موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامنًا: نماذِجُ من الخيانةِ


1- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [التحريم: 10] . قال ابنُ كثيرٍ في قولِه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا (أي: في مخالطتِهم المُسلِمين ومعاشَرتِهم لهم، أنَّ ذلك لا يُجدي عنهم شيئًا ولا ينفَعُهم عِندَ اللهِ، إنْ لم يكُنِ الإيمانُ حاصِلًا في قُلوبِهم، ثمَّ ذكَر المثَلَ، فقال: امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ، أي: نبيَّينِ رسولينِ عِندَهما في صُحبتِها ليلًا ونهارًا، يُؤاكِلانِهما ويضاجِعانِهما ويعاشِرانِهما أشَدَّ العِشرةِ والاختلاطِ فَخَانَتَاهُمَا أي: في الإيمانِ، لم يوافِقاهما على الإيمانِ، ولا صَدَّقاهما في الرِّسالةِ، فلم يُجْدِ ذلك كُلُّه شيئًا، ولا دَفَع عنهما محذورًا؛ ولهذا قال: فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أي: لكُفْرِهما، وَقِيلَ أي: للمَرأتينِ: ادخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وليس المرادُ: فَخَانَتَاهُمَا في فاحشةٍ، بل في الدِّينِ؛ فإنَّ نساءَ الأنبياءِ معصوماتٌ عن الوقوعِ في الفاحِشةِ؛ لحُرمةِ الأنبياءِ) [3290] يُنظَر: ((تفسير القرآن العظيم)) (8/171). .
(وقيل: إنَّ خيانتَهما أنَّ امرأةَ نوحٍ كانت تخبِرُ الكُفَّارَ بأسرارِ نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، تَصِفُه بأنَّه مجنونٌ، وخيانةُ امرأةِ لُوطٍ أنَّها كانت تدُلُّ قومَها على أضيافِ لوطٍ؛ ليفعَلوا بهم الفاحِشةَ، فهما خائنتانِ للأمانةِ التي بَيْنَهما وبَينَ زَوجَيهما من ناحيةِ حِفظِ السِّرِّ، وعَدَمِ الدَّلالةِ على ما عندَهما من الأسرارِ، ومن الأضيافِ وغيرِ ذلك، فهذا هو نوعُ الخيانةِ الواقِعُ. والحاصِلُ: أنَّ هذه الخيانةَ ليست خيانةً في العِرضِ، بل هي إمَّا في الدِّينِ، وإمَّا خيانةٌ في عَدَمِ حِفظِ الأسرارِ) [3291] يُنظَر: ((مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان)) (1/130). .
2- خيانةُ الحَروريَّةِ للخليفةِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه وانسحابُهم من جيشِه بعدَ التَّحكيمِ وبعدَ موقعةِ النَّهروانِ؛ فإنَّ الحَروريَّةَ لمَّا خرجت قالوا: (لا حُكمَ إلَّا للهِ، قال عليٌّ: كَلِمةُ حَقٍّ أُريدَ بها باطِلٌ، إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَف ناسًا، إنِّي لأعرِفُ صفتهَم في هؤلاء، يقولون الحقَّ بألسِنَتِهم لا يجوزُ هذا منهم -وأشار إلى حَلْقِه- مِن أبغَضِ خَلقِ الله إليه منهم أسوَدُ، إحدى يَدَيه طُبيُ شاةٍ، أو حَلَمةُ ثَدْيٍ، فلمَّا قتَلَهم عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: انظُروا، فنَظَروا فلم يجِدوا شيئًا، فقال: ارجِعوا، فواللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، مرَّتينِ، أو ثلاثًا، ثمَّ وجَدوه في خَرِبةٍ، فأَتَوا به حتَّى وَضَعوه بَيْنَ يدَيه) [3292] أخرجه مسلم (1066). .
3- تشَرْذَمَت الأمَّةُ الإسلاميَّةُ في القرنِ السَّابِعِ الهِجريِّ حتَّى جاء المَغولُ التَّتارُ، وعَقَدوا معاهداتِ خيانةٍ مع بعضِ الأمراءِ المُسلِمين ضِدَّ الخلافةِ الإسلاميَّةِ؛ فعَقد هولاكو اتفاقيَّةً مع بدرِ الدِّينِ لُؤلُؤٍ أميرِ الموصِلِ ليتحالَفَ معه، كما عَقَد اتِّفاقَ تحالُفٍ آخَرَ مع كيكاوس الثَّاني سُلطانِ السَّلاجِقةِ الأتراكِ، ثمَّ مع قَلَجِ أرسلانَ الرَّابعِ، وهما في شمالِ العراقِ، وهذا التَّحالُفُ أدَّى إلى حصارِ الخليفةِ العبَّاسيِّ في بغدادَ، كما رضَخَ أيضًا ووقَع في الخيانةِ النَّاصِرُ يوسُفُ أميرُ حَلَبٍ، وقَدَّم فروضَ الطَّاعةِ لهولاكو [3293] يُنظَر: ((التتار من البداية إلى عين جالوت)) راغب السرجاني (ص: 112). !
4- خيانةُ مُؤَيدِ الدِّينِ بنِ العَلْقميِّ وتسهيلُه الطَّريقَ أمامَ المغولِ لاحتلالِ بَغدادَ وإسقاطِ الخلافةِ العباسيَّةِ؛ قال ابنُ تَيميَّةَ: (ووَزيرُ بَغدادَ ابنُ العَلْقميِّ الرَّافِضيُّ هو الذي خامَر على المُسلِمين، وكاتَب التَّتارَ حتى أدخَلَهم أرضَ العِراقِ بالمكرِ والخديعةِ، ونهى النَّاسَ عن قِتالِهم) [3294] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) (28/636 - 638). فسقَطَت بغدادُ.
وابنُ العَلقَميِّ هو محمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ عَليِّ بنِ محمَّدٍ العَلقميُّ، استوزره الخليفةُ المُستَعصِمُ باللهِ سنةَ اثنتَينِ وأربعين وستِّمائةٍ، ولم يكُنْ وزيرَ صِدقٍ ولا مَرضيَّ الطَّريقةِ؛ فإنَّه هو الذي أعان على المُسلِمين.
وكان الوزيرُ ابنُ العَلقَميِّ يجتهِدُ في صَرفِ الجيوشِ وإسقاطِ اسمِهم من الدِّيوانِ، فكانت العساكِرُ في آخِرِ أيامِ المستَنصِرِ قريبًا من مائةِ ألفِ مُقاتِلٍ، فلم يزَلْ يجتَهِدُ في تقليلِهم إلى أن لم يَبْقَ سِوى عَشَرةِ آلافٍ، ثمَّ كاتَب التَّتارَ وأطمَعَهم في أخذِ البلادِ، وسهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحالِ، وكشف لهم ضَعفَ الرِّجالِ، وذلك كُلُّه طمعًا منه أن يُزيلَ السُّنَّةَ بالكُلِّيَّةِ، وأن يُظهِرَ البدعةَ الرَّافضةَ، وأن يقيمَ خليفةً من الفاطميِّينَ، وأن يُبيدَ العُلَماءَ والمُفتِين. وقد رُدَّ كَيدُه في نحرِه، وأذَلَّه واكتَسَب إثمَ مَن قُتِل ببغدادَ من الرِّجالِ والنِّساءِ والأطفالِ [3295] يُنظَر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (13/ 192، 235). .
5- خيانةُ الرَّافِضةِ لأهلِ الإسلامِ، كما قال ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّ أصلَ كُلِّ فِتنةٍ وبَلِيَّةٍ هم الشِّيعةُ ومن انضوى إليهم، وكثيرٌ من السُّيوفِ التي في الإسلامِ إنَّما كان من جهتِهم، وبهم تستَّرت الزَّنادِقةُ... وقد رآهم المُسلِمون بسواحِلِ الشَّامِ وغيرِها إذا اقتتل المُسلِمون والنَّصارى هواهم مع النَّصارى يَنصُرونهم بحسَبِ الإمكانِ، ويَكرَهون فتحَ مَدائِنِهم، كما كَرِهوا فَتحَ عَكَّا وغيرِها، ويختارون إدالتَهم على المُسلِمين، حتَّى إنَّهم لمَّا انكسر المُسلِمون سنةَ غازان سنةَ تِسعٍ وتسعين وخمسِمائة، وخلَت الشَّامُ من جيشِ المُسلِمين عاثوا في البلادِ، وسَعَوا في أنواعٍ من الفسادِ من القَتلِ وأخذِ الأموالِ، وحملِ رايةِ الصَّليبِ، وتفضيلِ النَّصارى على المُسلِمين، وحَملِ السَّبيِ والأموالِ والسِّلاحِ من المُسلِمين إلى النَّصارى بقُبرصَ وغيرِها، فهذا وأمثالُه قد عاينه النَّاسُ، وتواتَر عِندَ من لم يُعايِنْه) [3296] يُنظَر: ((منهاج السنة)) (3/ 243-244). ويُنظَر: ((خيانات الشيعة وأثرها في هزائم الأمة الإسلامية لمحمود محمد عبد الرحمن)) (ص: 29 - 35) ففيه نماذج من خيانة الشِّيعةِ لآلِ البيتِ. .
6- من صُوَرِ الخيانةِ أنَّه بعد أن فَتَح صلاحُ الدِّينِ بيتَ المَقدِسِ رتَّب على أبوابِ البَلَدِ في كُلِّ بابٍ أمينًا من الأمراءِ؛ ليأخُذوا من أهلِه ما استقرَّ عليهم من الفِداءِ؛ لينجوا من الأَسْرِ أو العُبوديَّةِ، فاستعمَلَ بعضٌ من هؤلاء الأمَراءِ الخيانةَ، ولم يؤدُّوا الأمانةَ، بل اقتَسَم الأُمَناءُ الأموالَ، وتفرَّقت أيديَ سَبَا، ولو أدِّيَت فيه الأمانةُ لملأ الخزائِنَ، وعَمَّ النَّاسَ؛ فإنَّه كان فيه على الضَّبطِ سِتُّون ألفَ رَجُلٍ ما بَيْنَ فارسٍ وراجِلٍ سِوى من يَتْبَعُهم من النِّساءِ والوِلدانِ، ولا يَعجَبُ السَّامِعُ من ذلك؛ فإنَّ البَلَدَ كبيرٌ، واجتمع إليه من تلك النَّواحي من عَسْقلانَ وغَيرِها، والدَّارومِ، والرَّملةِ، وغَزَّةَ وغيرِها من القُرى، بحيث امتلأت الطُّرُقُ والكنائِسُ، وكان الإنسانُ لا يقدِرُ أن يمشيَ، ومن الدَّليلِ على كثرةِ الخَلقِ أنَّ أكثَرَهم وزَن ما استقَرَّ من القطيعةِ، وأطلَق باليانُ بنُ بيرزانَ ثمانيةَ عَشَرَ ألفَ رَجُلٍ وَزَن عنهم ثلاثين ألفَ دينارٍ، وبَقِي بعدَ هذا جميعِه من لم يكُنْ معه ما يُعطي، وأُخِذ أسيرًا سِتَّةَ عَشَرَ ألفَ آدَميٍّ ما بَيْنَ رجلٍ وامرأةٍ وصبيٍّ، هذا بالضَّبطِ واليقينِ.
ثمَّ إنَّ جماعةً من الأمراءِ ادَّعى كُلُّ واحدٍ منهم أنَّ جماعةً من رعيَّةِ إقطاعِه مقيمون ببيتِ المقدِسِ، فيُطلِقُهم ويأخُذُ هو قطيعتَهم، وكان جماعةٌ من الأمراءِ يُلبِسون الفِرنجَ زِيَّ الجُندِ المُسلِمين، ويُخرِجونهم، ويأخُذون منهم قطيعةً قَرَّروها، واستوهبَ جماعةٌ من صلاحِ الدِّين عددًا من الفِرنجِ، فوهبهم لهم، فأخَذوا قطيعتَهم، وبالجُملةِ فلم يَصِلْ إلى خزائنِه إلَّا القليلُ [3297] يُنظَر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (10/ 36). .

انظر أيضا: