موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشِرًا: حُكمُ الغِيبةِ وما يُباحُ منها وضوابِطُ الإباحةِ


حُكمُ الغِيبةِ:
قال ابنُ كثيرٍ: (والغِيبةُ محَرَّمةٌ بالإجماعِ، ولا يُستثنى من ذلك إلَّا ما رجَحَت مصلحتُه، كما في الجَرحِ والتَّعديلِ، والنَّصيحةِ) [5652] ((تفسير القرآن العظيم)) (7/380). .
وعَدَّ ابن حجر الهيتمي الغِيبةَ من الكبائِرِ؛ حيثُ قال: (الذي دلَّت عليه الدَّلائِلُ الكثيرةُ الصَّحيحةُ الظَّاهرةُ أنَّها كبيرةٌ، لكِنَّها تختَلِفُ عِظَمًا وضِدَّه بحَسَبِ اختِلافِ مَفسدتِها. وقد جعلَها مَن أُوتي جوامِعَ الكَلِمِ عديلةَ غَصبِ المالِ وقَتلِ النَّفسِ، بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ المُسلِمِ على المُسلِمِ حرامٌ: دَمُه، ومالُه، وعِرْضُه)) [5653] رواه مسلم (2564) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، والغَصبُ والقَتلُ كبيرتانِ إجماعًا، فكذا ثَلْمُ العِرْضِ) [5654] ((الزواجر)) (2/555). .
وحُكِيَ الإجماعُ على أنَّها من الكبائِرِ، لكِنْ نُقِل الخِلافُ، وإذا لم يَثبُتِ الإجماعُ فلا أقَلَّ من التَّفصيلِ؛ فمَن اغتاب وليًّا للهِ أو عالِمًا ليس كمَن اغتاب مجهولَ الحالةِ مَثَلًا، وقد قالوا: ضابِطُها ذِكرُ الشَّخصِ بما يَكرَهُ، وهذا يختَلِفُ باختلافِ ما يُقالُ فيه، وقد يشتَدُّ تأذِّيه بذلك، وأذى المُسلِمِ مُحَرَّمٌ [5655] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 470). .
ما يباحُ من الغِيبةِ:
قال النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ الغِيبةَ تُباحُ لغرَضٍ صَحيحٍ شَرعيٍّ لا يمكِنُ الوُصولُ إليه إلَّا بها، وهو سِتَّةُ أبوابٍ:
الأوَّلُ: التَّظَلُّمُ، فيجوزُ للمظلومِ أن يتظَلَّمَ إلى السُّلطانِ والقاضي وغيرِهما ممَّا له ولايةٌ أو قُدرةٌ على إنصافِه من ظالِمِه، فيقولَ: ظلَمَني فلانٌ كذا.
الثَّاني: الاستِعانةُ على تغييرِ المُنكَرِ ورَدِّ العاصي إلى الصَّوابِ، فيقولُ لِمن يرجو قدرتَه على إزالةِ المُنكَرِ: فُلانٌ يَعمَلُ كذا؛ فازجُرْه عنه.
الثَّالِثُ: الاستِفتاءُ، فيقولُ للمُفتي: ظلَمَني أبي، أو أخي، أو زَوجي، أو فلانٌ بكذا.
الرَّابعُ: تحذيرُ المُسلِمين من الشَّرِّ ونصيحتُهم.
الخامِسُ: أن يكونَ مجاهِرًا بفِسقِه أو بِدعتِه، كالمجاهِرِ بشُربِ الخَمرِ، ومُصادرةِ النَّاسِ، وأخذِ المَكْسِ، وغيرِها.
السَّادِسُ: التَّعريفُ، فإذا كان الإنسانُ معروفًا بلَقَبِ الأعمشِ والأعرَجِ والأصَمِّ والأعمى والأحوَلِ، وغيرِهم، جاز تعريفُهم بذلك.
فهذه سِتَّةُ أسبابٍ ذَكَرها العُلَماءُ، وأكثَرُها مجمَعٌ عليها، دلائِلُها من الأحاديثِ الصَّحيحةِ مشهورةٌ) [5656] ((رياض الصالحين)) للنووي (2/182) بتصَرُّفٍ. .
ضوابِطُ إباحةِ الغِيبةِ:
للغِيبةِ التي أباحها الشَّرعُ لأغراضٍ صحيحةٍ ضوابِطُ ينبغي مراعاتُها، ومن هذه الضَّوابِطِ:
(1- الإخلاصُ للهِ تعالى في النِّيَّةِ، فلا تَقُلْ ما أبيحَ لك من الغِيبةِ تشَفِّيًا لغيظٍ، أو نيلًا من أخيك، أو تنقيصًا منه.
2- عدَمُ تعيينِ الشَّخصِ ما أمكنك ذلك.
3- أن تَذكُرَ أخاك بما فيه، بما يباحُ لك، ولا تفتَحْ لنفسِك بابَ الغِيبةِ على مِصراعَيه، فتذكُرَ ما تشتهي نفسُك من عُيوبِه.
4- التَّأكُّدُ من عَدَمِ وُقوعِ مفسَدةٍ أكبَرَ من هذه الفائدةِ) [5657] ((حصائد الألسن)) لحسين العوايشة (89، 90). .
 (ويُشتَرَطُ في هذا البابِ أن تكونَ الحاجةُ ماسَّةً لذلك، وأن يقتَصِرَ النَّاصِحُ من العُيوبِ على ما يُخِلُّ بتلك المصلحةِ خاصَّةً، التي حصلت المشاوَرةُ فيها، أو التي يعتقِدُ النَّاصحُ أنَّ المنصوحَ شَرَع فيها، أو هو على عَزمِ ذلك، فينصَحُه وإن لم يستَشِرْه؛ فإنَّ حِفظَ مالِ الإنسانِ وعِرضِه ودَمِه عليك واجِبٌ، وإن لم يَعرِضْ لك بذلك فالشَّرطُ الأوَّلُ احترازٌ من ذِكرِ عُيوبِ النَّاس ِمُطلَقًا؛ لجوازِ أن يقَعَ بَيْنَهما من المخالطةِ ما يقتضي ذلك، فهذا حرامٌ لا يجوزُ إلَّا عِندَ مَسيسِ الحاجةِ، ولولا ذلك لأبيحَت الغِيبةُ مُطلَقًا؛ لأنَّ الجوازَ قائمٌ في الكُلِّ، والشَّرطُ الثَّاني احترازٌ من أن يُستشارَ في أمرِ الزَّوجِ فيَذكُرَ العيوبَ المُخِلَّةَ بمصلحةِ الزَّواجِ، والعُيوبَ المُخِلَّةَ بالشَّرِكةِ والمساقاةِ، أو يُستشارَ في السَّفَرِ معه فيَذكُرَ العُيوبَ المخِلَّةَ بمصلحةِ السَّفَرِ، والعُيوبَ المُخِلَّةَ بالزَّواجِ؛ فالزِّيادةُ على العيوبِ المخِلَّةِ بما استُشيرَ فيه حرامٌ، مثلًا إن كفى نحوُ: لا يصلُحُ لك، لم يَزِدْ عليه، وإن توقَّف على ذِكرِ عَيبٍ ذَكَرَه، ولا تجوزُ الزِّيادةُ عليه، أو عَيبينِ اقتصر عليهما، وهكذا؛ لأنَّ ذلك كإباحةِ المَيْتةِ للمُضطَرِّ، فلا يجوزُ تناوُلُ شيءٍ منها إلَّا بقَدرِ الضَّرورةِ، ويُشتَرَطُ أن يقصِدَ بذلك بَذْلَ النَّصيحةِ لوَجهِ اللهِ تعالى دونَ حَظٍّ آخَرَ، وكثيرًا ما يَغفُلُ الإنسانُ عن ذلك، فيُلَبِّسُ عليه الشَّيطانُ، ويحمِلُه على التَّكَلُّمِ به حينَئذٍ لا نُصحًا، ويُزَيِّنَ له أنَّه نُصحٌ وخَيرٌ) [5658] ((تهذيب الفروق للقرافي)) لمحمد بن علي بن حسين (4/ 231). .

انظر أيضا: