موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من  السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


لَمَّا كان الإيثارُ من الأخلاقِ النَّبيلةِ، والصِّفاتِ الحميدةِ؛ رَغَّبَت السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ فيه، وأثنَت على أصحابِه، وممَّا ورد في ذلك:
1- عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الأشعَريِّين إذا أرمَلوا [1032] أرمَلَ القَومُ: نَفِد زادُهم. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/296). في الغَزْوِ، أو قَلَّ طَعامُ عيالِهم بالمدينةِ، جَمَعوا ما كان عندَهم في ثوبٍ واحدٍ، ثمَّ اقتَسَموه بَيْنَهم في إناءٍ واحِدٍ بالسَّوِيَّةِ؛ فهم مِنِّي، وأنا منهم)) [1033] أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500). .
يقولُ العينيُّ: (فيه مَنقَبةٌ عظيمةٌ للأشعَريِّين من إيثارِهم ومواساتِهم بشَهادةِ سَيِّدنا رسولِ اللهِ، وأعظَمُ ما شُرِّفوا به كونُه أضافهم إليه... وفيه فضيلةُ الإيثارِ والمواساةِ) [1034] ((عمدة القاري)) للعيني (13/44). .
وقال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (هذا الحديثُ يدُلُّ على أنَّ الغالِبَ على الأشعَريِّين الإيثارُ والمواساةُ عِندَ الحاجةِ... فثبت لهم بشهادةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم...كُرَماءُ مُؤثِرون) [1035] ((المفهم)) للقرطبي (6/452). .
2- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((طعامُ الاثنَينِ كافي الثَّلاثةِ، وطعامُ الثَّلاثةِ كافي الأربعةِ)) [1036] أخرجه البخاري (5392)، ومسلم (2058). . وفي لفظٍ: ((طعامُ الواحِدِ يكفي الاثنَينِ، وطعامُ الاثنَينِ يكفي الأربعةَ، وطعامُ الأربعةِ يكفي الثَّمانيةَ)) [1037] أخرجه مسلم (2059) من حديثِ جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
قال المُهَلَّبُ: (والمرادُ بهذه الأحاديثِ الحَضُّ على المُكارَمةِ في الأكلِ والمواساةِ والإيثارِ على النَّفسِ، الذي مدَح اللهُ به أصحابَ نَبيِّه، فقال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9] . ولا يرادُ بها معنى التَّساوي في الأكلِ والتَّشاحِّ؛ لأنَّ قولَه عليه السَّلامُ: ((كافي الثَّلاثةِ)) دليلٌ على الأثَرةِ التي كانوا يمتَدِحون بها والتَّقنُّعِ بالكفايةِ، وقد همَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ في سنةِ مجاعةٍ أن يجعَلَ مع كُلِّ أهلِ بَيتٍ مِثْلَهم، وقال: لن يَهلِكَ أحَدٌ عن نِصْفِ قُوتِه) [1038] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/471). .
3- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الصَّدَقةِ أعظَمُ أجرًا؟ قال: أن تَصَدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفَقرَ وتأمُلُ الغِنى، ولا تمهِلْ حتَّى إذا بلَغَتِ الحُلقومَ [1039] إذا بلَغَت نفسُ أحَدِكم الحُلقومَ عِندَ النَّزعِ، والحُلقومُ: مَجرى النَّفَسِ والسُّعالِ من الجَوفِ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/150). قُلتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كذا، وقد كان لفُلانٍ!)) [1040] أخرجه البخاري (1419) واللفظ له، ومسلم (1032). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (فيه أنَّ أعمالَ البِرِّ كُلَّما صَعُبت كان أجرُها أعظَمَ؛ لأنَّ الصَّحيحَ الشَّحيحَ إذا خَشِيَ الفَقرَ وأمَلَ الغِنى، صَعُبَت عليه النَّفَقةُ، وسوَّل له الشَّيطانُ طُولَ العُمُرِ، وحُلولَ الفَقرِ به، فمَن تصَدَّقَ في هذه الحالِ فهو مُؤثِرٌ لثوابِ اللهِ على هوى نَفسِه، وأمَّا إذا تصَدَّق عندَ خُروجِ نَفْسِه، فيُخشى عليه الضِّرارُ بميراثِه، والجَورُ في فِعْلِه) [1041] ((شرح صحيح البخاري)) (3/417). .
(والحاصِلُ: أنَّ العَمَلَ تفاضَلَ بمقدارِ ما دَلَّ عليه من إيثارِ العامِلِ نَفْعَ غيرِه وإرضاءَ رَبِّه على منفعةِ نفسِه) [1042] ((النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح)) لابن عاشور (ص: 42). .
4- وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ حَدَّث عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أراد أن يغزوَ فقال: ((يا مَعشَرَ المهاجِرين والأنصارِ إنَّ من إخوانِكم قومًا ليس لهم مالٌ ولا عشيرةٌ، فليَضُمَّ أحَدُكم إليه الرَّجُلَينِ أو الثَّلاثةَ، فما لأحَدِنا من ظَهرٍ يحمِلُه إلَّا عُقْبةٌ [1043] العقبة: النوبة. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (1/618). كعُقْبةِ -يعني- أحَدِهم، فضَمَمْتُ إليَّ اثنينِ أو ثلاثةً، قال: ما لي إلَّا عُقْبةٌ كعُقْبةِ أحَدِهم من جَمَلي)) [1044] رواه أبو داود (2534)، وأحمد (14863). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2534)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (230)، وصحَّح إسنادَه الحاكم (2451)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2534). .
قال الرَّمليُّ: (هذا من بابِ المواساةِ والرِّفقِ بالمُشاةِ؛ فإذا كان مع الغُزاةِ أو المُسافرين في غيرِ الغَزْوِ مُشاةٌ كثيرون، فينبغي للجماعةِ أن يتوَزَّعوهم، ويأخُذَ كُلُّ واحدٍ منهم رَجُلين أو ثلاثةً يَضُمُّهم إليه، يتعاقَبون في الرُّكوبِ على الدَّابَّةِ، يركَبُ كُلُّ واحدٍ منهم مرَّةً؛ ليرتَفِقَ بعضُهم ببعضٍ على حَسَبِ ما يحتَمِلُ الحالُ) [1045] ((شرح سنن أبي داود)) (11/ 168). .
5- وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ أصحابَ الصُّفَّةِ كانوا أناسًا فُقَراءَ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن كان عندَه طعامُ اثنين فليذهَبْ بثالِثٍ، وإنْ أربَعٌ فخامِسٌ أو سادِسٌ)) [1046] أخرجه البخاري (602) واللَّفظُ له، ومسلم (2057). .
قال ابنُ المُلَقِّنِ: (فيه فضيلةُ الإيثارِ والمواساةِ، وأنَّه عِندَ كَثرةِ الأضيافِ يُوَزِّعُهم الإمامُ على أهلِ المحلَّةِ، ويُعطي لكُلٍّ منهم ما يَعلَمُ أنَّه يحتَمِلُه، ويأخُذُ هو ما يُمكِنُه) [1047] ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (6/297). .
6- عن أبي قتادةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ ساقي القومِ آخرُهم شُربًا)) [1048] أخرجه مسلم (681). .
قال ابنُ العربي: (هذا أمرٌ ثابتٌ عادةً وشرعًا، والحكمةُ فيه استحبابُ الإيثارِ) [1049] ((عارضة الأحوذي)) (8/79). .
وقال ابنُ الجوزي: (إنَّما كان ذلك لمعنيينِ: أحدهما: أنَّه قد تفضَّل بإيثارِهم على نفسِه، فينبغي أنْ يُتمِّمَ. والثاني: أنَّه إذا شرِب وقد بقِي أحدٌ اتُّهم بتناولِ الصافي، وتركِ الكدرِ) [1050] ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) (2/ 155). .

انظر أيضا: