موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- من القُرآنِ الكريمِ


يُعَدُّ الإيثارُ من محاسِنِ الأخلاقِ الإسلاميَّةِ؛ فهو مرتبةٌ عاليةٌ من مراتِبِ البَذلِ، ومنزلةٌ عظيمةٌ من منازِلِ العطاءِ؛ لذا أثنى اللهُ على أصحابِه، ومدَح المتحَلِّين به، وبَيَّن أنَّهم المُفلِحون في الدُّنيا والآخرةِ.
1- قال اللهُ تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] .
قال الطَّبَريُّ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه وهو يَصِفُ الأنصارَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ من قَبلِ المُهاجِرين... وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ يقولُ: ويُعطون المهاجِرين أموالَهم إيثارًا لهم بها على أنفُسِهم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ يقولُ: ولو كان بهم حاجةٌ وفاقةٌ إلى ما آثَروا به من أموالِهم على أنفُسِهم) [1023] ((جامع البيان)) (22/524، 527). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (أي: يُقَدِّمون المحاويجَ على حاجةِ أنفُسِهم، ويَبدَؤون بالنَّاسِ قَبْلَهم في حالِ احتياجِهم إلى ذلك) [1024] ((تفسير القرآن العظيم)) (8/70). .
ويقولُ ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا الإيثارُ مع الخصاصةِ فهو أكمَلُ من مجرَّدِ التَّصَدُّقِ مع المحبَّةِ؛ فإنَّه ليس كُلُّ متصَدِّقٍ محبًّا مُؤثِرًا، ولا كُلُّ مُتصَدِّقٍ يكونُ به خصاصةٌ، بل قد يتصَدَّقُ بما يحِبُّ مع اكتفائِه ببعضِه مع محبَّةٍ لا تبلُغُ به الخصاصةَ) [1025] ((منهاج السنة النبوية)) (7/129). .
2- وقال اللهُ تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران: 92] .
(يعني: لن تنالوا وتُدرِكوا البِرَّ -الذي هو اسمٌ جامِعٌ للخيراتِ، وهو الطَّريقُ الموصِلُ إلى الجنَّةِ- حتَّى تُنفِقوا ممَّا تحبُّون من أطيَبِ أموالِكم وأزكاها؛ فإنَّ النَّفَقةَ من الطَّيِّبِ المحبوبِ للنُّفوسِ من أكبَرِ الأدِلَّةِ على سماحةِ النَّفسِ، واتِّصافِها بمكارمِ الأخلاقِ، ورَحمتِها ورِقَّتِها، ومن أدَلِّ الدَّلائِلِ على محبَّةِ اللهِ، وتقديمِ محبَّتِه على محبَّةِ الأموالِ التي جُبِلت النُّفوسُ على قُوَّةِ التَّعَلُّقِ بها؛ فمَن آثَرَ محبَّةَ اللهِ على محبَّةِ نَفسِه فقد بلغ الذِّروةَ العُليا من الكَمالِ، وكذلك مَن أنفَقَ الطَّيِّباتِ، وأحسنَ إلى عبادِ اللهِ، أحسَنَ اللهُ إليه ووفَّقه أعمالًا وأخلاقًا لا تحصُلُ بدونِ هذه الحالةِ) [1026] ((تيسير الكريم الرحمن)) (1/970). .
3- وقال تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] .
قال أبو حيَّانَ: (والمعنى: أنَّه يُعطي المالَ مُحِبًّا له، أي: في حالِ محبَّتِه للمالِ واختيارِه وإيثارِه، وهذا وَصفٌ عظيمٌ؛ أن تكونَ نَفسُ الإنسانِ متعَلِّقةً بشَيءٍ تعَلُّقَ المحِبِّ بمحبوبِه، ثمَّ يُؤثِرَ به غيرَه ابتغاءَ وَجهِ اللهِ) [1027] ((البحر المحيط في التفسير)) (2/ 135). .
4- وقال تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 6 - 9] .
قَولُه: عَلَى حُبِّهِ قال ابنُ عَبَّاسٍ وجمهورُ المُفَسِّرين: الضَّميرُ للطَّعامِ، أي: على حُبِّ الطَّعامِ، وشَهْوَتِهم إيَّاه، وحاجتِهم إليه، كما قال: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] [1028] ((رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز)) للرسعني (8/ 407). .
وممَّا يدُلُّ على هذا المعنى أيضًا قولُه تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9] ) [1029] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/394). .
قال الزَّجَّاجُ: (المعنى: يُطعِمون الطَّعامَ أشَدَّ ما تكونُ حاجتُهم إليه للمِسكينِ، ووَصَفَهم اللهُ بالأثَرةِ على أنفُسِهم) [1030] ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/ 259). . ثمَّ قال اللهُ تبارك وتعالى: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 12-13] .
(والمعنى: وجزاهم بصَبْرِهم على الإيثارِ وما يؤدِّي إليه من الجُوعِ والعُريِ بُستانًا فيه مأكَلٌ هَنيءٌ، وحريرًا فيه مَلبَسٌ بَهِيٌّ) [1031] ((مفاتيح الغيب)) للفخر الرازي (30/218). .

انظر أيضا: