موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامنًا: التَّوبةُ مِن الغِيبةِ


يجِبُ على مَن وقع في الغِيبةِ التَّوبةُ، بالإقلاعِ عن الغِيبةِ، والنَّدَمِ على فِعلِها، والعَزمِ ألَّا يعودَ إليها، وأن يَستَحِلَّ من اغتابه، ويَطلُبَ عَفوَه عنها، والإبراءَ منها.
قال الغزاليُّ: (اعلَمْ أنَّ الواجِبَ على المغتابِ أن يندمَ ويتوبَ ويتأسَّفَ على ما فَعَله؛ ليَخرُجَ به مِن حَقِّ اللهِ سُبحانَه، ثمَّ يَستَحِلُّ المغتابَ ليُحِلَّه فيَخرُجَ من مَظلمتِه) [5643] ((إحياء علوم الدين)) (3/154). .
ومن أهلِ العِلمِ مَن فَصَّل، فقال: إن كان من اغتابه قد عَلِم بذلك فلا بُدَّ من أن يَستَحِلَّه، أمَّا إذا لم يَعلَمْ فيكفي أن يستغفِرَ له، وأن يُثنيَ عليه في المجالِسِ التي كان يغتابُه فيها؛ فإن كان صاحبُ الغِيبةِ مَيِّتًا أو غائِبًا فقد تعذَّر تحصيلُ البراءةِ منها، لكِنْ قال العُلَماءُ: ينبغي أن يُكثِرَ من الاستغفارِ له والدُّعاءِ، ويُكثِرَ من الحَسَناتِ [5644] يُنظَر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 346)، ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (3/210)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 45). .
قال السَّمَرْقَنديُّ: (قد تكَلَّم النَّاسُ في توبةِ المُغتابِ: هل تجوزُ من غيرِ أن يَستَحِلَّ مِن صاحِبِه؟ قال بعضُهم: يجوزُ، وقال بعضُهم: لا يجوزُ ما لم يَستَحِلَّ مِن صاحِبِه.
وهو عِندَنا على وَجهَينِ: إن كان ذلك القولُ قد بلغ إلى الذي اغتابه، فتوبتُه أن يستَحِلَّ منه، وإن لم يبلُغْ فلْيَستغفِرِ اللهَ تعالى ويُضمِرَ ألَّا يعودَ إلى مِثْلِه.
ورُوِيَ أنَّ رَجُلًا أتى ابنَ سِيرينَ فقال: إنِّي اغتَبْتُك فاجعَلْني في حِلٍّ. فقال: وكيف أحِلُّ ما حرَّم اللهُ؟! فكأنَّه أشار إليه بالاستغفارِ والتَّوبةِ إلى اللهِ تعالى، مع استِحلالِه منه.
فأمَّا إذا لم تبلُغْ إلى صاحِبِه تلك الغِيبةُ، فتوبتُه أن يستغفِرَ اللهَ تعالى ويتوبَ إليه، ولا يخبِرَ صاحِبَه، فهو أحسَنُ؛ لكي لا يشتَغِلَ قَلبُه به) [5645] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 166). .
و(قال حُذيفةُ: كُفَّارةُ مَن اغتَبْتَه أن تستغفِرَ له. وقال عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ لسُفيانَ بنِ عُيَينةَ: التَّوبةُ من الغِيبةِ أن تستغفِرَ لِمن اغتَبْتَه، قال سُفيانُ: بل تستغفِرُه ممَّا قُلتَ فيه، قال ابنُ المبارَكِ: لا تُؤذِه مَرَّتينِ) [5646] ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/398). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (والصَّحيحُ أنَّه لا يحتاجُ إلى إعلامِه، بل يكفيه الاستغفارُ، وذِكرُه بمحاسِنِ ما فيه في المواطِنِ التي اغتابه فيها، وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ وغيرِه. والذين قالوا: لا بُدَّ من إعلامِه جعَلوا الغِيبةَ كالحقوقِ الماليَّةِ، والفَرْقُ بَيْنَهما ظاهِرٌ؛ فإنَّ الحقوقَ الماليَّةَ ينتَفِعُ المظلومُ بعَودِ نظيرِ مَظلمتِه إليه، فإن شاء أخذَها، وإن شاء تصدَّق بها، وأمَّا في الغِيبةِ فلا يمكِنُ ذلك، ولا يحصُلُ له بإعلامِه إلَّا عَكسُ مقصودِ الشَّارعِ... فإنَّه يوغِرُ صَدرَه ويؤذيه إذا سَمِع ما رُمِيَ به، ولعَلَّه يُهَيِّجُ عداوتَه ولا يصفو له أبدًا، وما كان هذا سبيلَه فإنَّ الشَّارِعَ الحكيمَ... لا يبيحُه ولا يُجَوِّزُه فَضلًا عن أن يوجِبَه ويأمُرَ به، ومدارُ الشَّريعةِ على تعطيلِ المفاسِدِ وتقليلِها، لا على تحصيلِها وتكميلِها) [5647] ((الوابل الصيب)) (ص: 219). .

انظر أيضا: