موسوعة اللغة العربية

تَمْهيدٌ: الأدبُ في العَصْرِ الحَديثِ


تَدَهْوَرَ الشِّعْرُ -وسائِرُ عُلومِ العَرَبيَّةِ- كَثيرًا في أواخِرِ العَصْرِ العَبَّاسيِّ، وظَلَّ في انحِطاطٍ شَديدٍ في العُصورِ التَّاليةِ له مِنَ المماليكِ والعُثمانيِّينَ، انتِهاءً بالاحتِلالِ الأورُبِّي لبِلادِ العَرَبِ والمُسلِمينَ مقارنةً بالعصر العبَّاسي؛ فقد تحكَّمَ غَيرُ العَرَبِ في أُمورِ الخِلافةِ العَبَّاسِيَّةِ، حتى صار الوُلاةُ والحُكَّامُ لا يَعرِفونَ شَيئًا مِن اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، وصار النَّظَرُ في القَصائِدِ والشِّعْرِ إلى الأُدَباءِ، وانصَرَف الخُلَفاءُ والوُزَراءُ عنه لقِلَّةِ عِلْمِهم به، فَضْلًا عن تَدَهوُرِ الحالةِ الاجتِماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ والاقتِصاديَّةِ للدَّولةِ الإسلاميَّةِ العبَّاسِيَّةِ، وهو ما يؤَثِّرُ سَلْبًا على الشِّعْرِ والشُّعَراءِ.
أمَّا الحكَّام المماليكُ فلم يكونوا يَعْتَنونَ باللُّغةِ العَرَبيَّةِ أو الشِّعْرِ، بل كانوا يتحَدَّثون في قُصورِهم باللُّغةِ التُّركيَّةِ، وأغلَقوا البابَ أمامَ الشُّعَراءِ، فلم يَرِدْ عليهم شاعِرٌ يَمدَحُ أو يُهنِّئُ، ولم يَعُدِ الشُّعَراءُ مِن رِجالِ البَلاطِ ولا مِنَ المقَرَّبينَ للأُمَراءِ والسَّلاطينِ ولم يكن الخلفاءُ العُثْمانيِّون أحسن حالًا منهم.
وبعد سقوط الدَّولة العُثمانيَّة تمكَّنت كُلُّ دَولةٍ أورُبِّيَّةٍ مِن أن تَظفَرَ بدَولةٍ أو أكثَرَ مِن الدُّوَلِ العَرَبيَّةِ، وطَبيعيٌّ أن تَعمَلَ الدُّوَلُ المحتَلَّةُ على قَتْلِ العَلاقةِ بَيْنَ أبنائِها، فتَطمِسَ فيهم الهُوِيَّةَ العَرَبيَّةَ والإسلاميَّةَ، وتُلغيَ المدارِسَ والكتاتيبَ، وتهتَمَّ بتَنْشِئةِ البَعْضِ تَنشِئةً أورُبِّيَّةً، يَنظُرونَ بعَينِ أُورُبَّا، ولا يَأبَهونَ بتعاليمِ الدِّينِ وأحكامِه، ولا يُلقونَ بالًا للعاداتِ والأعرافِ الَّتي نَشَؤُوا وَسَطَ أهْلِها، ولولا أنَّ اللُّغةَ العَرَبيَّةَ باقِيةٌ ببَقاءِ القُرآنِ والسُّنَّةِ وتُراثِ أهْلِها السَّابِقينَ، لاندَثَرت تلك اللُّغةُ واختَفَت.
إلَّا أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ هيَّأ للأُمَّةِ مَن يُوقِظُ فيها الاهتمامَ بالجانِبِ الأدَبيِّ، فنشأت في عهدِ محَمَّد علي باشا المدارِسُ العَربيَّةُ الحديثةُ، ونشأت المَطْبَعةُ الأميريَّةُ، وصدَرَت بعضُ الصُّحُفِ العَرَبيَّةِ لأوَّلِ مَرَّةٍ.
وفي عَهدِ الخِدِيوي إسماعيلَ نشأت كُلِّيَّةُ الحُقوقِ باللُّغةِ العَرَبيَّةِ، وكُلِّيَّةَ دارِ العُلومِ؛ للاهتِمامِ بعُلومِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ وآدابِها، والمجْمَعَ العِلْميَّ، ومَكتبةَ دارِ الكُتُبِ، وغيرَ ذلك.
هكذا كان الأمرُ في مصرَ وسائِرِ بلادِ العالَمِ العَربيِّ، مُتأثِّرةً بأحداثِها؛ ولهذا لم يكُنِ الوضعُ في الأقطارِ العَرَبيَّةِ منها ببعيدٍ.
ففي لُبنانَ مثلًا افتُتِحَ عَدَدٌ من المدارِسِ، وأكثَرُها مدارِسُ للنَّصارى مدعومةً من أوروبَّا -وخاصَّةً فَرَنسا- ففَتَحوا المدارِسَ اليَسوعيَّةَ في بيروتَ وما حولها، ومدرسةَ البناتِ عام1277ه/ 1860م، وكليَّةً لليَسوعيِّينَ عامَ 1291ه/ 1874م، والتَحَق بتلك المدارِسِ النَّصارى وبعض المُسلِمين، وأعلن اللُّبنانيُّونَ الثَّورةَ الأدبيَّةَ على الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، وطالبوا بالحُرِّيَّةِ -في ظَنِّهم-، وأثاروا القَوميَّةَ العَرَبيَّةَ على الأتراكِ! فثبت بعضُهم في لُبنانَ، وهاجر بعضٌ إلى مِصرَ وعَمِلَ بالصِّحافةِ العربيَّةِ التي أنشَؤُوها هناك، وهرَب آخَرون إلى بلادِ الغَربِ وأسَّسوا الرَّوابطَ الأدبيَّةَ هنالك. ومن أبرَزِ شُعَراءِ لُبنانَ الشاعران النصرانيان: الأخطَلُ الصَّغيرُ، ورشيد خُوري.
وفي سُوريَّةَ تأثَّر الوضعُ بالثَّورةِ اللُّبنانيَّةِ؛ نظرًا للتَّقارُبِ والتَّجاوُرِ بَينَ البلَدَينِ، فظهرت الدَّعوةُ إلى الوَطَنيَّةِ والقوميَّةِ العَرَبيَّةِ، بَيْدَ أنَّها كانت أكثر تمسُّكًا بالهُويَّةِ الإسلاميَّةِ. وقد اشتَهَر من شُعَراءِ سُورِيَا: شفيق جبري، وفؤاد الخطيب، والزِّرِكْلي، وعُمَر أبو ريشة.
أمَّا العِراقُ ففي سنةِ 1286ه/ 1869م أُنشِئَت مجلَّةُ الزَّوراءِ، ثم المدارِسُ والكليَّات. ومن شُعراءِ العراقِ في تلك المرحلة الزَّهاويُّ، وبدر شاكر السَّيَّاب، والرَّصافي، ونازك الملائكةِ، والبياتي.
أمَّا في بلادِ الحِجازِ ونجد وما حولَها فقد بدأتْ معالمُ النَّهضة تظهَرُ في حُدودِ سَنةِ 1300ه؛ حيث أُنشِئَت أوَّلُ صحيفةٍ هناك، على أنَّ إنشاءَ المدارِسِ تأخَّر إلى حُدودِ سنة 1330ه. وقد كان أبرزَ الشُّعَراءِ في ذلك الوقتِ محمَّد أمين الزللي، وعُمَرُ بنُ إبراهيمَ البَري، وإبراهيمُ الإسكوبي، وبَعدَ قيامِ الدَّولةِ السُّعوديَّةِ الثالثة عامَ 1351ه وبعد ما توحَّدت البلادُ على يَدَيِ المَلِكِ عَبدِ العزيزِ آلِ سُعودٍ رحمه الله، انتعشَت الحركةُ العِلميَّة و الاجتِماعيَّة وبدأت بوادِرُ الحضارةِ تتجلَّى في أرجاءِ المملكةِ، وظهَر الشُّعَراءُ والأُدَباءُ ومنهم: محمَّدُ بنُ عُثَيمين، وعبدُ اللهِ الفَيصَلُ، ومحمَّد سُرور الصَّبَّان، وغيرُهم.
وفي اليَمَنِ كانت النَّهضةُ الأدبيَّةُ والعِلميَّةُ مُعتَمِدةً ومتأثِّرةً بمصرَ والشَّامِ؛ حيثُ ظهر ذلك في أوائِلِ القَرنِ الرَّابعَ عَشَرَ الهِجريِّ، حينَ بدأت المطابِعُ في الظُّهورِ والانتِشارِ.
أمَّا بلادُ المغرِبِ العَربيِّ فقد أخَّرها عن اللَّحاقِ برَكبِ الازدِهارِ الأدبيِّ الاحتلالُ الأوروبِّيُّ الغاشِمُ، الذي أباد مظاهِرَ الوَحدةِ العَرَبيَّةِ، وسعى إلى تمزيقِ المغرِبِ إلى دُوَيلاتٍ، فأوجد أنظِمةً خاصَّةً بالعَرَبِ، وأُخرى للبربَرِ، إلَّا أنَّ بُشرَياتِ الازدِهارِ الأدبيِّ جاءت في أواخِرِ القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ وأوائِلِ العِشرينَ الميلاديِّ، حينَ ظهَرَت صحيفةُ المغرِبِ وأُنشِئَت المطابِعُ، وتأسَّسَت جامعةُ القَرَويِّينَ التي تُدَرِّسُ العُلومَ الشَّرعيَّةَ واللُّغَويَّةَ، كما ظهَرَت مجلَّةُ زينِ العابِدينَ في تُونُسَ، وظهرَت حرَكاتُ الاستِقلالِ، واشتَهَر من الشُّعَراءِ: محمَّد المختار، والسُّوسي، وعلَّال الفاسيُّ، وأبو القاسِمِ الشَّابِّي، وأحمد رفيق المهداويُّ، وأحمدُ الشَّارفُ، ومن الأُدَباءِ: محمَّد المزالي، ومحمد المسعديُّ [811] ينظر: ((الأدب العربي الحديث)) لمسعد العطوي (ص: 21 - 33). .
ومع مُرورِ الوَقْتِ كَثُرَت المطابِعُ، واهتَمَّ أصحابُ المطابِعِ بنَشْرِ كُتُبِ التُّراثِ، كما حَرَص المُستَشرِقونَ على طَبْعِها بهَدَفِ مَعرفتِهم بالشَّرقِ، وبهَدَفِ دَسِّ الشُّبُهاتِ فيها؛ ولهذا ظَهَرت المناهِجُ العِلميَّةُ لدراسةِ التُّراثِ، ودعا الكُتَّابَ إلى إحياءِ التُّراثِ في الدِّراساتِ الجامِعيَّةِ بَدَلًا مِنَ الإنشاءِ والتَّأليفِ، فطُبِعَ الصَّحيحانِ، وكُتُبُ الفِقْهِ والتَّفسيرِ، وكِتابُ الأغاني، والكامِلُ في التَّاريخِ.
وقد تلقَّت الأُمَّةُ العَرَبيَّةُ بَعدَ ذلك دَعَواتٍ هَدَّامةً، كدَعَواتِ تَرْكِ الإعرابِ، والدَّعوةِ إلى العامِّيَّةِ وجعْلِها لُغةً في الكِتابةِ الأدَبيَّةِ والرَّسْميَّةِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الدَّعَواتِ، فَضْلًا عن الحَرَكاتِ التَّنصيريَّةِ، إلَّا أنَّ اللُّغةَ العَرَبيَّةَ كانت أقوى مِن تلك الدَّعَواتِ جَميعًا [812] يُنظر: ((الأدب العربي الحديث)) لمسعد العطوي (ص: 64)، ((الوافي في الأدب العربي الحديث)) لجودة الركابي (ص: 57). .

انظر أيضا: