موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- عِندَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ


سُلَيمانُ عليه السَّلامُ يتَثَبَّتُ ممَّا قَصَّه عليه الهُدهُدُ:
قال تعالى على لِسانِ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ بعدَما رجَع الهُدهُدُ، وأخبَره بأمرِ الملِكةِ: قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل: 27] .
قال السَّمعانيُّ: (فيه دليلٌ على أنَّ المُلوكَ يجِبُ عليهم التَّثَبُّتُ فيما يُخبِرون) [1603] ((تفسير السمعاني)) (4/91). .
ب- نماذِجُ من التَّثَبُّتِ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُ أصحابَه التَّثَبُّتَ ويأمُرُهم به، وكان التَّثَبُّتُ منهجًا عَمَليًّا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان شديدَ الحِرصِ عليه، وربَّما اشتَدَّ غضَبُه إذا بلغَه نبأٌ يَحزُنُه جرَّاءَ حادثةٍ كان التَّثَبُّتُ سبيلًا للنَّجاةِ من الوُقوعِ فيها.
- غَضَبُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أسامةَ بنِ زَيدٍ لقَتْلِه رجلًا نطَق بالشَّهادةِ، ظَنًّا منه أنَّه قالها تعوُّذًا دونَ أن يتَثَبَّتَ مِن حُكمِه:
عن أُسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: ((بعَثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الحُرَقةِ [1604] الحُرَقةُ: بَطنٌ مِن جُهَينةَ، وإنَّما سُمُّوا الحُرَقةَ؛ لأنَّهم أحرَقوا بني سَهمِ بنِ مُرَّةَ بالنَّبلِ. يُنظَر: ((توضيح المشتبه)) لابن ناصر الدين (3/182)، ((تبصير المنتبه)) لابن حجر (1/428)، ((تاج العروس)) للزبيدي (25/154). ، فصَبَّحْنا القومَ فهَزْمناهم، ولحِقتُ أنا ورجُلٌ من الأنصارِ رجُلًا منهم، فلمَّا غَشِيناه قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فكَفَّ الأنصاريُّ فطعَنْتُه برُمحي حتَّى قتَلْتُه، فلمَّا قَدِمْنا بلغ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا أُسامةُ، أقتَلْتَه بعدَ ما قال لا إلهَ إلَّا اللهُ؟! قُلتُ: كان مُتعَوِّذًا، فما زال يُكَرِّرُها، حتى تمنَّيتُ أنِّي لم أكُنْ أسلَمْتُ قَبلَ ذلك اليومِ)) [1605] أخرجه البخاري (4269) واللفظ له، ومسلم (96). .
وفي روايةٍ: قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّما قالها خوفًا من السِّلاحِ، قال: أفلَا شقَقْتَ عن قَلْبِه حتَّى تعلَمَ أقالها أم لا؟!)) [1606] أخرجها مسلم (96). .
- تَثَبُّتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحِرصُه على سُؤالِ حاطِبٍ عن سَبَبِ كتابتِه إلى المُشرِكين:
عن عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((بعَثَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبا مَرثَدٍ الغَنَويَّ، والزُّبَيرَ بنَ العَوَّامِ، وكُلُّنا فارِسٌ، قال: انطَلِقوا حتَّى تأتوا روضةَ خاخٍ [1607] روضةُ خاخٍ: موضِعٌ بَيْنَ مكَّةَ والمدينةِ بقُربِ المدينةِ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 55). ؛ فإنَّ بها امرأةً من المُشرِكين، معها كتابٌ من حاطِبِ بنِ أبي بَلتَعةَ إلى المُشرِكين)) ... وفيه: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما حمَلَك على ما صنَعْتَ؟! قال حاطِبٌ: واللهِ ما بي ألَّا أكونَ مؤمِنًا باللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أردْتُ أن يكونَ لي عندَ القومِ يدٌ يدفَعُ اللهُ بها عن أهلي ومالي، وليس أحَدٌ من أصحابِك إلَّا له هناك من عشيرتِه مَن يدفَعُ اللهُ به عن أهلِه ومالِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صدَقَ، ولا تقولوا له إلَّا خيرًا)) [1608] أخرجه البخاري (3983) واللفظ له، ومسلم (2494). .
- النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يقاتِلُ أحَدًا من الكُفَّارِ إلَّا بعدَ التَّثَبُّتِ بأنَّهم لا يقيمونَ شعائِرَ الإسلامِ:
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا غزا بنا قومًا لم يكُنْ يغزو بنا حتَّى يُصبِحَ ويَنظُرَ، فإن سَمِع أذانًا كَفَّ عنهم، وإن لم يسمَعْ أذانًا أغار عليهم) [1609] أخرجه البخاري (610). .
قولُه: (وينظُرُ): (أي: كان يتَثَبَّتُ فيه ويحتاطُ في الإغارةِ؛ حَذَرًا من أن يكونَ فيهم مُؤمِنٌ فيُغيرَ عليه غافِلًا عنه جاهِلًا بحالِه) [1610] ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (8/ 2698). .
ج- نماذِجُ من التَّثَبُّتِ عِندَ الصَّحابةِ:
الصَّحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم أحرَصُ النَّاسِ على امتثالِ أوامِرِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بالتَّثَبُّتِ، وعَدَمِ اتِّباعِ ما لا دليلَ عليه؛ فكانوا رَضِيَ اللَّهُ عنهم مثالًا في التَّثَبُّتِ والتَّحَرِّي والاحتياطِ، وكانوا يَبذُلون غايةَ جُهدِهم في سَبيلِ تحقيقِ ذلك.
- جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما يسافِرُ إلى الشَّامِ مَسيرةَ شَهرٍ ليتَثَبَّتَ من حديثٍ سَمِعَه عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
 عن عبدِ اللهِ بنِ محمَّدِ بنِ عَقيلٍ، أنَّه سَمِع جابِرَ بنَ عبدِ اللَّهِ، يقولُ: بلغني حديثٌ عن رجُلٍ سمِعَه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاشتريتُ بعيرًا، ثم شدَدْتُ عليه رَحْلي، فسِرْتُ إليه شَهرًا، حتَّى قَدِمتُ عليه الشَّامَ، فإذا عبدُ اللهِ بنُ أُنَيسٍ، فقُلتُ للبوَّابِ: قُلْ له: جابِرٌ على البابِ، فقال: ابنُ عبدِ اللَّهِ؟ قلتُ: نعم، فخرَج يطَأُ ثوبَه فاعتَنَقني واعتنَقْتُه، فقُلتُ: حديثًا بلغَني عنك أنَّك سمِعْتَه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القِصاصِ، فخَشِيتُ أن تموتَ أو أموتَ قبل أن أسمعَه، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ -أو قال: العبادُ- عُراةً غُرْلًا بُهمًا. قال: قُلْنا: وما بُهْمًا؟ قال: ليس معهم شيءٌ، ثمَّ يناديهم بصَوتٍ يَسمَعُه مَن بَعُد كما يَسمَعُه مَن قَرُب: أنا المَلِكُ، أنا الدَّيَّانُ، ولا ينبغي لأحَدٍ من أهلِ النَّارِ أن يدخُلَ النَّارَ وله عِندَ أحدٍ من أهلِ الجنَّةِ حَقٌّ حتَّى أُقِصَّه منه، ولا ينبغي لأحَدٍ من أهلِ الجنَّةِ أن يدخُلَ الجنَّةَ ولأحَدٍ من أهلِ النَّارِ عِندَه حَقٌّ حتَّى أُقِصَّه منه، حتَّى اللَّطمةَ. قال: قُلْنا: كيف وإنَّا إنَّما نأتي اللهَ عزَّ وجَلَّ عُراةً غُرلًا بُهمًا؟! قال: بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ)) [1611] رواه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ التَّمريضِ مختَصَرًا قبلَ حديث (7481)، وأخرجه موصولًا أحمد (16042) واللفظ له، والطبراني (14/275) (14914). صحَّحه الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (514)، وحسَّنه ابنُ القيم في ((مختصر الصواعق المُرسَلة)) (489)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (3638)، وحَسَّنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/218)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/354). .
- عُمَرُ بنُ الخطَّابِ يتَثَبَّتُ من شكوى أهلِ حِمصَ من عامِلِه سَعيدِ بنِ عامِرِ بنِ حِذْيَمٍ:
عن خالِدِ بنِ مَعْدانَ، قال: (استعمَلَ علينا عُمَرُ بنُ الخطَّابِ بحِمصَ سعيدَ بنَ عامِرِ بنِ حِذْيَمٍ الجُمَحيَّ، فلمَّا قَدِم عُمَرُ بنُ الخطَّابِ حِمصَ قال: يا أهلَ حِمصَ، كيف وجَدْتُم عامِلَكم؟ فشَكَوه إليه -وكان يُقالُ لأهلِ حِمصَ: الكُوَيفةُ الصُّغرى؛ لشِكايتِهم العُمَّالَ- قالوا: نشكو أربعًا: لا يخرُجُ إلينا حتَّى يتعالى النَّهارُ، قال: أعظِمْ بها! قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيبُ أحدًا بليلٍ، قال: وعظيمةٌ! قال: وماذا؟ قالوا: وله يومٌ في الشَّهرِ لا يخرُجُ فيه إلينا، قال: عظيمةٌ! قال: وماذا؟ قالوا: يَغنِظُ الغَنظةَ بَيْنَ الأيَّامِ -يعني تأخُذُه موتةٌ [1612] الموتةُ: الغَشيُ وفُتورٌ في العَقلِ؛ لأنَّه يحدُثُ عنه سكونٌ كالموتِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (5/ 106). - قال: فجَمَع عُمَرُ بَيْنَهم وبينَه، وقال: اللَّهُمَّ لا تُفَيِّلْ رأيي فيه اليومَ، ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرُجُ إلينا حتَّى يتعالى النَّهارُ، قال: واللهِ إن كُنتُ لأكرَهُ ذِكْرَه! ليس لأهلي خادِمٌ، فأعجِنُ عجيني ثمَّ أجلِسُ حتَّى يختَمِرَ ثمَّ أخبِزُ خُبزي، ثمَّ أتوضَّأُ ثمَّ أخرُجُ إليهم. فقال: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يجيبُ أحَدًا بليلٍ، قال: ما تقولُ؟ قال: إنْ كُنتُ لأكرَهُ ذِكْرَه! إنِّي جعَلْتُ النَّهارَ لهم، وجعَلْتُ اللَّيلَ للهِ عزَّ وجَلَّ، قال: وما تشكون؟ قالوا: إنَّ له يومًا في الشَّهرِ لا يخرُجُ إلينا فيه، قال: ما تقولُ؟ قال: ليس لي خادِمٌ يَغسِلُ ثيابي، ولا لي ثيابٌ أُبَدِّلُها، فأجلِسُ حتَّى تَجِفَّ، ثمَّ أدلُكُها ثمَّ أخرُجُ إليهم من آخِرِ النَّهارِ. قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يَغنِظُ الغَنظةَ بَيْنَ الأيَّامِ، قال: ما تقولُ: قال: شَهِدتُ مَصرَعَ خُبَيبٍ الأنصاريِّ بمكَّةَ وقد بَضَعَت قرَيشٌ لحمهَ، ثمَّ حملوه على جَذعةٍ، فقالوا: أتحِبُّ أنَّ محمَّدًا مكانَك؟ فقال: واللهِ ما أحِبُّ أنِّي في أهلي وولدي وأنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِيكَ بشوكةٍ! ثمَّ نادى: يا محمَّدُ! فما ذكَرْتُ ذلك اليومَ وتَرْكي نُصرتَه في تلك الحالِ، وأنا مُشرِكٌ لا أؤمِنُ باللهِ العظيمِ، إلَّا ظَنَنتُ أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لا يغفِرُ لي بذلك الذَّنبِ أبدًا! قال: فتُصيبني تلك الغَنظةُ. فقال عُمَرُ: الحمدُ للهِ الذي لم يُفَيِّلْ [1613] أي: يخطِئُ ويَضعُفُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 535). فِراستي! فبَعَث إليه بألفِ دينارٍ، وقال: استَعِنْ بها على أمرِك، فقالت امرأتُه: الحمدُ للهِ الذي أغنانا عن خِدمتِك، فقال لها: فهل لكِ في خيرٍ مِن ذلك؟ ندفَعُها إلى من يأتينا بها أحوَجَ ما نكونُ إليها! قالت: نعم، فدعا رجلًا من أهلِ بيتِه يَثِقُ به فصَرَّها صُرَرًا، ثمَّ قال: انطَلِقْ بهذه إلى أرمَلةِ آلِ فُلانٍ، وإلى يتيمِ آلِ فلانٍ، وإلى مسكينِ آلِ فلانٍ، وإلى مُبتلى آلِ فُلانٍ، فبَقِيَت منها ذُهَيبةٌ، فقال: أنفِقي هذه، ثمَّ عاد إلى عَمَلِه، فقالت: ألا تشتري لنا خادِمًا! ما فَعَل ذلك المالُ؟! قال: سيأتيكِ أحوَجَ ما تكونينَ!) [1614] يُنظَر: ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (1/256، 257). .
- تَثَبُّتُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما في حديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
عن مجاهِدٍ، قال: جاء بشيرٌ العَدَويُّ إلى ابنِ عَبَّاسٍ، فجعَل يحدِّثُ، ويقولُ: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجعل ابنُ عبَّاسٍ لا يأذَنُ لحديثِه، ولا ينظُرُ إليه، فقال: يا ابنَ عبَّاسٍ، ما لي لا أراك تسمَعُ لحديثي، أحَدِّثُك عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا تَسمَعُ؟! فقال ابنُ عبَّاسٍ: (إنَّا كُنَّا مرَّةً إذا سَمِعْنا رجلًا يقولُ: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابتدَرَتْه أبصارُنا، وأصغَينا إليه بآذانِنا، فلمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعبَ والذَّلولَ، لم نأخُذْ من النَّاسِ إلَّا ما نَعرِفُ!) [1615] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/13). .

انظر أيضا: