موسوعة الأخلاق والسلوك

سادِسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ التَّفريطِ


1- التَّفريطُ في أداءِ الفرائِضِ كما ينبغي وتضييعُها، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] .
وعن محمَّدِ بنِ سِيرينَ، قال: نُبِّئْتُ أنَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ كانا يُعَلِّمانِ النَّاسَ: (تَعبُدُ اللهَ ولا تُشرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ التي افتَرَض اللهُ لمواقيتِها؛ فإنَّ في تفريطِها الهَلَكةَ) [1886] أخرجه من طرُقٍ: ابن أبي شيبة (3231) واللفظ له، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/294) مطوَّلًا. صحَّح إسنادَه ابنُ رجب في ((فتح الباري)) (3/30). .
2- التَّفريطُ في السُّنَنِ والنَّوافِلِ وفضائِلِ الأعمالِ رَغْمَ عَظيمِ ثَوابِها، ولَمَّا  عَلِم ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ مَن تَبِع الجِنازةَ له أجرٌ قيراطٌ؛ قال: (لقد فَرَّطْنا في قراريطَ كثيرةٍ) [1887] أخرجه البخاري (1324)، ومسلم (945). .
3- التَّفريطُ في الأمانةِ ممَّا وُكِّل إلى الإنسانِ حِفظُه والقيامُ تِجاهَه بما يلزَمُ، كما حكى القرآنُ عن تفريطِ إخوةِ يُوسُفَ في أخيهم يوسُفَ وتضييعِهم له وقد ائتَمَنهم أبوهم يعقوبُ عليه السَّلامُ عليه؛ قال تعالى: قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف: 80] .
4- التَّفريطُ في حَقِّ الوالِدَينِ؛ قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14-15] ، وقال جَلَّ ثناؤُه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23-24] .
وأوصى زيدُ بنُ عَليٍّ ابنَه فقال: (اعلَمْ أنَّ خيرَ الآباءِ للأبناءِ مَن لم تدْعُه المودَّةُ إلى التَّفريطِ، وخيرُ الأبناءِ للآباءِ مَن لم يَدْعُه التَّقصيرُ إلى العُقوقِ) [1888] ((التذكرة الحمدونية)) (3/ 333). .
5- التَّفريطُ في تربيةِ الأبناءِ، وقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] ، قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا (يقولُ: عَلِّموهم، وأدِّبوهم) [1889] ((جامع البيان)) للطبري (23/ 103، 104). ، وقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما لرَجُلٍ: (أدِّبِ ابنَك؛ فإنَّك مسؤولٌ عن ولَدِك ماذا أدَّبْتَه؟ وماذا علَّمْتَه؟ وإنَّه مسئولٌ عن بِرِّك وطواعيَتِه لك) [1890] ((السنن الكبرى)) للبيهقي (3/ 120). .
6-التَّفريطُ في اختيارِ المرأةِ ذاتِ الدِّينِ؛ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((تُنكَحُ المرأةُ لأربَعٍ: لمالِها ولحَسَبِها وجمالِها ولدينِها؛ فاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَت يَداك)) [1891] أخرجه البخاري (5090) واللفظ له، ومسلم (1466). .
7-التَّفريطُ في القيامِ بواجِبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ مع الاستطاعةِ والقُدرةِ.
8-التَّفريطُ في طَلَبِ الصَّديقِ الوَفيِّ أو تضييعُه ممَّن وجَده؛ عن هِلالِ بنِ العَلاءِ الرَّقِّيِّ يقولُ: (كتَب فَيلَسوفٌ إلى مَن في درجَتِه: أنِ اكتُبْ إليَّ بشَيءٍ ينفَعُني في عُمُري. فكتَب إليه: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ: استَوحَشَ مَن لا إخوانَ له، وفَرَّط مَن قصَّرَ في طلَبِهم، وأشَدُّ تفريطًا مَن وَجَد واحِدًا منهم وضَيَّعه بَعدَ وَجْدِه إيَّاه، ولوِجْدانُ الكِبريتِ الأحمَرِ أيسَرُ من وِجدانِ أخٍ أو صديقٍ مُوافِقٍ، وإنِّي لفي طَلَبِهم منذُ خمسينَ سَنةً، فما ظَفِرْتُ إلَّا بنِصفِ أخٍ، وتمرَّدَ عَلَيَّ وانقَلَب!) [1892] ((آداب الصحبة)) لأبي عبد الرحمن السلمي (ص: 63). .
9- التَّفريطُ في حِفظِ العِلمِ ومُذاكَرتِه ومراجَعتِه؛ قال الماوَرْديُّ: (وأمَّا المانِعُ من حِفظِه بَعدَ تصَوُّرِه وفَهمِه فهو النِّسيانُ الحادِثُ عن غَفلةِ التَّقصيرِ وإهمالِ التَّواني؛ فينبغي لِمن بُلِي به أن يَستدرِكَ تقصيرَه بكثرةِ الدَّرسِ، ويوقِظَ غَفلَتَه بإدامةِ النَّظَرِ؛ فقد قيل: لا يُدرِكُ العِلمَ مَن لا يُطيلُ دَرْسَه، ويَكُدَّ نَفسَه. وكثرةُ الدَّرسِ كدُودٌ لا يَصبِرُ عليه إلَّا مَن يرى العِلمَ مَغنَمًا، والجَهالةَ مَغْرَمًا، فيحتَمِلُ تَعَبَ الدَّرسِ ليُدرِكَ راحةَ العِلمِ، وينفيَ عنه مَعَرَّةَ الجهلِ؛ فإنَّ نَيلَ العظيمِ بأمرٍ عظيمٍ، وعلى قَدْرِ الرَّغبةِ تكونُ المَطالِبُ، وبحَسَبِ الرَّاحةِ يكونُ التَّعَبُ.
وقد قيل: طَلَبُ الرَّاحةِ قِلَّةُ الاستراحةِ. وقال بعضُ الحُكَماءِ: أكمَلُ الرَّاحةِ ما كانت عن كَدِّ التَّعَبِ، وأعَزُّ العِلمِ ما كان عن ذُلِّ الطَّلَبِ. وربَّما استَثقَل المتعَلِّمُ الدَّرسَ والحِفظَ واتَّكَل بَعدَ فَهمِ المعاني على الرُّجوعِ إلى الكُتُبِ والمطالَعةِ فيها عندَ الحاجةِ، فلا يكونُ إلَّا كمَن أطلَقَ ما صادَه ثِقةً بالقُدرةِ عليه بعدَ الامتناعِ منه، فلا تُعقِبُه الثِّقةُ إلَّا خَجَلًا، والتَّفريطُ إلَّا نَدَمًا) [1893] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 57). .

انظر أيضا: