موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- نماذِجُ من التَّأنِّي عندَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


تأنِّي أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ:
قال ابنُ عبَّاسٍ: ((لَمَّا بلَغَ أبا ذَرٍّ مَبعَثُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال لأخيه: اركَبْ إلى هذا الوادي فاعلَمْ لي عِلمَ هذا الرَّجُلِ الذي يَزعُمُ أنَّه نبيٌّ يأتيه الخَبَرُ من السَّماءِ، واسمَعْ من قولِه ثمَّ ائتِني، فانطلَق الأخُ حتَّى قَدِمَه، وسَمِع من قَولِه، ثمَّ رَجَع إلى أبي ذَرٍّ، فقال له: رأيتُه يأمُرُ بمكارمِ الأخلاقِ، وكلامًا ما هو بالشِّعرِ، فقال: ما شفَيْتَني ممَّا أردتُ، فتزَوَّدَ وحَمَل شَنَّةً [1487] الشَّنَّةُ: الخَلقُ من كُلِ آنيةٍ صُنِعَت من جِلدٍ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (13/241). له فيها ماءٌ، حتَّى قَدِم مَكَّةَ، فأتى المَسجِدَ فالتَمَس النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا يَعرِفُه، وكَرِه أن يسألَ عنه حتَّى أدركَه بعضُ اللَّيلِ، فاضطَجَع فرآه عليٌّ فعرَفَ أنَّه غريبٌ، فلمَّا رآه تَبِعَه فلم يسأَلْ واحِدٌ منهما صاحِبَه عن شيءٍ حتَّى أصبَح، ثمَّ احتَمَل قِربَتَه وزاده إلى المسجِدِ، وظَلَّ ذلك اليومَ ولا يراه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أمسى، فعاد إلى مَضجَعِه، فمَرَّ به عليٌّ، فقال: أمَا نال للرَّجُلِ أن يَعلَمَ مَنزِلَه؟ فأقامه فذَهَب به معه، لا يسألُ واحِدٌ منهما صاحِبَه عن شيءٍ، حتى إذا كان يومُ الثَّالِثِ، فعاد عليٌّ على مِثلِ ذلك، فأقام معه ثمَّ قال: ألَا تحَدِّثُني ما الذي أقدَمَك؟ قال: إنْ أعطَيتَني عهدًا وميثاقًا لَتُرشِدَنِّي فَعَلْتُ، ففَعَل فأخبَرَه، قال: فإنَّه حَقٌّ، وهو رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا أصبَحْتَ فاتْبَعْني، فإنِّي إن رأيتُ شيئًا أخاف عليك قُمتُ كأنِّي أريقُ الماءَ، فإن مَضَيتُ فاتْبَعْني حتى تدخُلَ مَدخَلي، ففَعَل، فانطَلَق يقفوه حتَّى دخل على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودَخَل معه، فسَمِع من قَولِه وأسلَمَ مكانَه)) [1488] رواه مطوَّلًا البخاري (3861)، واللفظ له، ومسلم (2474). .
فنجِدُ في هذه القِصَّةِ أنَّ أبا ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه لم يُظهِرْ ما يريدُه حتَّى يتحصَّلَ على بُغيتِه، وقد تأنَّى رَضِيَ اللهُ عنه في البحثِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والسَّؤالِ عنه؛ حتَّى لا تعلَمَ به قُرَيشٌ، وتَثْنيه عن هدَفِه الذي من أجلِه تحمَّلَ المشاقَّ والمتاعِبَ.

انظر أيضا: