موسوعة اللغة العربية

الفَصْلُ الرَّابِعُ: مَعاييرُ الحُكْمِ بأعْجَميَّةِ اللَّفْظِ


تُعرَفُ عُجْمةُ اللَّفْظِ بوَسائِلَ عَديدةٍ ذَكَرَها أئِمَّةُ اللُّغةِ [43] يُنظر: ((المزهر)) للسيوطي (1/ 213)، ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 48 – 62). ، وهي:
1- الوَسيلةُ الأُولى: النَّقْلُ
بأن يَنقُلَ ذلك أحَدُ أئِمَّةِ اللُّغةِ؛ فقدِ اعْتَنى أئِمَّةُ اللُّغاتِ ببَيانِ الكَلِماتِ المُعرَّبةِ وأصْلِها وما آلَتْ إليه بعْدَ التَّعْريبِ مِن حيثُ البِنْيةُ والدَّلالةُ.
وقدِ الْتَزَمَ أصْحابُ المَعاجِمِ -كابنِ دُرَيْدٍ، والأزْهَريِّ، والجَوْهَريِّ، وابنِ مَنْظورٍ، والزَّبيديِّ، وغيْرِهم- الإشارةَ إلى المُعرَّباتِ؛ فقدْ عَقَدَ ابنُ دُرَيْدٍ في جَمْهَرتِه بابًا خاصًّا سَمَّاه: (باب ما تَكلَّمَتْ به العَربُ مِن كَلامِ العَجَمِ حتَّى صارَت كاللُّغةِ) [44] ((الجمهرة)) لابن دُرَيْدٍ (3/ 1322). ، وكذلك عَقَدَ ابنُ قُتَيْبةَ بابًا في أدَبِ الكاتِبِ وسَمَّاه: (ما تَكلَّمَ به العامَّةُ مِن الكَلامِ الأعْجَميِّ) [45] ((أدب الكاتب)) لابن قتيبة (ص: 495). .
وهؤلاء العُلَماءُ كانوا يُجيدونَ بعضَ اللُّغاتِ الَّتي أخَذَ عنها العَربُ؛ مِثلُ سيبَوَيْهِ والأزْهَريِّ والجَوْهَريِّ، كانوا يَعرِفونَ الفارِسيَّةَ، وكانَ أبو عَمْرٍو الشَّيْبانيُّ يَعرِفُ النَّبَطيَّةَ؛ إذ كانَت أمُّه نَبَطيَّةً؛ كما جاءَ في لِسانِ العَربِ في كَلِمةِ مُحَزْرَق -وهي كَلِمةٌ نَبَطيَّةٌ بمَعْنى: مَحْبوس- كانَ أبو عَمْرٍو يَنطِقُها: مُحَرْزَق؛ بتَقْديمِ الرَّاءِ على الزَّايِ، قال أبو زيدٍ الأنْصاريُّ: (وأُمُّ أبي عَمْرٍو نَبَطِيَّةٌ؛ فهو أعْلَمُ بها مِنَّا) [46] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (10/ 48). .
وكانَ أبو حاتِمٍ السِّجِسْتانيُّ يَتَثبَّتُ مِن صِحَّةِ الكَلِماتِ المُعرَّبةِ بسُؤالِ غيرِ العرَبِ عنها؛ إذ جاءَ أنَّه يقولُ عن (السَّقْلاطُونِ) وهو نَوْعٌ مِن الثِّيابِ: عَرَضْتُه على روميَّةٍ وقلْتُ لها: ما هذا؟ فقالَت: سِجِلَّاطُس [47] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (13/ 211). [48] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 21). .
وقدْ أخَذَ الدُّكْتورُ عبْدُ الوَهَّابِ عَزَّام على الجَواليقيِّ وغيْرِه مِمَّن تَكلَّموا في التَّعْريبِ أمورًا؛ مِنها:
1- أنَّهم كانوا يُسارِعونَ إلى ادِّعاءِ العُجْمةِ في ألْفاظٍ لا يَتَبيَّنُ الدَّليلُ على كَوْنِها أعْجَميَّةً، ويَرجِعُ ذلك لأسْبابٍ؛ مِنها:
- التَّشابُهُ بيْنَ لَفْظَينِ في لُغتَينِ ربَّما يكونُ اتِّفاقًا دونَ أن تَأخُذَ إحدى اللُّغتَينِ مِن الأُخرى.
- أنَّ اللُّغاتِ السَّاميَّةَ قد تَبادَلَتْ معَ جاراتِها مِن اللُّغاتِ ألْفاظًا لعُصورٍ مُمْتدَّةٍ قبْلَ الإسْلامِ، ومِن ثَمَّ فقدْ دَخَلَ الفارِسيَّةَ -مَثَلًا- ألْفاظٌ ساميَّةٌ، فتكونُ دَعْوى فارِسيَّتِها مَشْكوكًا فيها.
- أنَّ عُلَماءَ اللُّغةِ لم يَعْرِفوا القَرابةَ بيْنَ اللُّغةِ العَربيَّةِ وأخَواتِها مِن اللُّغاتِ السَّاميَّةِ؛ فمَثَلًا اعْتَبَروا كلَّ لَفْظٍ عَربيٍّ مَوْجودٍ في السُّرْيانيَّةِ دَخيلًا في العَربيَّةِ، ولم يَعْتَبِروا اللَّفْظَ مِن أصْلٍ سامِيٍّ واحِدٍ.
2- أنَّهم كانوا يُسارِعونَ إلى الْتِماسِ أُصولِ كَثيرٍ مِن الكَلِماتِ الأعْجَميَّةِ في اللُّغةِ الفارِسيَّةِ؛ لكَوْنِها أقْرَبَ لهم مِن غيْرِها مِن اللُّغاتِ؛ في حينِ أنَّ اللَّفْظَ قد يكونُ مِن اللُّغاتِ السَّاميَّةِ أو مِن غيْرِها وتَسرَّبَ إلى الفارِسيَّةِ مُنْذُ عَهْدٍ بَعيدٍ؛ مِثلُ: كَلِمةِ (دينار) قالوا فيها: فارِسيٌّ مُعرَّبٌ [49] يُنظر: ((الجمهرة)) لابن دُرَيْدٍ (2/ 640). ، معَ أنَّ الكَلِمةَ رُوميَّةٌ [50] يُنظر تقديم الدكتور عبد الوهاب عزام لـ ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 4 – 7). .
2- الوَسيلةُ الثَّانيةُ: ائْتِلافُ الحُروفِ
وطَريقةُ ائْتِلافِ الحُروفِ على صورتَينِ:
- أن تَجْتَمِعَ حُروفٌ مُتَنافِرةٌ في الكَلِمةِ لا تَجْتمِعُ في لُغةِ العَربِ؛ فيُستدَلُّ بذلك على أنَّ الكَلِمةَ مُعرَّبةٌ؛ قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: (فإِذا جاءَك كَلِمةٌ مَبْنِيَّةٌ مِن حُروفٍ لا تُؤلِّفُ مِثلَها العَربُ عَرَفْتَ مَوضِعَ الدَّخْلِ مِنْها فرَدَدْتَها غيْرَ هائِبٍ لها) [51] ((الجمهرة)) لابن دُرَيْدٍ (1/ 46). .
- أن تَجْتمِعَ حُروفٌ يُمكِنُ أن تَجْتمِعَ في لُغةِ العَربِ لكنَّها تَلْتزِمُ تَرْتيبًا خاصًّا، فإذا خالَفَتِ الكَلِمةُ هذا التَّرْتيبَ دَلَّ على أنَّها دَخيلةٌ؛ ذلك أنَّ كَلامَ العَربِ يقومُ على الحُروفِ المُتَباعِدةِ المَخارِجِ غالِبًا.
فمِن النَّوْعِ الأوَّلِ: اجْتِماعُ حُروفٍ لا يَجْتمِعُ مِثلُها في لُغةِ العَربِ:
1- الجيمُ والقافُ لا تَجْتمِعانِ في كَلِمةٍ، فإذا اجْتَمَعَتا فالكَلِمةُ مُعرَّبةٌ؛ مِثلُ: الجَوْقِ؛ وهو القَطيعُ مِن الرُّعاةِ، والجَوْسَق؛ وهو القَصْرُ، والقَبَج؛ وهو الكَرَوانُ.
2- والصَّادُ والجيمُ؛ مِثلُ: الجِصِّ، وهو ما يُطْلى به، والصَّوْلَجان، وهو العُودُ المُعوَجُّ.
3- الطَّاءُ والجيمُ؛ مِثلُ: الطَّاجِن والطَّيْجَن، وهو الطَّابقُ يُقْلى عليه، قالَ الجَوْهَريُّ: (وكِلاهما مُعرَّبٌ؛ لأنَّ الطَّاءَ والجيمَ لا يَجْتمِعانِ في أصْلِ كَلامِ العَربِ) [52] ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2157، 2158). .
4- الطَّاءُ والتَّاءُ؛ مِثلُ: الطَّسْت؛ قالَ الأزْهَريُّ: (إنَّ التَّاءَ معَ الطَّاءِ لا يَدخُلانِ في كَلِمةٍ واحِدةٍ أصْليَّتَينِ في شيءٍ مِن كَلامِ العَربِ) [53] ((تهذيب اللُّغة)) للأزهري (12/ 194). .
5- الكافُ والجيمُ؛ مِثلُ: كُنْدوج، وهو الخِزانةُ الصَّغيرةُ؛ قالَ الفَيُّوميُّ: (لَفْظةٌ أعْجَميَّةٌ لأنَّ الكافَ والجيمَ لا يَجْتمِعانِ في كَلمةٍ عَربيَّةٍ إلَّا قَوْلَهم: رَجُلٌ جَكِرٌ وما تَصَرَّفَ مِنها) [54] ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 527). .
6- الجيمُ والتَّاءُ مِن غيْرِ أن يكونَ في الكَلِمةِ حَرْفٌ ذَوْلَقيٌّ، وحُروفُ الذَّلاقةِ سِتَّةٌ هي: (الرَّاءُ والنُّونُ، واللَّامُ والفاءُ، والباءُ والميمُ)؛ مِثلُ: الجِبْتِ، وهو لَفْظٌ يُطلَقُ على الصَّنَمِ والكاهِنِ والسَّاحِرِ؛ قالَ الجَوْهَريُّ: (وهذا ليس مِن مَحْضِ العَربيَّة؛ِ لاجْتِماعِ الجيمِ والتَّاءِ في كَلِمةٍ واحِدةٍ مِن غيْرِ حَرْفٍ ذَوْلَقيٍّ) [55] ((الصحاح)) للجوهري (1/ 245). .
7- الصَّادُ معَ السِّينِ أو معَ الزَّايِ؛ قالَ الأزْهَريُّ: (ولا تَأتَلِفُ الصَّادُ معَ السِّينِ ولا معَ الزَّايِ في شيءٍ مِن كَلامِ العَربِ) [56] ((تهذيب اللُّغة)) للأزهري (1/ 312). .
8- الصَّادُ والطَّاءُ: مِثلُ الإصْطَفْلِينةِ، وهي الجَزَرةُ؛ وفي التَّهْذيبِ: (وليست بعَربيَّةٍ مَحْضةٍ؛ لأنَّ الصَّادَ والطَّاءَ لا تَكادانِ تَجْتمِعانِ في مَحْضِ كَلامِ العَربِ) [57] ((تهذيب اللُّغة)) للأزهري (12/ 191). .
9- الباءُ والسِّينُ والتَّاءُ معًا، مِثلُ كَلِمةِ بُسْتانٍ، (مُعَرَّبُ بُوسْتان، مَعْناه: آخِذُ الرَّائِحةِ... ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه حتَّى أَطْلَقوه على الأشْجارِ) [58] ((تاج العروس)) للزبيدي (4/ 443). .
10- الكافُ والقافُ؛ جاءَ في ((تاجِ العَروسِ)): (وقالَ أبو عبْدِ الرَّحْمنِ: تأليفُ القافِ والكافِ مَعْقومٌ في بِناءِ العَربيَّةِ لقُرْبِ مَخْرَجَيهما إلَّا أن تَجيءَ كَلِمةٌ مِن كَلامِ العَجَمِ مُعرَّبةً) [59] ((تاج العروس)) للزبيدي (26/ 346). .
11- السِّينُ والزَّايُ؛ جاءَ في ((التَّهْذيبِ)): (أُهمِلَتِ السِّينُ معَ الزَّايِ في كَلامِ العَربِ) [60] ((تهذيب اللُّغة)) للأزهري (12/ 193). .
ومِن النَّوْعِ الثَّاني: اجْتِماعُ حُروفٍ بتَرْتيبٍ يُخالِفُ تَرْتيبَها في كَلامِ العَرَبِ:
1- مَجيءُ النُّونِ قبْلَ الرَّاءِ: مِثلُ نَرْجِس، وهو زَهْرٌ، ونَوْرَج، وهو ما يُداسُ به الطَّعامُ، ونِرْسِيان، وهو أجْوَدُ التَّمْرِ؛ قالَ ابنُ دُرَيْدٍ: (وليس في كَلامِهم نونٌ بعْدَها راءٌ بغيْرِ حاجِزٍ) [61] ((الجمهرة)) لابن دُرَيْدٍ (1/ 127). .
2- مَجيءُ الزَّايِ بعْدَ الدَّالِ؛ مِثلُ المُهَنْدِزِ، وهو الَّذي يُقدِّرُ مَجاريَ الأبْنِيةِ (المُهَندِس)، والهِنْدازِ.
3- مَجيءُ الشِّينِ بعْدَ اللَّامِ؛ مِثلُ الأقْلَشِ؛ قالَ ابنُ مَنْظورٍ: (الأقْلَشُ: اسمٌ أَعْجَميٌّ وهو دَخيلٌ؛ لأنَّه ليس في كَلامِ العَربِ شينٌ بعْدَ لامٍ في كَلِمةٍ عَربيَّةٍ مَحْضةٍ، إنَّما الشِّيناتُ كُلُّها في كَلامِهم قبْلَ اللَّاماتِ) [62] ((لسان العَرب)) لابن منظور (6/ 337، 338). .
وقدْ ذَكَرَ الجَواليقيُّ أنَّ الرُّباعيَّ والخُماسيَّ لا يَخْلو مِن حُروفِ الذَّلاقةِ إلَّا في (عَسْجَد) وهو الذَّهَبُ؛ لأنَّ السِّينَ بصَفيرِها أشْبَهَتِ النُّونَ بما فيها مِن الغُنَّةِ، فإذا جاءَت كَلِمةٌ رُباعيَّةٌ أو خُماسيَّةٌ ليس فيها مِن حُروفِ الذَّلاقةِ فهي ليست مِن كَلامِ العَربِ –وهو ما ذَكَرَه الخَليلُ في مُعجَمِه [63] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (1/ 12). - مِثلُ: عَقْجَش، وحُظائِج، وغيْرِ ذلك [64] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 100، 101)، ((التقريب لأصول التَّعْريب)) للشيخ طاهر الجزائري (ص: 63، 64)، ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 60 – 64). .
3- الوَسيلةُ الثَّالِثةُ: الخُروجُ عن الأوْزانِ العَربيَّةِ:
تكونُ الكَلِمةُ عَربيَّةً إذا جاءَ على مِثالِها (وَزْنِها) كَلامٌ عَربيٌّ، فإن خَرَجَتِ الكَلِمةُ عن أوْزانِ العَربِ فهي غيْرُ عَربيَّةٍ؛ قالَ ابنُ مَنْظورٍ: (القَرَصْطونُ: القَفارُ، أَعْجَميٌّ؛ لأنَّ فَعَلُّولًا وفَعَلُّونًا لَيْسا مِن أبْنِيتِهم) [65] ((لسان العَرب)) لابن منظور (13/ 324). .
وقدْ بَيَّنَ العُلَماءُ الأوْزانَ الَّتي يَأتي عليها كَلامُ العَربِ، فما خَرَجَ عن هذه الأوْزانِ فليس مِن كَلامِهم، ومِن هذه الأوْزانِ:
1- فاعيل؛ مِثلُ: قابيل وهابيل وفانيذ؛ قالَ الفَيُّوميُّ في "فانيذ": (نَوْعٌ مِن الحَلْوى ... وهي كَلِمةٌ أعْجَميَّةٌ؛ لفَقْدِ فاعيلٍ مِن الكَلامِ العَربيِّ) [66] ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 481). .
2- فاعُل؛ مِثلُ: آجُر، وآنُك، وهو الرَّصاصُ الخالِصُ؛ قالَ الفَيُّوميُّ: (وليس في العَربيِّ فاعُلٌ ... وأمَّا الآنُكُ والآجُرُ فِيمَنْ خَفَّفَ ... فأعْجمِيَّاتٌ) [67] ((المصباح المنير)) للفيومي (1/ 26). .
3- فُعالِل؛ مِثلُ: سُرادِق؛ قالَ الرَّاغِبُ: (السُّرادِقُ فارِسيٌّ مُعرَّبٌ، وليس في كَلامِهم اسمٌ مُفرَدٌ ثالِثُه ألِفٌ وبعْدَه حَرْفانِ) [68] ((المُفرَدات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 406، 407). .
تَنْبيهٌ:
الاسمُ المُعرَّبُ كي يكونَ عَربيًّا لا بُدَّ أن يكونَ على وَزْنِه (مِثالِه) كَلامٌ عَربيٌّ، فإن لم يَكُنْ على وَزْنِ الاسمِ المُعرَّبِ كَلامٌ عَربيٌّ فلا يَثبُتُ به وَزْنٌ، وهذا ما تَشي به عِبارةُ الخَليلِ؛ إذ يَقولُ في كَلِمةِ (بَقَّمٍ)، وهو شَجَرٌ: (وإنَّما عَلِمْنا أنَّه دَخيلٌ؛ لأنَّه ليس للعَربِ كَلِمةٌ على بِناءِ فَعَّل، ولو كانَت عَربيَّةَ البِناءِ لَوُجِدَ لها نَظيرٌ) [69] ((العين)) للخليل بن أحمد (5/ 182). ، وافْتِراضُ وُجودِ وَزْنٍ للكَلِمةِ المُعرَّبةِ لا يَعْني أنَّها عَربيَّةٌ، إنَّما يكونُ الوَزْنُ ومَعْرفةُ الأصولِ والزَّوائِدِ أمْرًا افْتِراضيًّا، فكأنَّنا نَقولُ: لو كانَت عَربيَّةً لَكانَ أصْلُها كذا وكذا، وزَوائِدُها كذا وكذا؛ ذلك أنَّ المُعْتبَرَ في كَوْنِ الكَلِمةِ عَربيَّةً أن يكونَ الجَذْرُ عَرَبيًّا، فمَثَلًا حينَ يُقالُ: إنَّ "دَيابُوذ" -وهو نَوْعُ ثيابٍ- أصْلُها: دبذ، وما عَداه زائِدٌ، إنَّما هو أمْرٌ افْتِراضيٌّ؛ لأنَّ هذا الجَذْرَ لا وُجودَ له في العَربيَّةِ، إنَّما ذَكَرَه ابنُ مَنْظورٍ مَدخَلًا للكَلِمةِ "دَيابوذ"، بدَليلِ أنَّه لم يَذكُرْ فيه سِواها [70] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (3/ 490). .
وحينَ يُقالُ في كَلِمةِ نَرْجِس: إنَّ وَزْنَها (نَفْعِل) [71] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/ 934). ، يَعْني أنَّ أصْلَها المُفْترَضَ "رجس"، وهو جَذْرٌ عَربيٌّ لكنَّ الكَلِمةَ أُلْحِقَتْ به فحسْبُ، ولا عَلاقةَ لمَعْناها بمَعْناه [72] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 58 – 60). .
4- الوَسيلةُ الرَّابِعةُ: عَدَمُ وُجودِ جَذْرٍ عَربيٍّ (فُقْدانُ الأصْلِ في العَربيَّةِ):
المُعرَّبُ دَخيلٌ في العَربيَّةِ، فليس له أصْلٌ يُشتَقُّ مِنه، أمَّا في اللُّغةِ الَّتي أُخِذَ مِنها فله أصْلٌ يُشتَقُّ مِنه إذا كانتِ اللُّغةُ المَأخوذُ مِنها لُغةً اشْتِقاقيَّةً [73] اللغات الاشتقاقية هي التي تعتمد كلماتها على الجذر اللغوي، بخلاف اللغات اللصقية فهي التي تعتمد في بناء المفردات على السوابق واللواحق. ، وقدِ اسْتَدلَّ القُدَماءُ على عَربيَّةِ اللَّفْظِ بأن يكونَ له جَذْرٌ في العَربيَّةِ بمَعْناه، واسْتَدلُّوا على عُجْمتِه بألَّا يكونَ له جَذْرٌ عَربيٌّ بمَعْناه، وهذا أقْوى دَليلٍ اسْتَدلَّ به القُدَماءُ، ومِن اسْتِدْلالِهم بهذا الدَّليلِ:
قولُ الجَواليقيِّ في تَرْجيحِه أنَّ لَفْظَ (التَّنُّورِ) -وهو الكانون الَّذي يُخبَزُ فيه: إنَّه لو كانَ بِناؤُه عَربيًّا لَكانَ أصْلُه (تَنَر)، وهو بِناءٌ لا يُعرَفُ في كَلامِ العَربِ [74] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 213). .
وجاءَ في المُعرَّبِ أيضًا في كَلِمة (المَرْجان) -وهو صِغارُ اللُّؤْلُؤِ-: (قالَ أبو بَكْرٍ: ولم أسْمَعْ له بفِعلٍ مُتَصرِّفٍ، وأحْرِ به أن يكونَ كذلك) [75] ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 602). .
وقدِ اضْطَربَ اللُّغَويُّونَ في عِلاجِ الكَلِماتِ المُعرَّبةِ اضْطِرابًا شَديدًا؛ لأنَّ المُتَوقَّعَ ألَّا تَجْريَ الكَلِمةُ المُعرَّبةُ في جَميعِ الأحْوالِ مَجْرى الكَلِماتِ العَربيَّةِ مِن حيثُ الاشْتِقاقُ والتَّصْريفُ، واعْتِبارُ الأصْليِّ والزَّائِدِ، ومِن اضْطِراباتِ اللُّغَويِّينَ في ذلك:
1- قَوْلُهم في (نَرْجِس): وهو زَهْرٌ، وأصْلُها الكَلِمةُ اليونانيَّةُ [76] ستُكتب الكلمات اليونانية في البحث بلغتها الأصلية، فإن تعذَّر -وهو كثير- فسنكُتبها بالحروف العربية أو اللاتينية بحسب المصدر. (narkisoss) المأخوذة عن الفارسية (نركس) [77] يُنظر: ((تفسير الألفاظ الدخيلة)) لطوبيا العنيسي (ص: 73)، ((المعرب والدخيل)) لعبد الرحيم عبد السبحان (ص: 488). ؛ فقدْ ذَكَرَ الجَواليقيُّ أنَّه أعْجَميٌّ مُعرَّبٌ؛ لأنَّه لا نَظيرَ له في كَلامِ العَربِ، ثُمَّ قالَ: (فإن جاءَ بِناءٌ على "فَعْلِل" في شِعْرٍ قَديمٍ، فارْدُدْه؛ فإنَّه مَصْنوعٌ) [78] ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 606). ، وذَكَرَتِ المَعاجِمُ أنَّ النُّونَ فيه زائِدةٌ؛ لأنَّه ليس في الكَلامِ بِناءُ (فَعْلِل)، وإنَّما في الكَلامِ بِناءُ (نَفْعِل) [79] يُنظر: ((المنصف)) لابن جني (1/ 104)، ((لسان العَرب)) لابن منظور (6/ 96). ، واضْطَرَبَتِ المَعاجِمُ في تَحْديدِ مَوضِعِها؛ فتَرْجَمَ لها الفَيُّوميُّ في (رجس) [80] يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/ 219). و(نرجس) [81] يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 599). ، وذَكَرَها الأزْهَريُّ في جُمْلةِ الألْفاظِ الرُّباعيَّةِ المُجرَّدةِ في آخِرِ حَرْفِ الجيمِ [82] يُنظر: ((تهذيب اللُّغة)) للأزهري (11/ 164). ، وتَرجَمَ له صاحِبُ اللِّسانِ في (رجس) [83] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (6/ 96). و(نرجس) [84] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (6/ 230). .
2- قَوْلُهم في (مَنْجَنيق): وهي كَلِمةٌ يونانيَّةٌ (magganik-on) [85] يُنظر: ((اصطلاحات يونانية)) لبندلي جوزي (ص: 348). دَخَلَتِ الآراميَّةَ [86] تُكتب الكلمات الآرامية في البحث بلغتها الأصلية، فإن تعذَّر، وهو كثير، كُتبت بالحروف العربية أو اللاتينية بحسب المصدر. (منجنيقا)، ثُمَّ إلى العَربيَّةِ (مَنْجَنيق)، وقدْ رأى سيبَوَيْهِ أنَّ النُّونَ فيها زائِدةٌ، والميمَ أصْليَّةٌ، ووَزْنَه (فَنْعَلِيل) [87] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبَوَيْهِ (4/ 309). ، ورأى غيْرُه أنَّ النُّونَ أصْليَّةٌ والميمَ زائِدةٌ، وقدِ اضْطَربَتِ المَعاجِمُ في تَحْديدِ جَذْرِها؛ فتَرجَمَ لها الفَيُّوميُّ في (مجن) [88] يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 564). ، وتَرجَمَ لها ابنُ مَنْظورٍ في (مجنق) [89] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (10/ 338). مُتَّبِعًا الأزْهَريَّ [90] يُنظر: ((تهذيب اللُّغة)) للأزهري (9/ 282). ، وتَرجَمَ له الرَّازيُّ في (جنق) [91] يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 299). .
3- قَوْلُهم في (إسْتَبْرَق)، وهو الدِّيباجِ الغَليظُ، وهي كَلِمةٌ مُعرَّبةٌ مِن الفارِسيَّةِ، وقدِ اضْطَربَتِ المَعاجِمُ في تَرْجمتِها؛ فتَرجَمَها الفَيُّوميُّ في بابِ الألِفِ معَ السِّينِ على أنَّ ألِفَها أصْليَّةٌ [92] يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/ 14). ، على حينِ جَعَلَها ابنُ مَنْظورٍ في (برق) [93] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (10/ 19). و(سرق) [94] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (10/ 156). ، وجَعَلَها الأزْهَريُّ في خُماسيِّ القافِ على أنَّ هَمْزتَها فقط زائِدةٌ [95] يُنظر: ((تهذيب اللُّغة)) للأزهري (8/ 307). .
فـ(نَرْجِس ومَنْجَنيق وإسْتَبْرَق) مُعرَّبةٌ؛ إذ لا جَذْرَ لها في العَربيَّةِ، بَيْدَ أنَّ العَربَ افْتَرضَتْ لها أو لبعضِها نَظيرًا عَربيًّا تُعامَلُ مُعامَلتَه مِن حيثُ الاشْتِقاقُ والتَّصْريفُ [96] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 52 – 55). .
5- الوَسيلةُ الخامِسةُ: كَثْرةُ اللُّغاتِ
أشارَ لتلك الظَّاهِرةِ ابنُ دُرَيْدٍ؛ إذ يقولُ: (فأمَّا الكافورُ مِن الطِّيبِ فأحْسَبُه ليْسَ بعَربيٍّ مَحْضٍ؛ لأنَّهم رُبَّما قالوا: القَفُّورُ والقافورُ) [97] ((الجمهرة)) لابن دُرَيْدٍ (2/ 787). ، وذَكَرَ الجَوْهَريُّ أنَّ العَربَ تَتَعدَّدُ لُغاتُها فيما ليس مِن كَلامِها؛ فيَقولُ في تَرْجمةِ الإبْرِيسَمِ: (والإبْرِيسَمُ مُعرَّبٌ، وفيه ثَلاثُ لُغاتٍ، والعَربُ تَخلِطُ فيما ليس مِن كَلامِها) [98] ((الصحاح)) للجوهري (5/ 1871). .
وأشارَ إلى ظاهِرةِ تَعدُّدِ اللُّغاتِ أيضًا الجَواليقيُّ؛ إذ يَقولُ: (وكذلك نَجِدُ العَربَ إذا وَقَعَ إليهم ما لم يَكنْ مِن كَلامِهم تَكلَّموا فيه بألْفاظٍ مُخْتلِفةٍ، كما قالوا: بَغْداذ، وبَغْداد، وبَغْدان) [99] ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 106). .
ويَرجِعُ اخْتِلافُ اللُّغاتِ في الكَلِماتِ الأعْجَميَّةِ إلى أنَّ كلَّ مَن قامَ بالتَّعْريبِ سَلَكَ مَسلَكًا مُعيَّنًا في تَغيُّرِ أصْواتِ الكَلِمةِ، وفي إخْضاعِها للأبْنِيةِ العَربيَّةِ، مِثلُ الفِرِنْد، وهو جَوْهَرُ السَّيْفِ، وأصْلُه: (پَرَند) بالباءِ الفارِسيَّةِ، وفي تَعْريبِه لُغةٌ أُخرى، وهي: بِرِنْد، فمَن قالَ: فِرِنْد، أبْدَلَ الباءَ الفارِسيَّةَ فاءً في الكَلِمةِ المُعرَّبةِ، ومَن قال: بَرَنْد أبْدَلَ الفاءَ الفارِسيَّةَ باءً في الكَلِمةِ المُعرَّبةِ [100] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 474). .
ومِن ذلك كَلِمةُ (خِوان) أصْلُها الفارِسيُّ مَبْدوءٌ بالسُّكونِ (خْوان) وهو ما يُؤكَلُ فيه، ولا يَجوزُ في العَربيَّةِ الابْتِداءُ بالسَّاكِنِ، فاخْتَلَفَتِ المَسالِكُ في تَعْريبِه؛ فمِنهم مَن اجْتَلَبَ له هَمْزةً ليَتَوصَّلَ إلى النُّطْقِ بالسَّاكِنِ، فقالَ: اخْوان، وهو أقَلُّ اللُّغاتِ، ومِنهم مَن حَرَّكَ الحَرْفَ الأوَّلَ بالكَسْرِ، فقالَ: خِوان، وهو أشْهَرُ اللُّغاتِ، ومِنهم مَن حَرَّكَه بالضَّمِّ، فقالَ: خُوان، وهو أقَلُّ مِن الكَسْرِ [101] يُنظر: ((المعرَّب)) للجواليقي (ص: 26، 27، 278). .
6- الوَسيلةُ السَّادِسةُ: المِعْيارُ الثَّقافيُّ والتَّاريخيُّ
والمَقْصودُ بهذه الوَسيلةِ أنَّ الألْفاظَ المُقْترَضةَ (المُعرَّبةَ) غالِبًا تَدُلُّ على أشْياءَ أو مَفاهيمَ غيْرِ مَعْروفةٍ في بيئةِ اللُّغةِ المُقْترِضةِ؛ إذ إنَّ الثَّقافاتِ يُؤثِّرُ بعضُها في بعضٍ، ويَنتِجُ عن ذلك تَأثيرُ اللُّغاتِ بعضِها في بعضٍ، فليس يُنكِرُ أحَدٌ أنَّ اللُّغةَ العَربيَّةَ تَأثَّرَتْ بجيرانِها عن طَريقِ الاتِّصالِ الثَّقافيِّ بيْنَ العَربِ وبيْنَ تلك الأمَمِ؛ فأدَّى ذلك لاقْتِراضِ العَربِ بعضَ ألْفاظِهم.
وقدْ تَنَبَّهَ القُدَماءُ لِذلك المِعْيارِ في الحُكْمِ على اللَّفْظِ بأنَّه مُعرَّبٌ:
ففي كَلِمة (الهَمْقاقِ) -وهي حَبَّةٌ تُشبِهُ القُطْنَ- قالَ الخَليلُ: (ولا أظُنُّه إلَّا دَخيلًا مِن كَلامِ العَجَمِ، أو كَلامِ بَلْعَمِّ خاصَّةً؛ لأنَّها تكونُ بجبالِ بَلْعَمِّ) [102] ((العين)) للخليل (3/ 372). ، فالهَمْقاقُ لا توجَدُ إلَّا في جِبالِ بَلْعَمِّ مِن بلادِ العَجَمِ؛ فهو دَليلٌ على أنَّ اللَّفْظَ مُعرَّبٌ.
وذَكَرَ ابنُ دُرَيْدٍ التَّأثُّرَ بحُكْمِ الجِوارِ الجُغْرافيِّ؛ فقالَ: (والصِّيرُ الَّذي يُسمَّى الطَّحْناءَ أحْسَبُه سُرْيانيًّا مُعرَّبًا؛ لأنَّ أهْلَ الشَّامِ يَتَكلَّمُونَ به، وقدْ دَخَلَ في عَربيَّةِ أهْلِ الشَّامِ كَثيرٌ مِن السُّرْيانيَّةِ، كما اسْتَعمَلَ عَربُ العِراقِ أشْياءَ مِن الفارِسيَّةِ) [103] ((الجمهرة)) لابن دُرَيْدٍ (2/ 746). .
وفي ((الإتْقانِ)) عِبارةٌ واضِحةٌ في هذا الدَّليلِ؛ فقدْ جاءَ فيه أنَّ كَلِمةَ (إسْتَبْرَق) كَلِمةٌ لا بَديلَ لها، فإذا أرادَ الفَصيحُ أن يَترُكَها ويَأتيَ بغيْرِها، لا يَسْتَطيعُ إلى ذلك سَبيلًا؛ ذلك أنَّ الثِّيابَ مِن الحَريرِ عَرَفَها العَربُ مِن الفُرْسِ، ولم يَكُنْ لهم بها عَهْدٌ، فلم يَضَعوا لها ألْفاظًا تَدُلُّ عليها، فعَرَّبوا ما سَمِعوا مِن العَجَمِ، مُسْتَغنينَ بالتَّعْريبِ عن الوَضْعِ؛ لِقلَّةِ وُجودِه عنْدَهم ونُدْرةِ تَلَفُّظِهم به [104] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/ 128). .
على أنَّ هذا الدَّليلَ لا يَكْفي وَحْدَه لأن تكونَ الكَلِمةُ مُعرَّبةً؛ لأنَّ العَربَ عَرَّبَتْ ألْفاظًا لها مُقابِلاتٌ في لُغتِهم؛ مِثلُ: الميزاب، وفي لُغتِهم (المَثْعَب) [105] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 232). ، والياسَمين، وفي لُغتِهم (السَّمْسَق) [106] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (10/ 164). [107] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 49 – 51). .

انظر أيضا: