موسوعة الأخلاق والسلوك

ثاني عَشَرَ: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


علاماتٌ تدُلُّ على الكذَّابِ:
قال الماوَرْديُّ: (واعلَمْ أنَّ للكذَّابِ قبلَ خِبرتِه أماراتٍ دالَّةً عليه.
فمنها: أنَّك إذا لقَّنْتَه الحديثَ تلقَّنَه، ولم يكُنْ بَيْنَ ما لقَّنْتَه وبينَ ما أورده فَرقٌ عِندَه.
ومنها: أنَّك إذا شكَّكْتَه فيه تشكَّك، حتى يكادَ يرجِعُ فيه، ولولاك ما تخالجَه الشَّكُّ فيه.
ومنها: أنَّك إذا ردَدْتَ عليه قولَه حُصِر وارتبَك، ولم يكُنْ عندَه نُصرةُ المحتجِّين، ولا برهانُ الصَّادقين. ولذلك قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: الكذَّابُ كالسَّرابِ.
ومنها: ما يَظهَرُ عليه من ريبةِ الكذَّابين ويَنُمُّ عليه من ذلَّةِ المتوهِّمين؛ لأنَّ هذه أمورٌ لا يمكِنُ الإنسانَ دفعُها عن نفسِه؛ لما في الطَّبعِ من آثارِها؛ ولذلك قالت الحُكَماءُ: العينانِ أنَمُّ من اللِّسانِ. وقال بعضُ البُلَغاءِ: الوجوهُ مرايا تريك أسرارَ البرايا.
وقال بعضُ الشُّعراءِ:
تريك أعينُهم ما في صُدورِهم
إنَّ العُيونَ يؤدِّي سِرَّها النَّظَرُ
وإذا اتَّسم بالكَذِبِ نُسِبت إليه شوارِدُ الكَذِبِ المجهولةُ، وأضيفَت إلى أكاذيبِه زياداتٌ مُفتَعَلةٌ، حتَّى يصيرَ الكاذِبٌ مكذوبًا عليه، فيَجمَعَ بَيْنَ معرَّةِ الكَذِبِ منه ومضَرَّةِ الكَذِبِ عليه) [6179] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 264، 265). .
إبراهيمُ عليه السَّلامُ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لم يكذِبْ إبراهيمُ عليه السَّلامُ إلَّا ثلاثَ كَذْباتٍ، ثِنْتَينِ منهن في ذاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ قولُه: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] ، وقولُه: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء: 63] . وقال: بينا هو ذاتَ يومٍ وسارةُ إذ أتى على جبَّارٍ من الجبابرةِ، فقيل له: إنَّ هاهنا رجلًا معه امرأةٌ من أحسَنِ النَّاسِ، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: مَن هذه؟ قال: أختي، فأتى سارَةَ قال: يا سارَةُ، ليس على وجهِ الأرضِ مُؤمِنٌ غيري وغيرُك، وإنَّ هذا سألني فأخبَرْتُه أنَّك أختي، فلا تُكَذِّبيني، فأرسَلَ إليها، فلمَّا دخلت عليه ذهب يتناوَلُها بيَدِه فأُخِذَ! فقال: ادعي اللهَ لي ولا أضُرُّكِ، فدَعَت اللهَ فأُطلِقَ، ثمَّ تناوَلها الثَّانيةَ فأُخِذَ مِثلَها أو أشَدَّ! فقال: ادعي اللهَ لي ولا أضُرُّكِ، فدَعَت فأُطلِقَ، فدعا بعضَ حَجَبَتِه، فقال: إنَّكم لم تأتوني بإنسانٍ، إنَّما أتيُتموني بشَيطانٍ! فأخدَمَها هاجَرَ، فأتَتْه وهو قائمٌ يُصَلِّي، فأومأ بيَدِه: مَهْيَا؟ قالت: ردَّ اللهُ كيدَ الكافِرِ -أو الفاجرِ- في نحرِه، وأخدَمَ هاجَرَ. قال أبو هُرَيرةَ: تلك أمُّكم يا بني ماءِ السَّماءِ)) [6180] أخرجه البخاري (3358) واللفظ له، ومسلم (2371). ، وما وقَع من نبيِّ اللهِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ ليس بكَذِبٍ ولا يجوزُ الكَذِبُ عليه، ولكِنَّه من المعاريضِ، أخبرهم بأنَّه سقيمٌ في المثالِ، وعلى عُرفِ ابنِ آدَمَ لا بدَّ أن يَسقَمَ ضرورةً، وقيل: أراد على هذا: إنِّي سقيمُ النَّفسِ، أي: مِن أمورِكم وكُفرِكم، فظهر لهم من كلامِه أنَّه أراد سُقمًا بالجَسَدِ حاضِرًا، وهكذا هي المعاريضُ، (وفي تفسيرِ ابنِ الجوزيِّ [6181] ((زاد المسير في علم التفسير)) (3/ 196). في قولِه: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا: المعاريضُ لا تُذَمُّ خُصوصًا إذا احتيجَ إليها) [6182] يُنظَر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 43). ، وأخبر المَلِكَ أنَّه أختُه، وهي أختُه في الدِّينِ. قال القاضي أبو محمَّدٍ: (وهذا التَّأويلُ لا يَرُدُّه الحديثُ وذِكرُ الكَذْباتِ؛ لأنَّه قد يقالُ لها كَذِبٌ على الاتِّساعِ بحسَبِ اعتقادِ المُخبَرِ) [6183] يُنظَر: ((تفسير ابن عطية)) (4/ 478)، ((تفسير الرازي)) (22/161). ، ولكِنْ إن قصَد بكلامِه (معنًى مطابقًا صحيحًا، وقصَد مع ذلك التَّعميةَ على المخاطَبِ وإفهامَه خلافَ ما قصَدَه، فهو صِدقٌ بالنِّسبةِ إلى قَصدِه، كَذِبٌ بالنِّسبةِ إلى إفهامِه، ومن هذا البابِ التَّوريةُ والمعاريضُ، وبهذا أطلق عليها إبراهيمُ الخليلُ عليه السَّلامُ اسمَ الكَذِبِ، مع أنَّه الصَّادقُ في خبرِه ولم يخبِرْ إلَّا صِدقًا، فتأمَّلْ هذا الموضِعَ الذي أشكَل على النَّاسِ، وقد ظهر بهذا أنَّ الكَذِبَ لا يكونُ قطُّ إلَّا قبيحًا، وأنَّ الذي يحسُنُ ويجِبُ إنَّما هو التَّوريةُ، وهي صِدقٌ، وقد يُطلَقُ عليها الكَذِبُ بالنِّسبةِ إلى الإفهامِ لا إلى العنايةِ) [6184] يُنظَر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن قيم الجوزية (2/ 36). .
مَطِيَّةُ الكَذِبِ: زَعَموا
قيل: زَعَموا: مَطِيَّةُ الكَذِبِ. ومعناه: أنَّ الرَّجُلَ إذا أراد المسيرَ إلى بلَدٍ والظَّعنَ في حاجةٍ، رَكِب مطيَّتَه، وسار حتى يقضيَ أرَبَه؛ فشَبَّه ما يقَدِّمُه المتكَلِّمُ أمامَ كلامِه ويتوصَّلُ به إلى غَرَضِه -من قولِه: زعَموا كذا وكذا- بالمطيَّةِ التي يُتوصَّلُ بها إلى الحاجةِ [6185] ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 303). .
وذُكِر عن ابنِ عُمَرَ وشُرَيحٍ أنَّهما قالا: لكُلِّ شيءٍ كُنيةٌ، وكُنيةُ الكَذِبِ: زَعَموا [6186] ((حياة الحيوان الكبرى)) للدميري (2/ 441). .
وذُكِر عن ابنِ عُمَرَ أيضًا أنَّه كان يقولُ: زعَموا: كنايةُ الكَذِبِ. وكان مجاهِدٌ يكرَهُ أن يقولَ الرَّجُلُ: زَعَم فلانٌ [6187] ((زاد المسير في علم التفسير)) لابن الجوزي (4/ 292). . وقال ابنُ عُمَرَ: (زعَموا: زامِلةُ الكَذِبِ) [6188] يُنظَر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/32). .
والزَّعمُ كما يُطلَقُ على الكَذِبِ وعلى المشكوكِ فيه، يُطلَقُ أيضًا على القولِ المحقَّقِ، ويُنزَّلُ كُلُّ موضِعٍ على ما يليقُ به، فزعم ليس مخصوصًا بالكَذِبِ والقولِ المشكوكِ فيه، بل يكونُ أيضًا في القولِ المحقَّقِ والصِّدقِ الذَّى لا شَكَّ فيه، وقد جاء من هذا كثيرٌ في الأحاديثِ، وعن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [6189] ((المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) للنووي (1/170) (5/ 76). ويُنظَر: ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مُفلِح (1/ 33). .

انظر أيضا: