَوَّز بَيعَ دَينِ السَّلَمِ مِمَّن هو عليه إذا لم يَربَحْ فيه، ولَم يُفَرِّقْ بَينَ الطَّعامِ وغَيرِه، ولا بَينَ المَكيلِ والمَوزونِ وغَيرِهما) ((تهذيب السنن)) لابن القيم (9/257، 258). ، وابنُ عُثَيمين اشتَرَطَ ابنُ عُثَيمين بِأن يَبيعَه بِسِعرِ يَومِه، وأن يَحصُلَ التَّقابُضُ قَبلَ التَّفَرُّقِ فيما إذا باعَه بِشَيءٍ يَجري فيه رِبا النَّسيئةِ، وألَّا يَجعَلَه ثَمَنًا لِسَلَمٍ آخَرَ. قال ابنُ عُثَيمين: (فإنْ قال قائِلٌ: إذَن هَل يَجوزُ بَيعُ المُسلِمِ فيه قَبلَ قَبضِه؟ فالجَوابُ: نَعَم، يَجوزُ بَيعُه على المُسلمِ إليه، وعِندَ شَيخِ الإسلامِ يَجوزُ بَيعُه حَتَّى على أجنَبيٍّ، لَكِن فيه نَظَرٌ؛ لِأنَّه حَقيقةً إذا بِعْتَه على غَيرِ مَن هوَ عليه، قَد يَتَعَذَّرُ عليه أخذُه، ثُمَّ إذا بِعْتَه على غَيرِ مَن هو عليه بِما يُباعُ نَسيئةً، مَعناه ما قَبَضَه. فالتَّوَسُّعُ غَيرُ ظاهرٍ لي جِدًّا، وشَيخُ الإسلامِ يُجَوِّزُ بَيعَ الدَّينِ على غَيرِ مَن هوَ عليه، ولَكِنَّه يَشتَرِطُ القُدرةَ على أخذِه. لَكِن إنْ باعَه على المُسلمِ إلَيه فإنَّه يَشتَرِطُ ثَلاثةَ شُروطٍ: الأوَّلُ: ألَّا يَربَحَ، بِأن يَبيعَه بِسِعرِ يَومِه؛ لِأنَّه لَو باعَه بِأكثَرَ مِن سِعرِ يَومِه لرَبِحَ فيما لم يَضمَنْ، وقَد نَهَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن رِبحِ ما لم يَضمَنْ، فمَثَلًا أسلَمَ في مِائةِ صاعِ بُرٍّ حَلَّت وقيمَتُها عِندَ الوَفاءِ مِائَتا دِرْهَمٍ فقَط، فقال: أبيعُها عليكَ بِمِائَتَينِ وخَمسينَ دِرْهمًا، لا يَجوزُ؛ لِأنَّه رَبِحَ في هَذا البُرِّ قَبلَ أن يَدخُلَ في ضَمانِه؛ لِأنَّه لَم يَملِكْه ولم يَقبِضْه، فيَكونُ قَد رِبِحَ فيما لَم يَضْمَنْ، ولِحَديثِ ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، وفيه: لا بَأسَ أن تَأخُذَها بِسِعرِ يَومِها؛ حَتَّى لا يَربَحَ فيما لَم يَضمَنْ. فإن كانَت مِائةُ الصَّاعِ تُساوي مِائَتَي دِرهَمٍ، وباعَها عليه بِمِائةٍ وخَمسِينَ، يَجوزُ؛ لِأنَّه إذا جازَ بِسِعرِ يَومِها، فبِما دونَه مِن بابِ أَولَى. ولِأنَّنا عَلَّلنا مَنعَ الزِّيادةِ بِألَّا يَربَحَ فيما لَم يَضمَنْ، وهَذا لَم يَربَح بَل خَسِرَ. والمُرادُ بِقَولِه: بِسِعرِ يَومِها، ألَّا تَزيدَ، فإنْ نَقصْتَ فقَد فعَلْتَ خَيرًا. الشَّرطُ الثَّاني: أن يَحصُلَ التَّقابُضُ قَبلَ التَّفَرُّقِ فيما إذا باعَه بِشَيءٍ يَجري فيه رِبا النَّسيئةِ، مِثالُه: أن يَبيعَ البُرَّ بِشَعيرٍ، مِائةَ صاعِ بُرٍّ بمِائَتَي صاعِ شَعيرٍ، فهَذا جائِزٌ بِشَرطِ التَّقابُضِ قَبلَ التَّفَرُّقِ؛ لِأنَّ بَيعَ البُرِّ بِالشَّعيرِ يُشتَرَطُ فيه التَّقابُضُ قَبلَ التَّفَرُّقِ، ولِحَديثِ ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: لا بَأسَ أن تَأخُذَها بِسِعرِ يَومِها، ما لَم تَتَفَرَّقا وبَينَكُما شَيءٌ؛ لِأنَّه يَبيعُ دَراهِمَ بدَنانيرَ أو دَنانيرَ بِدراهمَ، وبيعُ الدَّراهمِ بِالدَّنانيرِ يُشتَرَطُ فيه التَّقابُضُ قَبلَ التَّفَرُّقِ. الشَّرطُ الثَّالِثُ: ألَّا يَجعَلَه ثَمَنًا لِسَلَمٍ آخَرَ؛ لِأنَّه إذا جَعَلَه ثَمَنًا لِسَلَمٍ آخَرَ، فإنَّ الغالِبَ أن يَربَحَ فيه، وحينَئِذٍ يَكونُ رَبِحَ فيما لَم يَضمَنْ، مِثالُه: حَلَّ السَّلَمُ مِائةَ صاعٍ مِنَ البُرِّ، فقالا: سَنَجعَلُها سَلَمًا في خَمْسٍ مِنَ الغَنَمِ -لِأنَّ السَّلَمَ في الحَيَوانِ يَجوزُ كما سَبَقَ- خَمسٌ مِنَ الغَنَمِ صِفَتُها كذا وكَذا، تَحِلُّ بعدَ سَنةٍ، فهَذا لا يَجوزُ؛ لِأنَّ الغالِبَ أنَّه لا يَفعَلُ هَذا إلَّا بِرِبحٍ، وأنَّ هذه الغَنَمَ الخَمسَ تُساوي مِائةً وعِشرينَ صاعًا، ولأنَّه يُؤَدِّي إلَى قَلبِ الدَّينِ بِحَيثُ يَكونُ كُلَّما حَلَّ دَينُه جَعله سَلَمًا آخَرَ، وهَذا حيلةٌ على قَلبِ الدَّينِ وازديادِه في ذِمَّةِ المَدِينِ بِهذه الطَّريقةِ، وكُلَّما حَلَّ الدَّينُ قال: اجعَلْه سَلَمًا آخَرَ، وهَكَذا حَتَّى تَتَراكَمَ عليه الدُّيونُ، فالرَّاجِحُ أنَّ بَيعَه جائِزٌ لَكِن بِالشُّروطِ الثَّلاثةِ المَذكورةِ) ((الشرح الممتع)) (9/ 87).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
الأصلُ في البَيعِ الحِلُّ إلَّا ما دَلَّ الدَّليلُ على تَحريمِه ((تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي)) (4/87)، ((البناية)) للعيني (8/270). ، ولا دَليلَ على التَّحريمِ.
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (إذا أسلَفْتَ في طَعامٍ فحَلَّ الأجَلُ، فلَم تَجِدْ طَعامًا، فخُذْ مِنهُ عَرضًا بأنقَصَ، ولا تَربَحْ عليه مَرَّتَينِ). 
وجهُ الدَّلالةِ
أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ أجازَه، وقَولُ الصَّحابيِّ حُجَّةٌ ما لم يُخالَفْ ((تهذيب السنن)) لابن القيم (9/ 256).
ثالثًا: لأنَّ دَيْنَ السَّلَمِ أحَدُ العِوَضَينِ في البَيعِ، فجازَ الِاعتياضُ عنه كغَيرِه ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/519).
الفَرْعُ الثَّالثُ: بَيعُ الدَّينِ غَيرِ المُستَقِرِّ على مَن هو عليه فيما عَدا السَّلَمَ
يَجوزُ بَيْعُ الدَّينِ غَيرِ المُستَقِرِّ كالمَهْرِ قَبْلَ الدُّخولِ على الزَّوجةِ، وكالأُجرةِ قبل استيفاءِ المَنْفعةِ. على مَن هو عليه فيما عَدا السَّلَمَ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (5/153، 154). ، والشَّافِعيَّةِ ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/306)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/90). ، وروايةٌ عن أحمَدَ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/519) ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّةَ (5/393). واختاره ابنُ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (يَجوزُ بيعُ الدَّينِ مِمَّن هو عليه؛ لِأنَّ ما في الذِّمَّةِ مَقبوضٌ لِلمَدينِ، لَكِن إنْ باعَه بِما لا يُباعُ به نَسيئةً اشتُرِطَ فيه الحُلولُ والقَبضُ؛ لِئَلَّا يَكونَ رِبًا، وكَذلك إذا باعَه بِمَوصوفٍ في الذِّمَّةِ. وإن باعَه بِغَيرِهما فوَجهانِ: أحَدُهما: لا يُشتَرَطُ كما لا يُشتَرَطُ في غَيرِهما. والثَّاني: يُشتَرَطُ؛ لِأنَّ تَأخيرَ القَبضِ نَسيئةٌ كبَيعِ الدَّينِ بالدَّينِ) ((مجموع الفتاوى)) (29/512). وقال: (يَجوزُ بيعُ الدَّينِ في الذِّمَّةِ مِنَ الغَريمِ وغَيرِه، ولا فرقَ بينَ دَينِ السَّلَمِ وغَيرِه، وهو رِوايةٌ عَن أحمَدَ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ: لَكِنْ بِقَدرِ القيمةِ فقَط؛ لِئَلَّا يَربَحَ فيما لَم يَضمَنْ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/393).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
الأصلُ في البَيعِ الحِلُّ إلَّا ما دَلَّ الدَّليلُ على تَحريمِه ((تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي)) (4/87)، ((البناية)) للعيني (8/270). ، ولا دَليلَ على التَّحريمِ.
ثانيًا: لأنَّ ما في الذِّمَّةِ مَقبوضٌ للمَدِينِ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/512).
الفَرْعُ الرَّابعُ: بَيْعُ الدَّينِ المُستَقِرِّ لغَيرِ المَدِينِ بثَمَنٍ حالٍّ كأن يَكونَ لِشَخصٍ دينٌ على زَيدٍ سِلعة تُقَدَّرُ بِألفِ ريالٍ مَثَلًا، فيَبيعُها على عَمْرٍو بِألفِ ريالٍ حالَّةٍ (نَقدًا)، وتَكونُ السِّلعةُ دَيْنًا لِعَمْرٍو على زَيدٍ.  
اختَلَفَ العُلَماءُ في بَيعِ الدَّينِ المُستَقِرِّ لغَيرِ المَدينِ بثَمَنٍ حالٍّ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَجوزُ بَيعُ الدَّينِ المُستَقِرِّ لغَيرِ المَدِينِ بثَمَنٍ حالٍّ، وهو مَذْهَبُ الحَنَفيَّةِ استَثنَى الحَنفيَّةُ مِن عَدَمِ جَوازِ بيعِ الدَّينِ على غَيرِ مَن هوَ عليه ثَلاثةَ أشياءَ، هيَ: الأُولَى: إذا سَلَّطَه على قَبضِه، فيَكونُ وكيلًا قابِضًا لِلمولَى ثُمَّ لِنَفسِه. الثَّانيةُ: الحوالةُ. الثَّالِثةُ: الوَصيَّةُ. ((تبيين الحقائق)) للزَّيلعي (4/83)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/280)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/152). ، والحَنابِلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/88)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/72). ، وقَولٌ للشَّافِعيَّةِ ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/409)، ((نهاية المحتاج)) للرَّملي (4/92). ، وهو قَوْلُ بَعضِ السَّلَفِ ومنهم: الثَّوريُّ، وإسحاقُ. ينظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/48). ، وذلك لأنَّهُ غَيرُ قادِرٍ على تَسليمِه فلَم يَصِحَّ، كَبيعِ الآبِقِ ((المغني)) لابن قدامة (6/48).
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ بَيعُ الدَّينِ المُستَقِرِّ لغَيرِ المَدِينِ بثَمَنٍ حالٍّ وأجازه المالِكيَّةُ والشَّافِعيَّةُ بشُروطٍ. ينظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير)) (3/63)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/409). ، وهو وَجْهٌ للشَّافِعيَّةِ ((المهذب)) للشيرازي (2/136) ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (6/34). ، وروايةٌ عن أحمَدَ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/88)، ((الإنصاف)) للمرداوي (5/87)، ((تهذيب السنن)) لابن القيم (9/257). اختارها ابن تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (فمَذهَبُ مالِكٍ أنَّه يَجوزُ بيعُه مِن غَيرِ المُستَسلفِ، كما يَجوزُ عِندَه بيعُ سائِرِ الدُّيونِ مِن غَيرِ مَن هوَ عليه، وهَذا أيضًا إحدَى الرِّوايَتَينِ عِندَ أحمَدَ، نَصَّ عليه في مَواضِعِ بَيعِ الدَّينِ مِن غَيرِ مَن هوَ عليه، كما نَصَّ على بَيعِ دَينِ السَّلَمِ مِمَّن هوَ عليه، وكِلاهما مَنصوصٌ عَن أحمَدَ في أجوِبةٍ كثيرةٍ مِن أجوِبَتِه، وإن كانَ ذلك لَيسَ في كُتُبِ كثيرٍ مِن مُتَأخِّري أصحابِه. وهَذا القَولُ أصَحُّ، وهوَ قياسُ أُصولِ أحمَدَ) ((مجموع الفتاوى)) (29/506). وينظر: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/88)، ((تهذيب السنن لابن القيم مع عون المعبود)) (9/257). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (نَصَّ أحمَدُ على جَوازِ بَيعِ الدَّينِ لِمَن هوَ في ذِمَّتِه ولِغَيرِه، وإن كانَ أكثَرُ أصحابِنا لا يَحكونَ عَنه جَوازَه لِغَيرِ مَن هوَ في ذِمَّتِه، فقَد نَصَّ عليه في مَواضِعَ، حَكاه شَيخُنا أبَو العَبَّاسِ بنُ تيميَّةَ -رَحِمَه اللهُ- عَنه، والَّذينَ مَنعوا جَوازَ بيعِه لِمَن هوَ في ذِمَّتِه قاسُوه على السَّلَمِ، وقالوا: لِأنَّه دَينٌ، فلا يَجوزُ بيعُه، كدَينِ السَّلَمِ، وهَذا ضَعيفٌ مِن وجهَينِ: أحَدُهما: أنَّه قَد ثَبَتَ في حَديثِ ابنِ عُمرَ جَوازُه، والثَّاني: أنَّ دَينَ السَّلَمِ غَيرُ مُجْمَعٍ على مَنعِ بَيعِه، فقَد ذَكَرْنا عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ جَوازَه، ومالِكٌ يُجَوِّزُ بَيْعَه مِن غَيرِ المُستَسلفِ، والَّذينَ فرَّقوا بينَ دَينِ السَّلَمِ وغَيرِه لَم يُفرِّقوا بِفَرقٍ مُؤَثِّرٍ، والقياسُ التَّسويةُ بينهما) ((تهذيب السنن لابن القيم مع عون المعبود)) (9/257). ، وابنُ عُثَيمين ابنُ عُثَيمين أجازَه بِشَرطِ أن يَكونَ قادِرًا على أخذِه، قال ابنُ عُثَيمين: (إذا باعَ دَينًا في ذِمَّةِ مُقِرٍّ على شَخصٍ قادِرٍ على استِخراجِه، فالصَّوابُ أنَّه جائِزٌ، لِأنَّه لا دَليلَ على مَنعِه، والأصلُ حِلُّ البَيعِ؛ لِقَولِ اللهِ تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] ) ((الشرح الممتع)) (8/448).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
الأصلُ في البَيعِ الحِلُّ إلَّا ما دَلَّ الدَّليلُ على تَحريمِه ((الأم)) للشافعي (3/3)، ((تفسير القرطبي)) (3/356)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/133)، ((الشرح الممتع)) (8/448). ، ولا دليلَ على التَّحريمِ.
ثانيًا: لأنَّه دَينٌ مُستَقِرٌّ، فيَكونُ كبَيعِه مِمَّن هو عليه ((نهاية المحتاج)) للرملي (4/92).
ثالثًا: قياسًا على جَوازِ شِراءِ الوَديعةِ وهيَ في غَيرِ يَدِ صاحِبِها ((المهذب)) للشيرازي (2/136).
رابعًا: لأنَّه جرى مجرى الحَوالةِ، فيَصِحُّ ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (6/34).
الفَرْعُ الخامِسُ: بَيْعُ الدَّينِ لغَيرِ المَدِينِ بثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كأن يَكونَ لِشَخصٍ دينٌ على زَيدٍ مَثَلًا: مِائةُ كيلو مِنَ التَّمْرِ، فيَبيعُها على عَمْرٍو بِألفِ ريالٍ مُؤَجَّلةٍ.
لا يَجوزُ بَيعُ الدَّينِ لغَيرِ المَدِينِ بثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ ((تبيين الحقائق)) للزَّيلعي (4/83)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/280). ، والمالِكيَّةِ عند المالِكيَّةِ: هو من بَيْعِ الكالِئِ بالكالِئِ. ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (3/62)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (5/45). ، والشَّافِعيَّةِ ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (4/409)، ((نهاية المحتاج)) للرَّملي (4/92). ، والحَنابِلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/88)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/72). ، وذلك لأنَّ ذِمَّةَ كُلٍّ مِنهما تَبقى مَشغولةً بغَيرِ فائِدةٍ تَحصُلُ لهُ أو للآخَرِ، والمَقصودُ مِنَ العُقودِ القَبضُ، فهو عَقدٌ لم يَحصُلْ به مَقصودُه أصلًا، بَل هو التزامٌ بلا فائِدةٍ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/472).
الفَرْعُ السَّادِسُ: بَيْعُ الدَّينِ المُؤَجَّلِ بالدَّينِ المُؤَجَّلِ
لا يَجوزُ بَيعُ الدَّينِ المُؤَجَّلِ بالدَّينِ المُؤَجَّلِ ولِهذه المَسألةِ صُوَرٌ؛ مِنها: عَقْدُ السَّلَمِ، وهوَ بَيعٌ مَوصوفٌ في الذِّمَّةِ إلَى وَقتٍ مَعلومٍ، كأن يَبيعَ مِائةَ كيلو مِنَ القَمحِ إلَى وقتٍ مَعلومٍ، ولا يَقبِضَ الثَّمنَ، فيَكونُ باعَ دَينًا بِدَينِ.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجْماعَ على ذلك: ابنُ المُنذِرِ قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَع أهْلُ العِلمِ على أنَّ بيعَ الدَّينِ بِالدَّينِ لا يَجوزُ... ومِن هَذا البابِ: أن يُسْلِفَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في عَشَرةِ أمدادِ قَمحٍ إلَى وقتٍ مَعلومٍ، ولا يَقبِضَ الثَّمنَ، فيَكونُ ذلك دَينًا بِدَينٍ) ((الأوسط)) (10/119). ، وابنُ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (ورَدَ النَّهيُ عَن بيعِ الكالِئِ بالكالِئِ، والكالِئُ هوَ المُؤَخَّرُ الَّذي لَم يُقبَضْ بِالمُؤَخَّرِ الَّذي لَم يُقبَضْ، وهَذا كما لَو أسلَمَ شَيئًا في شَيءٍ في الذِّمَّةِ، وكِلاهما مُؤَخَّرٌ، فهَذا لا يَجوزُ بِالِاتِّفاقِ) ((مجموع الفتاوى)) (20/512). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (والكالِئُ: هوَ المُؤَخَّرُ الَّذي لَم يُقبَضْ، كما لَو أسلَمَ شَيئًا في شَيءٍ في الذِّمَّةِ، وكِلاهما مُؤَخَّرٌ، فهَذا لا يَجوزُ بِالِاتِّفاقِ) ((إعلام الموقعين)) (1/293). ، والشَّوكانيُّ قال الشَّوكانيُّ: ("الكالِئُ بِالكالِئِ" هوَ مَهموزٌ. قال الحاكِمُ عَن أبي الوَليدِ حَسَّانَ: هوَ بيعُ النَّسيئةِ بِالنَّسيئةِ، كذا نَقَله أبو عُبَيدٍ في الغَريبِ، وكَذا نَقله الدَّارقُطنيُّ عَن أهلِ اللُّغةِ، وروَى البَيهقيُّ عَن نافِعٍ قال: هوَ بيعُ الدَّينِ بِالدَّينِ، وفيه دَليلٌ على عَدَمِ جَوازِ بيعِ الدَّينِ بِالدَّينِ، وهوَ إجماعٌ، كما حَكاه أحمَدُ في كلامِه السَّابِقِ) ((نيل الأوطار)) (5/186).
الفَرْعُ السَّابعُ: المُقاصَّةُ في الدُّيونِ (بيعُ السَّاقِطِ بالسَّاقِطِ)
تجوزُ المُقاصَّةُ كأن يَكونَ لِرَجُلٍ في ذِمَّةِ شَخصٍ ذَهَبٌ، ولِلآخَرِ عليه فِضَّةٌ، فيَتَّفِقانِ بِأن يَطرَحَ كُلُّ واحِدٍ دَينَه عَنِ الآخَرِ بِما عليه لَه، فيَسقُطُ دينُ هَذا بِسُقوطِ دَينِ هَذا. وأجازَها المالِكيَّةُ بِشَرطِ أن يَكونَ الدَّينانِ حالَّينِ، فإن كانا مُؤَجَّلَينِ أو أحَدُهما مُؤَجَّلًا فلا تَجوزُ. ينظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/536)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (5/415). في الدُّيونِ مُطلَقًا، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ ((تبيين الحقائق)) للزَّيلعي (4/139، 140)، ((حاشية ابن عابدين)) (5/265). ، واختاره بَعْضُ الشَّافِعيَّةِ وهوَ اختيارُ السُّبكيِّ الوالِدِ، تَقيِّ الدِّينِ. قال تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ: (بيعُ النَّقدِ الثَّابِتِ في الذِّمَّةِ بِنَقدٍ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ لا يَظهَرُ دَليلُ مَنعِه، وجَنحَ إلَى جَوازِه، كما هوَ مَذهَبُ مالِكٍ وأبي حَنيفةَ) ((طبقات الشَّافِعيَّة الكبرى)) (10/231). ، وابنُ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (فإذا صارَتِ الفُلوسُ أثمانًا صارَ فيها المَعنَى، فلا يُباعُ ثَمَنٌ بِثَمَنٍ إلَى أجَلٍ، كما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهَى عَن بَيعِ الكالِئِ بِالكالِئِ، وهوَ المُؤَخَّرُ بِالمُؤَخَّرِ، ولَم يَنْهَ عَن بَيعِ دَينٍ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ يَسقُطُ إذا بيعَ بِدَينٍ ثابِتٍ في الذِّمَّةِ يَسقُطُ؛ فإنَّ هَذا الثَّانيَ يَقتَضي تَفريغَ كُلِّ واحِدةٍ مِنَ الذِّمَّتَينِ؛ ولِهَذا كانَ هَذا جائِزًا في أظهَرِ قَولَيِ العُلَماءِ) ((مجموع الفتاوى)) (29/472). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا بيعُ الدَّينِ بِالدَّينِ فيَنقَسِمُ إلَى بيعِ واجِبٍ بِواجِبٍ كما ذَكَرنا، وهوَ مُمتَنِعٌ، ويَنقَسِمُ إلَى بيعِ ساقِطٍ بِساقِطٍ، وساقِطٍ بِواجِبٍ، وواجِبٍ بِساقِطٍ، وهَذا فيه نِزاعٌ. قُلتُ: السَّاقِطُ بِالسَّاقِطِ في صورةِ المُقاصَّةِ، والسَّاقِطُ بِالواجِبِ كما لَو باعَه دَينًا لَه في ذِمَّتِه بِدَينٍ آخَرَ مِن غَيرِ جِنسِه، فسَقَطَ الدَّينُ المَبيعُ ووَجَب عِوَضُه، وهيَ بيعُ الدَّينِ مِمَّن هوَ في ذِمَّتِه.... وأمَّا ما عَداه مِنَ الصُّوَرِ الثَّلاثِ فلِكُلٍّ مِنهما غَرَضٌ صَحيحٌ ومَنفَعةٌ مَطلوبةٌ، وذلك ظاهرٌ في مَسألةِ التَّقاصِّ، فإنَّ ذِمَّتَهما تَبرَأُ مِن أَسْرِها، وبَراءةُ الذِّمَّةِ مَطلوبٌ لَهما ولِلشَّارِعِ) ((إعلام الموقعين)) (1/293).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّه بالتَّقابُضِ انفَسَخَ العَقْدُ الأوَّلُ وانعَقدَ صَرفٌ آخَرُ مُضافٌ إلى الدَّينِ؛ لأنَّهُما لَمَّا غَيَّرا موجِبَ العَقْدِ فقد فَسَخاه إلى آخَرَ ما اقتَضاهُ، كَما لو جُدِّدَ البَيعُ بأكثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الأوَّلِ ((رد المحتار)) لابن عابدين (5/265).
ثانيًا: لأنَّ بَيعَ الكالِئِ بالكالِئِ هو بَيعُ ثَمَنٍ بثَمَنٍ إلى أجَلٍ؛ فيُؤَدِّي إلى شَغلِ الذِّمَّتَينِ بدونِ مَصلَحةٍ لهما، وأمَّا هَذا فهو تَفريغُ كُلٍّ مِنَ الذِّمَّتَينِ مِمَّا عليها مِن دَينٍ، وهو مَطلوبٌ شَرْعًا؛ لِما فيه مِن بَراءةِ الذِّمَمِ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/472).
الفَرْعُ الثَّامِنُ: التَّنازُلُ عن جُزءٍ مِنَ الدَّينِ المُؤَجَّلِ مُقابِلَ تَعجيلِه (مَسألةُ: ضَعْ وتَعَجَّلْ) كأن يَكونَ لِشَخصٍ على آخَرَ دَينٌ لِأجَلٍ -كشَهَرٍ مَثَلًا- ويَتَّفِقُ مَعَ مَن عليه الدَّينُ على إسقاطِ بَعْضِه ويُعَجِّلُ له الباقيَ قَبلَ حُلولِ الأجَلِ.
يَجوزُ التَّنازُلُ عن جُزءٍ مِنَ الدَّينِ المُؤَجَّلِ مُقابِلَ تَعجيلِه، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ ((الفروع)) لابن مفلح (6/423)، ((الإنصاف)) للمرداوي (5/176). ، وقَولُ زُفَرَ مِنَ الحَنَفيَّةِ ((شرح مشكل الآثار)) للطحاوي(11/64). ، وقَولُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ رُوِيَ جوازُه عن ابنِ عَبَّاسٍ والنَّخعيِّ وابنِ سيرين. ينظر: ((المغني)) لابن قدامة (4/367). ، واختيارُ ابنِ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (يَصِحُّ الصُّلحُ عَنِ المُؤَجَّلِ بِبَعضِه حالًّا، وهوَ رِوايةٌ عَن أحمَدَ، وحُكِي قَولًا لِلشَّافِعيِّ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/396)، ينظر: ((الفروع)) لابن مفلح (6/423)، ((الإنصاف)) للمرداوي (5/176). ، وابنِ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (القَولُ الثَّاني: أنَّه يَجوزُ، وهوَ قَولُ ابنِ عَبَّاسٍ، وإحدَى الرِّوايَتَينِ عَنِ الإمامِ أحمَدَ حَكاها ابنُ أبي موسى وغَيرُه، واختارَه شَيخُنا؛ لِأنَّ هَذا عَكسُ الرِّبا، فإنَّ الرِّبا يَتَضَمَّنُ الزِّيادةَ في أحَدِ العِوضَينِ في مُقابَلةِ الأجَلِ، وهَذا يَتَضَمَّنُ براءةَ ذِمَّتِه مِن بعضِ العِوَضِ في مُقابَلةِ سُقوطِ الأجَلِ؛ فسَقَط بعضُ العِوَضِ في مُقابَلةِ سُقوطِ بعضِ الأجَلِ، فانتَفَعَ بِه كُلُّ واحِدٍ مِنهما، ولَم يَكُن هُنا رِبًا لا حَقيقةً ولا لُغةً ولا عُرفًا؛ فإنَّ الرِّبا الزِّيادةُ، وهيَ مُنتَفيةٌ هاهُنا، والَّذينَ حَرَّموا ذلك إنَّما قاسوه على الرِّبا، ولا يَخفَى الفَرقُ الواضِحُ بينَ قَولِه: "إمَّا أن تُربِيَ وإمَّا أن تَقضِيَ" وبَينَ قَولِه: عَجِّلْ لي وأهَبُ لَكَ مِئةً، فأينَ أحَدُهما مِنَ الآخَرِ؟ فلا نَصَّ في تَحريمِ ذلك ولا إجماعَ ولا قياسَ صَحيحٌ) ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/331، 332) ، وقَرارُ مَجْمَعِ الفِقْهِ الإسلاميِّ التَّابِعِ لمُنَظَّمةِ المُؤتَمَرِ الإسلاميِّ جاءَ في قَراراتِ مَجْمَعِ الفِقْهِ الإسلاميِّ، قَرار رَقْم: 66/2/7 ما يَلي: (الحَطيطةُ مِنَ الدَّينِ المُؤَجَّلِ لِأجلِ تَعجيلِه، سَواءٌ أكانَت بِطَلَبِ الدَّائِنِ أوِ المَدينِ، (ضَعْ وتَعَجَّلْ) جائِزةٌ شَرعًا، لا تَدخُلُ في الرِّبا المُحَرَّمِ إذا لَم تَكُن بِناءً على اتِّفاقٍ مُسبقٍ) ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) العدد السابع (1/ 217- 218). ، وبِه أفْتَتِ اللَّجْنةُ الدَّائِمةُ جاءَ في فتوى اللَّجْنةِ الدَّائِمةِ: (ما يُعرَفُ عِندَ الفُقَهاءِ بِمَسألةِ: "ضَعْ وتَعَجَّلْ" وفي جَوازِها خِلافٌ بينَ أهلِ العِلمِ، والصَّحيحُ مِن قَولَيهم جَوازُ الوَضعِ والتَّعجيلِ، وهوَ رِوايةٌ عَنِ الإمامِ أحمَدَ، واختيارُ الشَّيخَينِ: ابنِ تيميَّةَ وابنِ القَيِّمِ، ومَنسوبٌ إلَى ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما) ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (13/168). ، وهو اختيارُ ابنِ باز قال ابنُ باز: (يَجوزُ إذا قال المَدينُ: أنا أعطيكَ حَقَّك دَفعةً واحِدةً، ولَكِنْ نَزِّلْ عَنِّي، والدَّينُ أربَعةُ آلافٍ على أربَعةِ أعوامٍ، فقال: أنا أُنجِزُه لك إذا وضَعْتَ عَنِّي ألفًا، فقال صاحِبُ الدَّينِ: نَعَم، أنا أضَعُ عَنكَ ألفًا وأعطِني ثَلاثةَ آلافٍ وأنا أسامِحُكَ؛ لا حَرَجَ في ذلك، الصَّوابُ أنَّه جائِزٌ، وإن كانَ كثيرٌ مِن أهلِ العِلمِ يَرَى خِلافَ ذلك، لَكِنَّ الصَّحيحَ أنَّه جائِزٌ؛ لِأنَّ هَذا فيه مَصالِحُ: تَعجيلُ الحَقِّ، وبَراءةُ الذِّمَّةِ، هَذا فيه مَصلَحَتانِ: تَعجيلُ الحَقِّ لِصاحِبِه ولَو ناقِصًا بدَلَ ما يَكونُ في سَنَواتٍ يُعطيه إيَّاه حالًا، وتَخفيفُه على المَدينِ يُطيحُ عَنه قِطعةً مِنَ الدَّينِ) ((الموقع الرسمي للشيخ ابن باز)). ، وابنِ عُثَيمين قال ابنُ عُثَيمين: (مَنِ اشتَرَى سِلعةً بِأقساطٍ لِمُدَّةِ خَمسِ سَنَواتٍ، ثُمَّ يَسَّرَ اللهُ عليه وتَمَكَّنَ مِنَ الوَفاءِ في خِلالِ سَنَتَينِ، فهَل لَه الحَقُّ أن يُطالِبَ البائِعَ بِالتَّنزيلِ أم لا؟ نَقولُ: لَيسَ لَه الحَقُّ، لَكِن إذا وافَقَ البائِعُ وقال: أنا أقبَلُ مِنكَ التَّعجيلَ مَعَ الإسقاطِ، فالصَّحيحُ أنَّه لا بأسَ به؛ لِأنَّ هَذا فيه مَصلَحةٌ لِلدَّائِنِ والمَدينِ، ولَيسَ فيه ظُلمٌ ولا رِبًا) ((لقاء الباب المفتوح)) رقم اللقاء (146).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لِما فيه مِن إبراءِ الذِّمَّةِ؛ فإنَّ الشَّارِعَ لهُ تَطلُّعٌ إلى بَراءةِ الذِّمَمِ مِنَ الدُّيونِ ((إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان)) لابن القيم (2/684).
ثانيًا: لأنَّ فيه مَصلَحةً للطَّرَفَينِ؛ ففيه تَخليصُ ذِمَّةِ الأوَّلِ مِنَ الدَّينِ وانتِفاعُ الآخَرِ بالتَّعجيلِ لهُ، وهو بذلك عَكسُ الرِّبا، فإنَّ الرِّبا يَتَضَمَّنُ الزِّيادةَ في أحَدِ العِوَضَينِ في مُقابَلةِ الأجَلِ، وهَذا يَتَضَمَّنُ بَراءةَ ذِمَّتِه مِن بَعضِ العِوَضِ في مُقابَلةِ سُقوطِ الأجَلِ، فسَقَط بَعضُ العِوَضِ في مُقابَلةِ سُقوطِ بَعضِ الأجَلِ، فانتَفَعَ به كُلُّ واحِدٍ منهما، ولم يَكُن هُنا رِبًا لا حَقيقةً ولا لُغةً ولا عُرفًا؛ فإنَّ الرِّبا الزِّيادةُ، وهيَ مُنتَفيةٌ هاهُنا ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/331، 332) ((إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان)) لابن القيم (2/684).


انظر أيضا: