موسوعة اللغة العربية

المطلَبُ الثَّالِثُ: المقاماتُ


شُغِف الأُدَباءُ بالمقاماتِ جِدًّا، وتوسَّعوا في استخدامِ المُحَسِّناتِ البديعيَّةِ اللَّفظيَّةِ والمعنَويَّةِ فيها، وأكثَروا من إنشادِ الأشعارِ والأرجازِ على نحوٍ يبعَثُ على السُّرورِ والإعجابِ، ويقضي بالإنصاتِ والتَّقديرِ، ويُفضي إلى الحُكمِ بموهبةِ الأديبِ وقُدرتِه على تسخيرِ موادِّ البيانِ وتطويعِها لبَنانِه.
ومن أبرَزِ أصحابِ المقاماتِ: ناصيف اليازِجي؛ إذ جمَع في كتابِه (مَجْمَع البَحرَين) ستينَ مقامةً، أبدَع فيها وأطرَب، منها مقامتُه البَدَويَّةُ التي هي أولى مقاماتِ الكِتابِ، يقولُ فيها: (حكى سُهَيلُ بنُ عَبَّادٍ قال: مَلِلتُ الحَضَر، ومِلْتُ إلى السَّفَر، فامتطَيتُ ناقةً تسابِقُ الرَّياح، وجعَلتُ أخترقُ الهِضابِ والبِسطاح، حتَّى خيَّم الغَسَق [275] الغَسَقُ: أوَّلُ ظُلمةِ اللَّيلِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (4/1537). ، وتصَرَّم الشَّفَق [276] انصرم الشَّيءُ وتصرَّم: انقَطَع ومضى. يُنظَر: ((العين)) للخليل (7/ 121). الشَّفَقُ: الحمُرةُ التي في السَّماءِ من غُروبِ الشَّمسِ إلى وقتِ العِشاءِ الآخِرةِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (4/1501). ، فدَفَعتُ إلى خيمةٍ مضروبة، ونارٍ مَشبوبة. فقُلتُ:
من يا ترى القومَ النُّزولَ هَهنا
هل بهم الخَوفُ أم الأمَنُ لنا؟
قد كان عن هذا الطَّريقِ لي غِنى
وإذا رجُلٌ من وراءِ الحِجابِ قد استضحك وأجاب:
إنِّي ميمونُ بني الخزامِ
وهذه ليلى ابنتي أمامي
نعَمْ، وهذا رجَبٌ غُلامي
مَن رام أن يدخُلَ في ذِمامي
يأمَنُ من بوائِقِ الأيَّامِ
قال: فسَكَن منِّي ما جاشَ من الجاش [277] الجأشُ: رواعُ القَلبِ إذا اضطربَ عِندَ الفزَعِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (3/997). ، ودخَلتُ فإذا رجُلٌ أشمطُ [278] الشَّمَطُ: بياضُ شَعَرِ الرَّأسِ يخالِطُ سَوادَه. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (3/1138). النَّاصية، يكتَنِفُه الغُلامُ والجارية، فحَيَّيتُ تحيَّةَ مُلتاح، وجثَمْتُ [279] جَثَم: لَزِمَ مكانًا لا يَبرَحُه. يُنظَر: ((العين)) للخليل بن أحمد (6/100). جثمةَ مُرتاح، وبات الشَّيخُ يُطرِفُنا بحديثٍ يُشفي الأُوام [280] الأُوامُ: شِدَّةُ العَطَشِ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (15/446). ، ويشفي من السَّقام، إلى أن رقَّ جِلبابُ الظَّلماء، وانشَقَّ حِجابُ السَّماء، فنهَضْنا نهيمُ في تلك الهيماء، حتَّى إذا أشرَفْنا على فريق، يناوِحُ الطَّريق، عَرَض لنا لُصوصٌ قد أطلقوا الأَعِنَّة، وأشرَعوا الأسِنَّة. فأخذ الشَّيخُ القَلِق، وقال أعوذُ برَبِّ الفَلَق، من شَرِّ ما خَلَق. ولمَّا التَقَت العَينُ بالعَين، على أدنى مِن قابِ قوسَين. قال: يا قومِ هل أدلُّكم على تجارة، تقومُ بحَقِّ الغارة؟ قالوا: وما عسى أن يكونَ ذاك؟ حيَّاك اللهُ وبيَّاك! فقال: يا غلامُ، اهبِطْ بهم إلى مراعي الرِّيف، وأنا أقِفُ هنا أراعي كاللَّغيف [281] اللَّغيف: الذي يأكُلُ مَعَ اللُّصُوصِ، ويشربُ ويحفَظُ ثِيابَهم ولا يَسرِقُ معهم. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (8/132). .
قال سُهَيلٌ: فلمَّا توارى بهم أوفَض الشَّيخُ على ناقَتِه القَلوص، حتَّى أتى الحَيَّ فنادى: اللُّصوص، وطلَبَ المراعي فانهالت في أثَرِه الرِّجال، وإذا اللُّصوصُ قد ساقوا قِطعةً من الجِمال، فأطبَقوا عليهم من كُلِّ جانب، وأخذوهم أَسْرى إلى المضارِب، حتَّى إذا أثخَنوهم [282] أثخَن: غَلَبَ وقَهَر. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (7/145). شَدُّوا الوَثاق، وقد كادت أرواحُهم تَبلُغُ التَّراق. ثمَّ أدخَلونا إلى بيتٍ طويلِ الدَّعائِم، في صَدْرِه شيخٌ كأنَّه قيسُ بنُ عاصِم. فقال: أحسَنْتَ أيُّها النَّذير، فسنوفي لك الكَيل، ونُعطيك ما لهؤلاء اللُّصوصِ من الأسلابِ والخَيل. فابتَسَم الشَّيخُ من فَورِه، وقال: (جَدَحَ جُوَينٌ من سَويقِ غيرِه) [283] جَدَح: أي: خَلَط. وجُوَينٌ: اسمُ رجُلٍ. وهو مَثَلٌ يُضرَبُ فيمن يتوسَّعُ في مالِ غيرِه ويجودُ به. يُنظَر: ((مجمع الأمثال)) لأبي الفضل الميداني (1/159). . قال: قد رأيتَ ما لا يُرى، فعندَ الصَّباحِ يَحمَدُ القومُ السُّرى. ولمَّا كان الغَدُ أهاب بنا داعي الأمير، ونَفَحَنا بصُرَّةٍ من الدَّنانير، فضمَمْناها إلى أسلابِ اللُّصوصِ وخَرَجْنا نجِدُّ المسير. ولَمَّا استوى الشَّيخُ على القَتَب، أخذَتْه هِزَّةُ الطَّرَب. فأنشأَ يقولُ:
أنا الخُزامي سليلُ العَرَبِ
أذهَبُ بَيْنَ النَّاسِ كُلَّ مَذهَبِ
وأُلبِسُ الجِدَّ ثيابَ اللَّعِبِ
وأستقي من كُلِّ بَرقٍ خُلَّبِ [284] بَرقٌ خُلَّبٌ: لا مطَرَ فيه. يُنظَر: ((معجم ديوان الأدب)) للفارابي (1/ 323).
وأتَّقي باللُّطفِ كُلَّ مِخلَبِ
وألتقي الرُّمحَ بلَدْنِ القَصَبِ
ولا أبالي بالفتى المجَرَّبِ
لو انَّهُ عَمرُو بنُ مَعدي كَرِبِ
عليَّ دِرعٌ من نسيجِ الأدَبِ
تكِلُّ عنها ماضياتُ القُضُبِ
ولي لسانٌ من بقايا الحِقَبِ
يقنِصُ بالمكرِ أُسودَ الهِضَبِ
والصِّدقُ إن الْقاكَ تحتَ العَطَبِ
لا خيرَ فيه فاعتَصِمْ بالكَذِبِ
بمِثلِ هذا كان يوصيني أبي
قال: فلمَّا فرَغ من إنشادِه تزَمَّل ببِجادِه [285] البِجادُ: الكِساءُ المُخَطَطُ الغَليظُ، وجمُعُه بُجُدٌ. يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/198). ، وقال: يا قومِ اتَّبِعوا من لا يسألُكم أجرًا، ولا تستطيعون بدونِه نَصرًا. ثمَّ انطلق بَيْنَ أيدينا كالدَّليل، وهو يمزجُ الوَخدَ بالذَّميل، إلى أن نُشِرَت رايةُ الأصيل، فنزَلْنا وارتبَطْنا الأنعام، وأضرَمْنا النَّارَ للطَّعام. وقام الشَّيخُ حتَّى دنا من ناقتي فحَلَّ العِقال، وأخذ يتخَطَّى ويتمَطَّى ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمال، فنفَرَت النَّاقةُ في مجاهِلِ تلك الأرض، وجَعَل يستوقِفُها زجرًا فتشتَدُّ في الرَّكْض، فبادرتُ أعدو إليها حتَّى استأنَسَتْ من النِّفار، ورجَعْتُ بها أتنوَّرُ تلك النَّار، وإذا الشَّيخُ قد أخذ كُلَّ ما هناك وسار. فصَفقْتُ صَفْقةَ الأوَّاه، وقلتُ: لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله. ثمَّ عمَدْتُ إلى عِقالِ ناقتي المُجفِلة، وإذا طِرْسٌ قد عُقِلَ به مكتوبًا فيه بعدَ البَسْمَلة:
قُلْ لسُهَيلٍ: لستَ بالمغبونِ
لولاي ذُقتَ غُصَّةَ المَنونِ
فأنت والنَّاقةُ في يميني
مِلْكٌ بحَقٍّ ليس بالمنونِ
لكِنْ عَفوتُ عنك كالمديونِ
وهَبْتُه الدَّيْنَ لحُسْنِ الدِّينِ
فقَدِّمِ الشُّكرَ إلى ميمونِ!
قال: فعَجِبتُ من أخلاقِه، وأَسِفْتُ على فِراقِه. ووَدِدتُ على ما بي من الفاقة، لو مكَث واستتبَعَ النَّاقة) [286] يُنظَر: ((مجمع البحرين)) (ص: 4). .
وقد نَبَغ في كتابةِ المقاماتِ أيضًا شِهابُ الدِّينِ الخفاجيُّ، فمِن ذلك قولُه في مقامةِ الغُربةِ: (حدَّث الرَّبيعُ بنُ الرَّيان، عن شَقيقِ بنِ النُّعمانِ، قال: لمَّا هزَّتْني أريحيَّةُ الشَّباب، إلى اقتِعادِ سَنامِ الأرضِ على غارِبِ الاغتِراب، وقد أجدَبَت الأرضُ من كُلِّ ماجِد، يجتني جنى المجْدِ لثِمارِ المحامِد، وتعطَّلَت من كريمٍ تلتَفُّ عليه المحافِل، وتسيرُ في ظِلالِ أعلامِه الجَحافِل، وتبدَّلَت بأُنسِها وَحشًا، فلا ترى غيرَ جائعٍ يَتجَشَّا، وأقسَمَت ببيتٍ سالت ببَطحائِه أعناقُ المطايا، وثَمِل رُكبانُه بكأسِ السُّرى في الغَدايا والعَشايا، لأغتَرِبَنَّ غُربةً قارظيةً يخفُقُ منها قَلبُ الخافِقَين، وتدبغُ أديمَ الجسَدِ على ممَرِّ الجديدَين، وتُنسي صخرةَ السُّؤالِ عن حُصَين، وتُنسي غَطَفانَ غُربةَ سِنان، فقال لي خبيرُ الأيَّامِ: الهِجرةُ مِن سُنَنِ الكِرام، كما فرَّ موسى حينَ هَمَّ به القِبطُ، وقد كُنتُ قرأتُ في بعضِ الأسفار، إذا أراد اللهُ سَعةَ رِزقِ عَبدٍ حَبَّبَ له الأسفار، فزجَرْتُ السَّانِحَ والبارِح، والطَّائِرَ الغاديَ والرَّائح، حتَّى رأيتُ الصُّبحَ انبَلَج، ومرَّ بي طائرٌ أغرَّ من البَلَج، فتمسَّكْتُ بذَيلِ الحَزم، وصَمَّمْتُ على العَزْم، وقُلتُ:
بقَولِك طه سافِروا تغنَموا لقد
بدا ليَ فألٌ في المطالِبِ رابحُ
فما خَطَّ في رَملٍ ولا طَرَقَ الحصى
كأيدي جيادٍ في السَّرابِ سوابحُ
وجنَبْتُ الجِيادَ إلى المهاريِّ، ولَبِستُ حُلَّةَ دُجًى مُزَرَّرةً بالدَّراريِّ، مع صُقورٍ على مُتونِ أعوجيَّاتٍ ورِكاب، بإقدامِ أقدامٍ تَرفُّ بَيْنَ غَرزٍ ورِكاب، على سُفُنِ ذودٍ وزَوارِق، وسرُوجٍ سوابِحَ في بحارِ السَّرابِ غَوارِق، فلم يَزَلْ يرفَعُنا الآل، بَيْنَ رِفاقِ صَحبٍ وآل، على عَبَسٍ ما لها غيرُ النَّصَبِ عِقال، وظُهورِ سوابِحَ ما لها غيرُ الكَلالِ شِكال، حتَّى نزَلْنا على الخَوَرْنَقِ والسَّدير، وأنَخْنا مطايا العَزمِ بَيْنَ رَوضةٍ وغَدير، فسَأَلْنا عن بيضةِ البَلَد، وطَودِها [287] الطَّودُ: الجَبَلُ العظيمُ. يُنظَر: ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص: 589). الذي له بسَفْحِها أرفَعُ سَنَد، فقالوا: هو النَّضرُ بنُ كِنانة، المُقَرطِسُ سِهامَ آرائِه من أعَزِّ كِنانة، شيخٌ لَبِس عمائِمَ دَهرِه الثَّلاث، فهي على هامةِ هِمَّتِه ثلاث، مِن شَجَرةٍ مُورِقةِ النَّسَب، مُثمِرةٍ بيانِعِ ثمارِ الحَسَب، جاهُه عَريضٌ طويل، فائضٌ على العَدُوِّ والخَليل، وطِيبُ شمائِلِه في كُلِّ نادٍ انتَشَر، فغُمَّةُ رَوضاتٍ تَزدري الزَّهَر، هيَّجَها نَضحٌ من نَضحِ السَّحَر، فقُلتُ: بخٍ بخٍ، الجاهُ زكاةُ الشَّرَف، ومَن أحسَنَ إلى من أساء إليه فقد انتَصَف، ومن تردَّى بساطِعِ الأنوار، واحتبى بحباءِ الوَقار، ولم يَبْقَ له ليلٌ يَصيحُ بجانِبِه نهار؛ فالسَّعادةُ له شعارٌ ودِثار [288] الشِّعارُ: ما وَليَ الجسدَ من الثِّيابِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (2/699). الدِّثارُ: كلُّ ما كان من الثِّيابِ فوقَ ‌الشِّعارِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (2/655). ، فقُلتُ: سأفيضُ له وعليَّ أجملُ رِدَا، وأذهَبُ إليه في رُفقتي غَدَا، فلمَّا عَطَس الصَّباح، وشَمَّتَتْه كُلُّ ذاتِ جَناح، ورفَعَت ذُكاءُ رأسَها من مَشرِقِ الأنوار، فأشرَقَت على عالَمِ الكونِ والفَساد لنشاهِدَ ما فيه من الأسرار، أتيتُ دارَه، فرأيتُ بُدورًا لها المنازِلُ دارة، دارٌ يسافِرُ بها النَّظَر، ويتسابَقُ في محاسِنِها السَّمعُ والبَصَر، داخِلَها بهوٌ وقُصور، وسُرادِقٌ لا يَعرِفُ كَمالُه القُصور، في صَدرِها هُمامٌ خَلْفَه وِسادة، أحدَقَ به وجوهُ أعيانٍ وسادَة، يتنَفَّسون بأنفاسِ النُّعامى، بَيْنَ أوراقِ رَيحانٍ وخُزامى:
لو أنصفوه لقاموا في مجالِسِه
على الرُّؤوسِ قِيامَ الظِّلِّ في الماءِ
فقُلتُ له: حيَّاك اللهُ وبَيَّاك، ولا زالت مِشكاةُ أُنسِك مُشرِقةً بمُحَيَّاك، فردَّ التَّحيَّةَ بأحسَنَ منها وما رَدَّها، وأمدَّها بطَلاقةِ بِشْرٍ كانت سُلَّمًا لكرامةٍ أعدَّها، وحَولَه مِن حواشيه فِئام، وأغصانُ غِلمانٍ بناديه قِيام، كأنَّ على رُؤوسِهم الطَّيرَ، يتهَلَّلُ بِشْرُهم بكُلِّ خَيرٍ ومَير، في رَوضٍ نادٍ مُثْمرٍ مُورِق، عليه مخايِلُ جَودِ جُودٍ مُغدِق، فتجاذَبْنا أهدابَ الحديث، وأتى بنوادِرَ حازت من كُلِّ تليدٍ وحديث، فلمَّا خُضنا لُجَّةَ الكلام ووَقَفَت الأقلامُ على ساحِلِ التَّمام، قال لي: هاتِ من قناتِك، وأنشِدْني ما قُلْتَه من أبياتِك، فأنشَدْتُه منها:
سَلَّ الزَّمانُ عليَّ عَضْبَهْ [289] العَضْبُ: السَّيفُ القاطِعُ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (1/183).
ليَروعَني وأحَدَّ غَرْبَهْ
وأسال مِن جَفني كِرا
هـ مُراغِمًا وأسال غَرْبَهْ
وأجالني في الأُفْقِ أط
وي شَرْقَه وأجوبُ غَرْبَهْ
فبِكُلِّ جَوٍّ طلعةٌ
في كُلِّ يومٍ لي وغَرْبَهْ
وكذا المُغَرِّبُ شَخْصُه
مُتغَرِّبٌ ونَواهُ غَرْبَهْ
فلمَّا ارتوى الحديثَ من أعذَبِ الموارِدِ والمصادِر، ورجَع الحوارُ حارَّ النَّوادِر، بارِدَ البوادِر، قال: لا فَضَّ اللهُ فاك، ولا أقضَّ في مَهدِ الهَنا مَثواك، فقد تركتَ بُنَيَّاتِ الطَّريق، وجَلَوتَ خرائِدَ فِكرِك في مَعرِضٍ أنيق، ولم تَنثُرْ دُرَرَ المدامِع إلَّا من دُرٍّ مودَعٍ في صَدَفِ المسامِع، وما أقصرَ اللَّيلَ على الرَّاقِد، وأهونَ السَّقَمَ على العائِد، وقد أصبْتَ دارَ المُقامة، فأنت جارُ أبي دُؤاجٍ بدارِ الكرامة، فالزَمْه لُزومَ الطَّوقِ جِيدَ الحَمامة، فآمالُك لا تظمَأُ بهذا المقام، وكيف يظمَأُ مَن كان جارَ الغَمام:
ما بَيْنَ عَصرٍ سابقٍ متلفِّتٍ
شَوقًا إليك ولاحقٍ يتطلَّعُ) [290] يُنظَر: ((مجاني الأدب في حدائق العرب)) لرزق الله شيخو (6/ 109). .
إلَّا أنَّ شهابَ الدِّينِ الخفاجيَّ كان كثيرَ الاحتذاءِ من غيرِه؛ فالأبياتُ الخمسةُ السَّابقةُ إنَّما هي للحَريريِّ بتمامِها وهيئتِها في مقاماتِه [291] يُنظَر: ((مقامات الحريري)) (ص: 170). ؛ ولهذا قال شوقي ضَيف عنه: (وامْضِ في ريحانةِ الأَلِبَّاءِ، فستَجِدُ صاحِبَها يتصَنَّعُ لمُصطَلَحاتِ النَّحوِ، كما يتصَنَّعُ لألوانِ البديع، وما نزالُ في أساليبَ غَثَّة، حتَّى نُوفي على آخِرِ الكتابِ، فإذا صاحِبُه يُؤَلِّفُ مقاماتٍ كُلُّها مأخوذةٌ من مقاماتِ الحريريِّ بألفاظِها، ومعانيها وأساليبِها) [292] يُنظَر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) (ص: 388). .

انظر أيضا: