موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ من الإيثارِ عِندَ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم


ضَرَب الصَّحابةُ أروَعَ أمثلةِ الإيثارِ وأجمَلَها، ومن يتأمَّلْ في قِصَصِ إيثارِهم يحسَبْ ذلك ضَربًا من خيالٍ، لولا أنَّه منقولٌ لنا عن طريقِ الأثباتِ، وبالأسانيدِ الصَّحيحةِ الصَّريحةِ.
وإليك بعضًا من النَّماذِجِ التي تَروي لنا صُوَرًا رائعةً من الإيثارِ:
ضَيفُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَجُلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبَعَث إلى نسائِه، فقلْنَ: ما معنا إلَّا الماءُ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: من يَضُمُّ أو يُضِيفُ هذا؟ فقال رجلٌ من الأنصارِ: أنا. فانطَلَق به إلى امرأتِه، فقال: أكرمي ضيفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقالت: ما عِندَنا إلَّا قوتُ صبياني. فقال: هَيِّئي طعامَكِ، وأصبِحي سِراجَكِ [1091] وأصْبِحي سِراجَكِ: أي: أوقِديه. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/120). ، ونَوِّمي صِبيانَكِ إذا أرادوا عَشاءً! فهَيَّأَت طعامَها، وأصبَحَت سِراجَها، ونَوَّمَت صِبيانَها، ثَّم قامت كأنَّها تُصلِحُ سِراجَها فأطفَأَتْه، فجَعَلَا يُرِيانِه أنَّهما يأُكلانِ فباتا طاوِيَينِ [1092] طاويَينِ، أي: جائِعَينِ. يُنظر: ((مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (3/ 287). ! فلمَّا أصبح غَدا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ضَحِكَ اللهُ اللَّيلةَ أو عَجِبَ مِن فعِالِكما! فأنزل اللَّهُ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] )) [1093] أخرجه البخاري (3798) واللَّفظُ له، ومسلم (2054). .
الأنصارُ إيثارٌ مُنقَطِعُ النَّظيرِ:
أقبَل المُهاجِرون إلى المدينةِ لا يَملِكون من أمرِ الدُّنيا شيئًا، قد تركوا أموالَهم وما يَملِكون خَلْفَ ظُهورِهم، وأقبَلوا على ما عِندَ اللهِ عزَّ وجَلَّ يَرجُون رحمتَه ويخافون عذابَه؛ فاستقبَلَهم الأنصارُ الذين تبَوَّؤوا الدَّارَ، وأكرَموهم أيَّما إكرامٍ، ولم يبخَلوا عليهم بشَيءٍ من حُطامِ الدُّنيا، في صُورةٍ يَعجِزُ عن وَصِفها اللِّسانُ، ويَضعُفُ عن تعبيرِها البيانُ!
- عن أنَسِ بنِ مالك رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((لمَّا قدِم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ أتاه المُهاجِرونَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ما رأينا قومًا أبذَلَ مِن كثيرٍ ولا أحسَنَ مُواساةً مِن قليلٍ مِن قومٍ نزَلْنا بَينَ أظهُرِهم! لقد كفَوْنا المُؤنةَ، وأشرَكونا في المَهنَأِ [1094] المَهْنَأُ: ما يقومُ بالكفايةِ في إصلاحِ المعيشةِ، وقيل: ما يأتيك بلا تَعَبٍ ولا مشقَّةٍ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (1/184)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/ 2012). حتَّى خِفْنا أن يذهَبوا بالأجرِ كلِّه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، ما دعَوتُم اللهَ لهم، وأثنَيتُم بالأجرِ عليهم)) [1095] رواه أبو داود (4812)، والترمذي (2487) واللَّفظُ له، وأحمد (13075). صحَّحه الترمذي، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2368)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (117)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/249). .
- وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (قَدِمَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، فآخى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَه وبَينَ سَعدِ بنِ الرَّبيعِ الأنصاريِّ، فعَرَض عليه أن يناصِفَه أهلَه ومالَه، فقال عبدُ الرَّحمنِ: بارَك اللهُ لك في أهلِك ومالِك، دُلَّني على السُّوقِ) [1096] أخرجه البخاري (2048) مُطَوَّلًا. .
إيثارٌ حتَّى بالحياةِ:
وقد وصَل الحالُ بصَحابةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن آثَروا إخوانَهم بحياتِه! وهذا غايةُ الجودِ، ومُنتهى البَذلِ والعَطاءِ.
- ففي غَزوةِ اليَرموكِ قال عِكْرِمةُ بنُ أبي جَهلٍ: قاتَلْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مواطِنَ، وأفِرُّ منكم اليومَ؟! ثمَّ نادى: مَن يبايِعُ على الموتِ؟ فبايَعَه عَمُّه الحارِثُ بنُ هِشامٍ، وضِرارُ بنُ الأزوَرِ في أربَعِمائةٍ من وجوهِ المُسلِمين وفُرسانِهم، فقاتلوا قُدَّامَ فُسطاطِ خالِدٍ حتَّى أُثبِتوا جميعًا جِراحًا، وقُتِل منهم خَلقٌ، منهم ضِرارُ بنُ الأزوَرِ -رَضِيَ اللهُ عنهم-... فلمَّا صُرِعوا من الجِراحِ استَسْقَوا ماءً، فجِيءَ إليهم بشَربةِ ماءٍ، فلمَّا قُرِّبَت إلى أحَدِهم نَظَر إليه الآخَرُ، فقال: ادفَعْها إليه. فلمَّا دُفِعَت إليه نَظَر إليه الآخَرُ، فقال: ادفَعْها إليه. فتدافَعوها كُلُّهم من واحدٍ إلى واحدٍ حتَّى ماتوا جميعًا ولم يَشْرَبْها أحَدٌ منهم، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين [1097] ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/15). !
إيثارُ أبي بكرٍ بمالِه:
عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((أمَرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا أن نتصَدَّقَ، فوافَق ذلك مالًا عِندَي، فقُلتُ: اليومَ أسبِقُ أبا بكرٍ إن سبَقْتُه يومًا! فجِئتُ بنِصفِ مالي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيْتَ لأهلِك؟، قُلتُ: مِثْلَه، قال: وأتى أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بكُلِّ ما عِندَه، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيْتَ لأهلِك؟ قال: أبقَيتُ لهم اللهَ ورَسولَه! قُلتُ: لا أسابِقُك إلى شيءٍ أبدًا)) [1098] أخرجه أبو داود (1678) واللفظ له، والترمذي (3675). صحَّحه الترمذي، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1510)، والنووي في ((المجموع)) (6/236). !
صُوَرٌ من إيثارِ أمِّ المؤمِنين عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
- لَمَّا طُعِن أميرُ المؤمِنين عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال لابنِه عبدِ اللَّهِ: (يا عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، اذهَبْ إلى أمِّ المؤمِنين عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها فقُلْ: يقرَأُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عليك السَّلامَ، ثمَّ سَلْها أن أُدفَنَ مع صاحِبي. قالت: كنتُ أريدُه لنفسي، فلأُوثِرَنَّه اليومَ على نفسي! فلمَّا أقبَلَ قال له: ما لَدَيك؟ قال: أذِنَت لك يا أميرَ المؤمنينَ! قال: ما كان شَيءٌ أهَمَّ إليَّ من ذلك المَضجَعِ! فإذا قُبِضْتُ فاحمِلوني، ثمَّ سَلِّموا، ثمَّ قُلْ: يَستأذِنُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فإنْ أَذِنَت لي فادفِنوني، وإلَّا فرُدُّوني إلى مقابِرِ المُسلِمين) [1099] أخرجه البخاري (1392) مطَوَّلًا من حديثِ عَمرِو بنِ ميمونٍ رحمه اللهُ. .
- وعن أمِّ ذَرَّةَ -وكانت تغشى عائِشةَ- قالت: (بَعَث إليها ابنُ الزُّبيرِ بمالٍ في غِرارتَينِ [1100] الغِرارةُ: وِعاءٌ من الخَيشِ ونَحوِه. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (2/ 648). قالت: أُراه ثمانينَ ومِئةَ ألفٍ، فدَعَت بطَبَقٍ وهي يومَئذٍ صائِمةٌ، فجَلَسَت تَقسِمُه بَينَ النَّاسِ، فأمسَت وما عِندَها من ذلك دِرهَمٌ! فلمَّا أمسَت قالت: يا جارِيةُ هَلُمِّي فِطْري. فجاءَتْها بخُبزٍ وزَيتٍ، فقالت لها أمُّ ذَرَّةَ: أمَا استطَعْتِ ممَّا قَسَمْتِ اليومَ أن تشتري لنا بدِرهَمٍ لحمًا نُفطِرُ عليه؟! فقالت لها: لا تُعَنِّفيني، لو كنتِ ذكَّرْتِني لفعَلْتُ!) [1101] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/ 47)، ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (1/ 318). .
- وعن عُروةَ قال: (لقد رأيتُ عائِشةَ تَقسِمُ سَبعينَ ألفًا وهي تُرَقِّعُ دِرْعَها!) [1102] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (2/ 47)، ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (1/ 318). .
ابنُ عُمَرَ نموذَجٌ آخَرُ من نماذِجِ الإيثارِ الفَذَّةِ:
- مَرِضَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما فاشتهى عِنَبًا أوَّلَ ما جاء العِنَبُ، فأرسلَت صَفِيَّةُ بدِرهَمٍ فاشتَرَت عُنقودًا بدِرهَمٍ، فاتَّبَع الرَّسولَ سائِلٌ، فلمَّا أتى البابَ دَخَل، قال السَّائِلُ: السَّائلُ، قال ابنُ عُمَرَ: أعطوه إيَّاه فأعطَوه إيَّاه، ثمَّ أرسلَت بدِرهَمٍ آخَرَ فاشترَت به عُنقودًا، فاتَّبَع الرَّسولَ السَّائِلُ، فلمَّا انتهى إلى البابِ ودَخَل، قال السَّائِلُ: السَّائِلُ، قال ابنُ عُمَرَ: أعطوه إيَّاه، فأعطَوه إيَّاه، فأرسَلَت صَفِيَّةُ إلى السَّائِلِ فقالت: واللهِ لَئِنْ عُدْتَ لا تُصيبُ منِّي خيرًا أبدًا! ثمَّ أرسَلَت بدِرهَمٍ آخَرَ فاشتَرَت به [1103]رواه من طرُقٍ: الطبراني (12/266) (13067)، وأبو نُعَيم في ((حلية الأولياء)) (1/397)، والبيهقي (8055) واللَّفظُ له. وثَّق رجاله شُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (3/220)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/350): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ غيرَ نُعَيمِ بنِ حَمَّادٍ، وهو ثقةٌ. .
عُمَرُ يختَبِرُ إيثارَ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه أخَذ أربَعَمئةِ دينارٍ فجَعَلَها في صُرَّةٍ، فقال للغُلامِ: اذهَبْ بها إلى أبي عُبيدةَ بنِ الجَرَّاحِ، ثمَّ تَلَهَّ ساعةً في البيتِ حتَّى تنظُرَ ما يصنَعُ، فذهب بها الغلامُ إليه، فقال: يقولُ لك أميرُ المؤمِنين: اجعَلْ هذه في بعضِ حاجتِك، فقال: وَصَله اللهُ ورَحِمَه، ثمَّ قال: تعالَي يا جاريةُ، اذهَبي بهذه السَّبعةِ إلى فُلانٍ، وبهذه الخَمسةِ إلى فُلانٍ، حتى أنفَدَها! فرجَعَ الغلامُ وأخبَرَه، فوَجَدَه قد أعَدَّ مِثْلَها إلى مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، فقال: اذهَبْ بهذا إلى مُعاذِ بنِ جَبَلٍ وتَلَهَّ في البيتِ حتَّى تَنظُرَ ما يصنَعُ، فذَهَب بها إليه، فقال: يقولُ لك أميرُ المؤمِنين: اجعَلْ هذا في بَعضِ حاجتِك، فقال: رَحِمه اللهُ ووَصَله، تعالَي يا جاريةُ، اذهَبي إلى بيتِ فلانٍ بكذا، واذهَبي إلى بيتِ فُلانٍ بكذا، فاطَّلَعَت امرأةُ معاذٍ، فقالت: نحن واللهِ مساكينُ، فأعْطِنا، ولم يَبْقَ في الخِرقةِ إلَّا دينارانِ، فدَحَا [1104] أي: دفَعَه، يقالُ: دحا الحَجَرَ بيَدِه: أي: رمى به ودفَعَه. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (38/ 38). بهما إليها، ورجَعَ الغلامُ إلى عُمَرَ، فأخبرَه وسُرَّ بذلك، وقال: إنَّهم إخوةٌ بَعضُهم من بعضٍ [1105] رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/178)، والطبراني (20/23) (46) واللَّفظُ له، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/237) من حديث مالك الدار. حسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (926). !
إيثارُ جابِرٍ لأخواتِه:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عبدَ اللهِ هَلَك، وتَرَك تِسعَ بَناتٍ -أو قال: سَبْعَ- فتزَوَّجْتُ امرأةً ثَيِّبًا، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا جابِرُ، تزوَّجْتَ؟ قال: قُلتُ: نعمْ، قال: فبِكرٌ أم ثَيِّبٌ؟ قال: قُلتُ: بل ثَيِّبٌ يا رسولَ اللَّهِ، قال: فهَلَّا جاريةٌ تُلاعِبُها وتُلاعِبُك!، أو قال: تُضاحِكُها وتُضاحِكُك، قال: قُلتُ له: إنَّ عبدَ اللهِ هَلَك، وتَرَك تِسعَ بناتٍ -أو سَبعَ- وإنِّي كَرِهْتُ أن آتيَهنَّ أو أجيئَهنَّ بمِثْلِهنَّ، فأحبَبْتُ أن أجيءَ بامرأةٍ تقومُ عليهنَّ وتُصلِحُهنَّ، قال: فبارَكَ اللهُ لك أو قال لي خيرًا)) [1106] أخرجه البخاري (5367)، ومسلم (715) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ حَجَرٍ: (فيه فضيلةٌ لجابِرٍ لشَفَقتِه على أخواتِه وإيثارِه مَصلحتَهنَّ على حَظِّ نفسِه) [1107] ((فتح الباري)) (9/123). .

انظر أيضا: