موسوعة الأخلاق والسلوك

سادِسًا: صُوَرُ الغِيبةِ


الغِيبةُ تكونُ في جميعِ الصِّفاتِ الخِلْقيَّةِ والخُلُقيَّةِ، وفي جميعِ أمورِ الدُّنيا والدِّينِ.
قال ابنُ عُثَيمين عن الغِيبةِ هي: (ذِكرُك أخاك بما يَكرَهُ، سواءٌ كان ذلك في خِلقتِه أو خُلُقِه، أو في أحوالِه، أو في عَقلِه، أو في ذَكائِه، أو في غيرِ ذلك) [5633] ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 52). .
وقال الغَزاليُّ: (حَدُّ الغِيبةِ: أن تَذكُرَ أخاك بما يَكرَهُه لو بلَغَه، سواءٌ ذكَرْتَه بنَقصٍ في بدَنِه، أو نَسَبِه، أو في خُلُقِه، أو في فِعلِه، أو في قَولِه، أو في دينِه، أو في دُنياه... حتَّى في ثوِبه، ودارِه، ودابَّتِه.
أمَّا البَدَنُ: فذِكرُك العَمَشَ، والحَوَلَ، والقَرَعَ، والقِصَرَ، والطُّولَ، والسَّوادَ، والصُّفرةَ، وجميعَ ما يُتصوَّرُ أن يوصَفَ به ممَّا يَكرَهُه، كيفما كان.
وأمَّا النَّسَبُ: فبأن تقولَ: أبوه فاسِقٌ، أو خسيسٌ، أو إسكافٌ، أو زَبَّالٌ، أو شيءٌ ممَّا يكرَهُه، كيفما كان.
وأمَّا الخُلُقُ: فبأن تقولَ: هو سَيِّئُ الخُلُقِ، بخيلٌ، مُتكَبِّرٌ، مُراءٍ، شديدُ الغَضَبِ، جَبانٌ، عاجِزٌ، ضعيفُ القَلبِ، متهَوِّرٌ... وما يجري مجراه.
وأمَّا في أفعالِه المتعَلِّقةِ بالدِّينِ: فكقولِك: هو سارِقٌ، أو كذَّابٌ، أو شارِبُ خمرٍ، أو خائنٌ، أو ظالمٌ، أو مُتهاوِنٌ بالصَّلاةِ أو الزَّكاةِ، أو لا يُحسِنُ الرُّكوعَ أو السُّجودَ، أو لا يُحسِنُ قِسمَتَها، أو لا يَحرُسُ صَومَه عن الرَّفَثِ والغِيبةِ والتَّعرُّضِ لأعراضِ النَّاسِ.
وأمَّا فِعلُه المتعَلِّقُ بالدُّنيا: فكقولِك: إنَّه قليلُ الأدَبِ، متهاوِنٌ بالنَّاسِ، أو لا يرى لأحَدٍ على نفسِه حَقًّا، أو يرى لنَفسِه الحَقَّ على النَّاسِ، أو أنَّه كثيرُ الكلامِ، كثيرُ الأكلِ، نَؤومٌ، ينامُ في غيرِ وَقتِ النَّومِ، ويجلِسُ في غيرِ مَوضِعِه.
وأمَّا ثوبُه: فكقَولِك: إنَّه واسِعُ الكُمِّ، طويلُ الذَّيلِ، وَسِخُ الثِّيابِ.
وقال قومٌ: لا غِيبةَ في الدِّينِ؛ لأنَّه ذمُّ ما ذمَّه اللهُ تعالى، فذِكرُه بالمعاصي وذَمُّه بها يجوزُ، بدليلِ ما رُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذُكِرَت له امرأةٌ وكثرةُ صلاحِها وصَومِها، ولكِنَّها تؤذي جيرانَها بلسانِها، فقال: ((هي في النَّار)) [5634] رواه مطولا أحمد (9675)، والحاكم (7304) واللفظ لهما، وابن حبان (5764) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2560)، وصحَّح إسناده الحاكم، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/321)، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/490). ) [5635] ((آفات اللسان)) لأبي حامد الغزالي (ص: 156-157) بتصرُّفٍ يسيرٍ. .
من صُوَرِ الغِيبةِ التي يَغفُلُ عنها كثيرٌ من النَّاسِ:
1- الإصغاءُ للغِيبةِ من بابِ التَّعجُّبِ مِن فِعلِ الذي اغتيبَ.
2- ذِكرُ حالِ الذي اغتيبَ، وإظهارُ التَّألُّمِ والاستياءِ لحالِه، والدُّعاءُ له أمامَ الآخَرينَ.
قال أبو حامدٍ الغَزاليُّ: (وإيَّاك وغِيبةَ القُرَّاءِ المُرائين، وهو أن تُفهِمَ المقصودَ من غيرِ تصريحٍ، فتقولَ: أصلَحَه اللهُ؛ فقد ساءني وغَمَّني ما جرى عليه، فنسألُ اللهَ تعالى أن يُصلِحَنا وإيَّاه! فإنَّ هذا جمعٌ بَيْنَ خبيثينِ؛ أحَدُهما: الغِيبةُ إذا حصل به التَّفهُّمُ، والآخَرُ: تزكيةُ النَّفس ِوالثَّناءُ عليها بالتَّجريحِ لغَيرِك والصَّلاحِ لنَفسِك. ولكِنْ إن كان مقصودُك من قولِك: «أصلحه اللهُ» الدُّعاءَ، فادْعُ له في السِّرِّ، وإن اغتمَمْتَ بسَبَبِه فعلامتُه أنَّك لا تريدُ فضيحتَه وإظهارَ عَيبِه، وفي إظهارِك الغَمَّ بعَيبِه إظهارُ تَعييبِه!) [5636] ((بداية الهداية)) (ص: 53، 54). .
3- أن يقولَ المُستَمِعُ للمُغتابِ: اسكُتْ، لكِنَّ المستَمِعَ لم يُنكِرْ ذلك في قَلبِه، وإنَّما هو مُشتَهٍ بذلك؛ فهذا قد وَقَع في الغِيبةِ ما لم يَكرَهْه بقَلْبِه.
4- أن يَذكُرَ الإنسانُ شخصًا ما ويمدَحَه، ويذكُرَ اهتمامَه والتِزامَه بالدِّينِ، ثمَّ يقولَ: لكِنَّه ابتُلِيَ بما ابتُلينا به كلُّنا من تقصيرٍ وفتورٍ في بعضِ العباداتِ، وهو بهذا يستنقِصُ مِن قَدْرِ الذي اغتِيبَ، وبذلك وقَع في الغِيبةِ.
5- أن يَتكَلَّمَ الإنسانُ بألفاظٍ أو أسلوبٍ يُحاكي فيه الآخَرين، بقَصدِ غِيبتِهم.
6- التَّشبُّهُ بالآخَرين في مِشيتِهم بغَرَضِ السُّخريَّةِ منهم، كأن يمشيَ مُتعَرِّجًا، أو يُغمِضَ إحدَى عينَيه محاكاةً للأعوَرِ، وغيرِها من الحَركاتِ التي توحي بالسُّخريَّةِ.
7- أن يغتابَ الرَّجُلُ أخاه، وإذا أُنكِرَ عليه قال: أنا على استعدادٍ للقَولِ أمامَه! ويُرَدُّ على هذا بردودٍ؛ منها:
أ- أنَّك ذكَرْتَه مِن خَلْفِه بما يَكرَهُ بما فيه، وهذه هي الغِيبةُ.
ب- استِعدادُك للحديثِ أمامَه أمرٌ آخَرُ مُستَقِلٌّ، لم يَرِدْ فيه دليلٌ على أنَّه يسوغُ لك أن تذكُرَ أخاك مِن خَلْفِه بما يَكرَهُ.
8- قولُ القائِلِ في جماعةٍ من النَّاسِ عِندَ ذِكرِ شَخصٍ ما: نعوذُ باللهِ من قِلَّةِ الحياءِ، أو نعوذُ باللهِ من الضَّلالِ، أو نحوَ هذا؛ فإنَّه يجمَعُ بَيْنَ ذَمِّ المذكورِ ومَدحِ النَّفسِ.
9- قولُ القائِلِ: فعَل كذا بعضُ النَّاسِ، أو بعضُ الفُقَهاءِ، أو نحوَ ذلك، إذا كان المخاطَبُ يَفهَمُه بعَينِه؛ لحُصولِ التَّفهيمِ.
10- قولُ الشَّخصِ: فَعَل كذا الأفنديُّ، أو جَنابُ السَّيِّدُ، ونحوَ ذلك، إن كان يقصِدُ التَّنقيصَ منه.
11- قولُهم: هذا صغيرٌ تجوزُ غِيبتُه. وأين الدَّليلُ على تجويزِ هذه الغِيبةِ ما دامتِ النُّصوصُ وردت مُطلَقةً؟!
12- التَّساهُلُ في غِيبةِ العاصي؛ لأنَّ قولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((الغِيبةُ ذِكْرُك أخاك بما يكرَهُ)) [5637] رواه مسلم (2589) مطوَّلًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. يَشمَلُ المُسلِمَ الطَّائِعَ والعاصيَ.
13- قولُك: هذا هِنديٌّ، أو مِصريٌّ، أو فِلَسطينيٌّ، أو أُرْدُنِّيٌّ، أو عَجَميٌّ، أو عَرَبيٌّ، أو بَدَويٌّ، أو قُرَويٌّ، أو إسكافٌ، أو نجَّارٌ، أو حدَّادٌ، إن كان ذلك تحقيرًا أو انتقاصًا [5638] ((حصائد الألسن)) لحسين العوايشة (90، 91)، بتصرُّفٍ يسيرٍ. ويُنظَر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 145). .

انظر أيضا: