موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نماذِجُ مِن صُوَرِ الاحترامِ والتَّوقيرِ عِندَ الصَّحابةِ


توقيرُ الصَّحابةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
قال اللَّه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ [النور: 62] .
1- عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ، ومَرْوانَ بنِ الحَكَمِ في حديثِ صُلحِ الحُدَيبيَةِ: (ثمَّ إنَّ عُروةَ جَعَل يرمُقُ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعينيه، قال: فواللَّهِ ما تنَخَّم رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نُخامةً إلَّا وقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ منهم، فدَلَك بها وَجْهَه وجِلْدَه! وإذا أمَرَهم ابتَدَروا أمرَه، وإذا توضَّأ كادوا يقتَتِلون على وَضوئِه، وإذا تكَلَّم خَفَضوا أصواتَهم عندَه، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له، فرَجَع عُروةُ إلى أصحابِه، فقال: أيْ قَومِ، واللَّهِ لقد وفَدتُ على الملوكِ، ووفَدتُ على قَيصَرَ وكِسرى والنَّجاشيِّ، واللَّهِ إنْ رأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُه أصحابُه ما يُعَظِّمُ أصحابُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم محمَّدًا، واللَّهِ إنْ تنخَّمَ نُخامةً إلَّا وقَعَت في كَفِّ رجُلٍ منهم، فدَلَك بها وَجْهَه وجِلدَه، وإذا أمَرهم ابتدَروا أمرَه، وإذا توضَّأ كادوا يقتَتِلون على وَضوئِه، وإذا تكَلَّم خَفَضوا أصواتَهم عندَه، وما يُحِدُّون إليه النَّظَرَ تعظيمًا له) [71] أخرجه البخاري (2731، 2732).                                                               .
وفي القِصَّةِ نفسِها أنَّ عُروةَ بنَ مَسعودٍ (جَعَل يُكَلِّمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكلَّما تكَلَّم أخَذ بلِحيتِه، والمُغيرةُ بنُ شُعبةَ قائِمٌ على رأسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعه السَّيفُ وعليه المِغفَرُ، فكُلَّما أهوى عُروةُ بيَدِه إلى لحيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَرَب يَدَه بنَعلِ السَّيفِ، وقال له: أخِّرْ يَدَك عن لحيةِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [72] أخرجه البخاري (2731، 2732). .
2- عن عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (وما كانَ أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ من رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أجَلَّ في عَينِي منه، وما كُنتُ أُطيقُ أن أملأَ عَينَيَّ منه إجلالًا له، ولو سُئِلتُ أن أصِفَه ما أطَقتُ؛ لأنِّي لم أكُنْ أملأُ عَينَيَّ منه) [73] أخرجه مسلم (121). .
- وعن أبي أيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَزَل عليه، فنَزَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في السُّفْلِ، وأبو أيُّوبَ في العُلْوِ، فانتبه أبو أيُّوبَ ذاتَ ليلةٍ، فقال: نمشي فوقَ رأسِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! فتنَحَّوا، فباتوا في ناحيةٍ، ثمَّ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: السُّفْلُ أرفَقُ، فقال: لا أعلو سَقيفةً أنت تحتَها، فتحوَّل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في العُلْوِ، وأبو أيُّوبَ في السُّفْلِ، وكان يصنَعُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طعامًا، فإذا رُدَّ إليه سألَ عن موضِعِ أصابعِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيتتَبَّعُ موضِعَ أصابعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصَنَع له طعامًا فيه ثُومٌ، فلمَّا رُدَّ إليه سأل عن موضِعِ أصابعِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقيل له: إنَّه لم يأكُلْ منه، فصَعِدَ إليه فقال: أهو حرامٌ؟ قال: لا، ولكنِّي أكرَهُه، قال: فإنِّي أكرَهُ ما تكرَهُ، أو ما كَرِهْتَ)) [74] أخرجه مسلم (2053). .
- وعن البراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: (إنْ كان ليأتي عَلَيَّ السَّنةُ أريدُ أن أسأَلَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شَيءٍ فأتهَيَّبُ منه) [75] أخرجه أبو يعلى كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) للبوصيري (1/239) واللفظ له، والروياني في ((المسند)) (308). صحَّح إسناده أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/156). .
توقيرُ الصَّحابةِ بعضِهم بعضًا:
قال اللَّهُ تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] .
1- عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ من الشَّجَرِ شَجَرةً لا يسقُطُ وَرَقُها، وإنَّها مِثلُ المُسلِمِ، فحَدِّثوني ما هي؟ فوقع النَّاسُ في شَجَرِ البوادي، قال عبدُ اللهِ: ووقع في نفسي أنَّها النَّخلةُ، فاستحَيَيتُ. ثمَّ قالوا: حَدِّثْنا ما هي يا رسولَ اللهِ؟ قال: فقال: هي النَّخلةُ. قال: فذَكَرْتُ ذلك لعُمَرَ، قال: لأن تكونَ قُلتَ: هي النَّخلةُ، أحَبُّ إليَّ مِن كذا وكذا)) [76] رواه البخاري (61)، ومسلم (2811) واللفظ له. . فابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ما منعه من الكلامِ إلَّا احترامُه لأصحابِ رَسولِ اللَّهِ وتوقيرِه لهم فإنَّه لمَّا رآهم سكَتوا سكَتَ ولم يتكَلَّمْ بَيْنَ أيديهم. واللَّهُ أعلَمُ.
2- عن سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: (لقد كنتُ على عَهدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غلامًا، فكنتُ أحفَظُ عنه، فما يمنعُني من القولِ إلَّا أنَّ هاهنا رجالًا هم أسَنُّ منِّي) [77] أخرجه مسلم (964). .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: (خرجتُ مع جريرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ البَجَليِّ في سَفَرٍ فكان يَخدُمُني، فقُلتُ له: لا تفعَلْ، فقال: إنِّي قد رأيتُ الأنصارَ تصنَعُ برَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا، آليتُ ألَّا أصحَبَ أحدًا منهم إلَّا خدَمتُه) [78] أخرجه البخاري (2888)، ومسلم (2513) واللفظ له. .
3- عن أبي سَلَمةَ، عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: (أنَّه أخَذ برِكابِ زَيدِ بنِ ثابِتٍ، فقال له: تَنَحَّ يا ابنَ عَمِّ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّا هكذا نفعَلُ بكُبَرائِنا وعُلَمائِنا) [79] أخرجه الحاكم (5785)، والبيهقي (12558). صحَّح إسنادَه الحاكم على شرط مسلم، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (2/437). وأخرجه من طريقٍ آخَرَ الطبراني (5/107) (4746)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (2907)، والبيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (7596). صحَّح إسنادَه ابن حجر في ((الإصابة)) (1/561)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/348): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ غيرَ رَزينٍ الرُّمَّانيِّ وهو ثقةٌ، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (361): إسنادُه رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. .
وعن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: (لمَّا قُبِض رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالت الأنصارُ: مِنَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ. فأتاهم عُمَرُ فقال: ألستُم تعلَمونَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أمَر أبا بكرٍ أن يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، فأيُّكم تطيبُ نفسُه أن يتقَدَّمَ أبا بكرٍ؟ قالوا نعوذُ باللَّهِ أن نتقَدَّمَ أبا بكرٍ) [80] أخرجه النسائي (777) واللفظ له، وأحمد (3765). حسَّنه ابنُ حجر في ((موافقة الخُبْر الخَبَر)) (1/151)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (854)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (4423)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/323)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (777)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3765)، وجوَّده الذهبي في ((المهذب)) (6/3253). .
- وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: (لمَّا قُبِض رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُلتُ لرجُلٍ من الأنصارِ: هَلُمَّ فلْنَسألْ أصحابَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّهم اليومَ كثيرٌ، فقال: واعجَبًا لك يا ابنَ عبَّاسٍ! أترى النَّاسَ يفتَقِرون إليك وفي النَّاسِ مِن أصحابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن فيهم؟! قال: فتركتُ ذاك وأقبلتُ أسألُ أصحابَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كان يبلُغُني الحديثُ عن الرَّجُلِ فآتي بابَه وهو قائِلٌ فأتوسَّدُ ردائي على بابِه يَسفي الرِّيحُ عَلَيَّ من التَّرابِ، فيخرُجُ فيراني فيقولُ: يا ابنَ عَمِّ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما جاءَ بك؟ هلَّا أرسَلْتَ إليَّ فآتيَك؟ فأقول: لا، أنا أحَقُّ أن آتيَك، قال: فأسألُه عن الحديثِ، فعاش هذا الرَّجُلُ الأنصاريُّ حتَّى رآني وقد اجتمَع النَّاسُ حولي يسألوني، فيقولُ: هذا الفتى كان أعقَلَ منِّي!) [81] أخرجه الدارمي (570)، والطبراني (10/300) (10592)، والحاكم (363) واللفظ له. صحَّحه الحاكم على شرط البخاري، وصحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (3/343)، ووثَّق رجاله البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (1/212)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/280): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. ورُوِيَ بلَفظِ: عن أبي سَلَمةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: وجَدتُ عامَّةَ عِلمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ هذا الحيِّ من الأنصارِ، فإن كنتُ لآتي بابَ أحَدِهم فأَقيلُ بابَه، ولو شِئتُ أن يؤذَنَ لي عليه لآذَنَ لي بقرابتي من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنِّي كُنتُ أبتغي بذلك طِيبَ نفسِه. رواه زهير في ((العلم)) (133)، والفسوي في ((المعرفة والتاريخ)) (1/540)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن)) (674) واللفظ له. وجوَّد إسنادَه الألباني في ((العلم)) (133). .
توقيرُ أمِّ الدَّرداءِ لزَوجِها:
- عن أمِّ الدَّرداءِ قالت: حدَّثني سَيِّدي أنَّه سَمِع رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن دعا لأخيه بظَهرِ الغَيبِ قال الملَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمِثلٍ)) [82] أخرجه مسلم (2732). .
قال القاضي عِياضٌ: (وقولُ أمِّ الدَّرداءِ: حدَّثني سيِّدي أنَّه سمع رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يعنى أبا الدَّرداءِ. فيه جوازُ دعوى المرأةِ زَوجَها سيِّدي، وتعظيمُ المرأةِ زوجَها وتوقيرُه) [83] ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (8/ 229). .
وقالت امرأةُ سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ: (ما كُنَّا نُكَلِّمُ أزواجَنا إلَّا كما تُكَلِّمون أمراءَكم: أصلحَك اللَّهُ، عافاك اللَّهُ) [84] أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 198). .

انظر أيضا: