الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الأوَّلُ: استِراقُ الجِنِّ لأخبارِ السَّماءِ

قال اللهُ تعالى إخبارًا عَنِ الجِنِّ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن: 9] .
قال القُرطُبيُّ: (قَولُه تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن: 9] مِنها، أي: مِنَ السَّماءِ، ومَقاعِدُ: مَواضِعَ يُقعَدُ في مِثلِها لاستِماعِ الأخبارِ مِنَ السَّماءِ، يَعني أنَّ مَرَدةَ الجِنِّ كانوا يَفعَلونَ ذلك ليَستَمِعوا مِنَ المَلائِكةِ أخبارَ السَّماءِ حَتَّى يُلقوها إلى الكَهَنةِ، على ما تَقدَّمُ بَيانُه، فحَرسَها اللهُ تعالى حينَ بَعثَ رَسولَه بالشُّهُبِ المُحرِقةِ، فقالتِ الجِنُّ حينَئِذٍ: فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا يَعني بالشِّهابِ: الكَوكَبَ المُحْرقَ) [4508] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/12). .
وعَن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عَنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ المَلائِكةَ تَنزِلُ في العَنانِ: وهوَ السَّحابُ، فتَذكُرُ الأمرَ قُضِيَ في السَّماءِ، فتَستَرِقُ الشَّياطينُ السَّمعَ فتَسمَعُه، فتوحيهِ إلى الكُهَّانِ، فيَكذِبونَ مَعَها مِائةَ كَذبةٍ من عِندِ أنفُسِهم )) [4509] رواه البخاري (3210) واللَّفظُ له، ومسلم (2228). .
وعَن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أن نَبيَّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا قَضى اللهُ الأمرَ في السَّماءِ ضَرَبَتِ المَلائِكةُ بأجنِحَتِها خُضعانًا لقَولِه، كأنَّه سِلسِلةٌ على صَفْوانٍ، فإذا فُزِّعَ عَن قُلوبِهم قالوا: ماذا قال رَبُّكُم؟ قالوا للَّذي قال: الحَقُّ، وهوَ العَلِيُّ الكَبيرُ، فيَسمَعُها مُستَرِقُ السَّمعِ، ومُستَرِقُ السَّمعِ هَكَذا بَعضُه فوقَ بَعضٍ -ووَصفَ سُفيانُ بكَفِّه فحَرفَها، وبَدَّدَ بَينَ أصابِعِه- فيَسمَعُ الكَلِمةَ فيُلقيها إلى من تَحتَه، ثُمَّ يُلقيها الآخَرُ إلى من تَحتَه، حَتَّى يُلقِيَها على لسانِ السَّاحِرِ أوِ الكاهِنِ، فرُبَّما أدرَكَ الشِّهابُ قَبلَ أن يُلقِيَها، ورُبَّما ألقاها قَبلَ أن يُدرِكَه، فيَكذِبُ مَعَها مِائةَ كَذْبةٍ، فيُقالُ: ألَيسَ قد قال لَنا يَومَ كذا: كذا وكَذا؟! فيُصَدَّقُ بتِلكَ الكَلِمةِ الَّتي سَمِعَ مِنَ السَّماءِ )) [4510] رواه البخاري (4800). .
وفي رِوايةٍ: ((تِلكَ الكَلِمةُ مِنَ الحَقِّ يَخطَفُها الجِنِّيُّ فَيَقُرُّها في أذُنِ ولِيِّه قَرَّ الدَّجاجةِ، فيَخلِطونَ فيها أكثَرَ من مِائةِ كَذْبةٍ )) [4511] رواه البخاري (6213) واللَّفظُ له، ومسلم (2228) من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. .
عَن عَبدِ اللهِ بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قال: (كانَ الجِنُّ يَصعَدونَ إلى السَّماءِ يَسمَعونَ الوَحيَ، فإذا سَمِعوا الكَلِمةَ زادوا فيها تِسعًا، فأمَّا الكَلِمةُ فتَكونُ حَقًّا، وأمَّا ما زادَ فيَكونُ باطِلًا، فلَمَّا بُعِثَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنِعوا مَقاعِدَهم، فذَكَروا ذلك لإبليسَ ولَم تَكُنِ النُّجومُ يُرمى بها قَبلَ ذلك، فقال لَهم إبليسُ: ما هَذا إلَّا مِن أمرٍ قد حَدَثَ في أرضٍ، فبَعثَ جُنودَه فوَجَدوا رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمًا يُصَلِّي بَينَ جَبلَين -أُراه قال- بمَكَّةَ، فأَتوه فأخبَروه فقال: هَذا الَّذي حَدَثَ في الأرضِ) [4512] أخرجه الترمذي (3324) واللَّفظُ له، وأحمد (2482). صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3324)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/160)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (2482). .
قال الماوَرديُّ: (فأمَّا استِراقُهم للسَّمعِ فقد كانوا في الجاهِليَّةِ قَبلَ بَعثِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستَرِقونَه؛ ولِذلك كانَتِ الكِهانةُ في الإنسِ لإلقاءِ الجِنِّ إليهم ما استَرقَوه مِنَ السَّمعِ في مَقاعِدَ كانَت لَهم، يَقرُبونَ فيها مِنَ السَّماءِ، كما قال تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ [الجن: 9] ) [4513] يُنظر: ((أعلام النبوة)) (ص: 167). .
وقال ابنُ جُزَي الكَلبيُّ في تَفسيرِ قَولِه تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 10] : (المعنى: لا تَسمَعُ الشَّياطينُ أخبارَ السَّماءِ إلَّا الشَّيطانَ الَّذي خَطِفَ الخَطفةَ) [4514] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/189).  .
 وقال ابن باز: (يَبتَلي اللهُ عِبادَه بمُستَرِقِي السَّمعِ، ويُفتَنُ النَّاسُ بالكَلِمةِ الَّتي أصابَ) [4515] يُنظر: ((الحلل الإبريزية)) (3/ 410). .

انظر أيضا: