موسوعة التفسير

سُورةُ يُوسُفَ
الآيات (78-80)

ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

مَعَاذَ اللَّهِ: أي: أعوذُ وأستجيرُ باللَّهِ، وأصْلُ (عوذ): الْتِجاءٌ إلى الشَّيءِ [917] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/280)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/183، 184)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 171). .
اسْتَيْأَسُوا: أي: يَئِسوا؛ من اليأْسِ: وهو القُنوطُ، وأصلُ (يئس): يدلُّ على قطْعِ الرَّجاءِ [918] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 220)، ((تفسير ابن جرير)) (13/281)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/153)، ((المفردات)) للراغب (ص: 892)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 175)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 978). .
خَلَصُوا نَجِيًّا: أي: اعتَزَلوا النَّاسَ، وانفرَدوا يتَناجَون ويتَشاورون ويَتَسارُّون، وأصْلُ (خلص): يدلُّ على تنقيةِ الشَّيءِ وتهذيبِه، وأصْلُ (نجو): يدلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ [919] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 220)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 208)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/208) (5/397)، ((المفردات)) للراغب (ص: 292)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 175)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 248). .
أَبْرَحَ: أي: أخرُجَ وأفارِقَ، وأصْلُ (برح): زوالٌ، وبُروزٌ، وانكشافٌ [920] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/238)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 175، 216)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 34).

مشكل الإعراب:

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ
نَجِيًّا: حالٌ مِن واوِ الجَماعةِ في خَلَصُوا، وإنَّما أُفرِدَت الحالُ، وصاحِبُها (واو الجماعة) جمعٌ؛ لأنَّ النَّجيَّ (فعيلٌ) بمعنى (مُفاعِل)؛ كالعَشيرِ والخَليطِ، بمعنى: المُخالِط والمُعاشِرِ، وهذا في الاستعمالِ يُفرَدُ مُطلقًا؛ يقال: هم خَليطُك وعَشيرُك، أي: مُخالِطوك ومُعاشِروك. وقيل: لأنَّ نَجِيًّا مصدرٌ بمعنى التَّناجي.
 وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ: في (ما) وَجهانِ؛ أحدهما: أنَّها زائدةٌ، ومِنْ قَبْلُ جارٌّ ومجرورٌ مُتعَلِّقٌ بالفِعلِ فَرَّطْتُمْ، أي: وفرَّطْتُم مِن قَبْلُ في يوسُفَ. والثاني: أنَّها مَصدريَّةٌ، ومحلُّ المصدرِ مَا فَرَّطْتُمْ النَّصبُ عَطفًا على مفعولِ تَعْلَمُوا، وهو أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ، أي: ألم تعلَموا أَخْذَ أبيكم الميثاقَ، وتَفريطَكم في يوسُفَ، وفُصِلَ بين حرفِ العَطفِ والمَعطوفِ بـ مِنْ قَبْلُ [921] وهو جائزٌ خِلافًا لأبي علي الفارسيِّ. قال ابنُ مالك: (منع أبو عليٍّ الفَصلَ بين العاطِفِ والمعطوفِ بظَرفٍ أو جارٍّ ومجرور... وليس الأمرُ كما زعم، بل الفَصلُ بين العاطِفِ والمعطوفِ بالظَّرفِ والجارِّ والمجرورِ جائِزٌ في الاختيارِ، إنْ لم يكُن المعطوفُ فِعلًا ولا اسمًا مَجرورًا، وهو في القرآنِ كَثيرٌ، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، ففصل بـ «إذا» وما أُضيفَت إليه بين الواو، وأَنْ تَحْكُمُوا، وهو مَعطوفٌ على أَنْ تُؤَدُّوا... وكقَولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، ففَصَلَ بـ «مِنَ الأرضِ» بين الواو و مِثْلَهُنَّ). ((شرح الكافية الشافية)) (3/1238). . وقيل غيرُ ذلك [922] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/393)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/741)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/538). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى عن إخوةِ يوسفَ أنَّهم قالوا له مُستعطفينَ؛ لِيَفُوا بعَهدِ أبيهم: يا أيُّها العَزيزُ، إنَّ له والدًا كبيرًا في السِّنِّ يحِبُّه، ولا يُطيقُ بُعدَه، فخُذْ أحَدَنا بدلًا منه؛ إنَّا نراك مِن المُحسنينَ. قال يوسُفُ: نَستجيرُ باللَّهِ أن نأخُذَ أحدًا غيرَ الَّذي وجَدْنا الصُّواعَ عندَه؛ فإنَّنا نكونُ في عِدادِ الظَّالمينَ إن فعَلْنا ما تطلُبونَ، فلَمَّا يَئِسوا مِن إجابتِه إيَّاهم لِمَا طَلَبوه، انفَرَدوا عن النَّاسِ، وأخَذوا يتشاوَرونَ فيما بينهم؛ قال كبيرُهم: ألم تَعلَموا أنَّ أباكم قد أخذَ عليكم العهدَ المُؤكَّدَ؛ لَترُدُّنَّ أخاكم إلَّا أن تُغلَبوا، ومِن قبلِ هذا كان تقصيرُكم في يوسُفَ وتضييعُكم له؛ لذلك لن أُفارِقَ أرضَ مِصرَ حتَّى يأذنَ لي أبي في مُفارَقتِها، أو يقضيَ لي ربِّي بالخُروجِ منها، واللهُ خيرُ مَن حَكَمَ، وأعدَلُ مَن فَصَلَ بين النَّاسِ.

تفسير الآيات :

قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللَّهَ تعالى بيَّنَ أنَّ إخوةَ يوسُفَ عليه السَّلامُ بعد الَّذي ذكَروه مِن قولِهم: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يوسف: 77 أحبُّوا موافقَتَه والعدولَ إلى طريقةِ الشَّفاعةِ، فقالوا للعزيزِ ما ذكَرَه اللَّهُ تعالى هنا [923] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/491). .
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا.
أي: قال إخوةُ يوسُفَ لِيوسُفَ: يا أيُّها العزيزُ [924] قال ابنُ عاشورٍ: (نادَوا بوصْفِ العزيزِ؛ إمَّا لأنَّ كلَّ رئيسِ ولايةٍ مُهمَّةٍ يُدْعى بما يُرادِفُ العزيزَ، فيكونُ يُوسفُ عليه السَّلامُ عزيزًا...، وإمَّا لأنَّ يُوسفَ ضُمَّت إليه ولايةُ العزيزِ الَّذي اشتراه، فجمَعَ التَّصرُّفاتِ، وراجعوه في أخْذِ أخيهم). ((تفسير ابن عاشور)) (13/36). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/240). إنَّ لأخينا الَّذي تُريدُ أخْذَه أبًا شيخًا كبيرًا [925] قال ابنُ عاشورٍ: (المُرادُ بالكبيرِ: إمَّا كبيرُ عَشيرَتِه، فإساءتُه تسوءُهم جميعًا، ومِن عادَةِ الوُلاةِ استجلابُ القبائلِ، وإمَّا أنْ يكونَ كَبِيرًا تأكيدًا لـ شَيْخًا أي: بلَغَ الغايةَ في الكِبَرِ مِن السِّنِّ، ولذلك فرَّعوا على ذلك فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ؛ إذ كان هو أصغرَ الإخوةِ، والأصغَرُ أقربُ إلى رِقَّةِ الأبِ عليه). ((تفسير ابن عاشور)) (13/36، 37)، ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/240). ، يحِبُّه حُبًّا شديدًا، ولا يصبِرُ على فِراقِه [926] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/279)، ((تفسير ابن كثير)) (4/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 403). .
فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
أي: فخُذْ واحدًا منَّا بدلًا مِن أخينا الَّذي تُريدُ أخْذَه؛ إِنَّا نَراكَ مِنَ المحسِنينَ في أفعالِك، فأحْسِنْ إلينا وإلى أبينا بأخْذِ أحدِنا، وترْكِ أخينا يرجِعُ إلى أبيه [927] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/279)، ((تفسير ابن كثير)) (4/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 403). قال الزَّجَّاجُ: (أي: ممَّن يُحسِنُ ولا يُعَامِلُ بالتَّحديدِ في واجبٍ؛ لأنَّه كان أعطاهم الطَّعامَ وأعطاهم ثمَنَه في رَدِّه البِضاعةِ لهم، فطالبُوه بأنْ يُحْسِنَ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (3/123). .
قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79).
أي: قال يوسُفُ لإخوتِه: نعوذُ باللَّهِ أنْ نأخُذَ بريئًا بدلًا ممَّن وجَدْنا الصُّواعَ لديه؛ إنَّا إذَا أخَذْنا غيرَه لظالِمونَ بوضْعِنا العُقوبةَ على مَن لا يستحِقُّها [928] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/279)، ((تفسير القرطبي)) (9/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 403). .
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80).
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا.
أي: فلَمَّا يئِسَ إخوةُ يوسُفَ مِن أنْ يُخَلِّيَ يوسُفُ سَراحَ أخيهم، ويأْخُذَ واحدًا منهم مكانَه، انفَرَدوا عنِ النَّاسِ، واجتمَعوا يتسارُّونَ فيما بينهم، ويتَشاوَرونَ في شأْنِ ما وقَعوا فيه [929] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/280، 281)، ((تفسير الرازي)) (18/492)، ((تفسير ابن كثير)) (4/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 403). .
قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ.
أي: قال أكبَرُ أولادِ يعقوبَ سِنًّا لإخوتِه: ألمْ تعلَموا أنَّ أباكم يعقوبَ قد أخَذَ عليكم عُهودَ اللَّهِ المُؤكَّدةَ بأنْ ترُدُّوا إليه ولَدَه [930] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/285)، ((تفسير الرازي)) (18/492)، ((تفسير ابن كثير)) (4/403). ؟!
وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ.
أي: ألمْ تعلَموا أيضًا تَفريطَكم في يوسُفَ وإضاعتَه مِن قَبْلِ هذا؟! فاجتمَعَ عليكمُ الأمْرانِ؛ تفريطُكم في يوسُفَ، وعدَمُ إتيانِكم بأخيه [931] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/285، 286)، ((تفسير القرطبي)) (9/242)، ((تفسير ابن كثير)) (4/403). .
فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي.
أي: فلنْ أُفارِقَ أرضَ مصرَ حتَّى يأْذَنَ لي أبي بالخُروجِ منها؛ فإنِّي أسْتَحيي منه، أو يقْضِيَ اللَّهُ لي بأمْرٍ [932] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/286، 287)، ((تفسير القرطبي)) (9/242)، ((تفسير ابن كثير)) (4/403)، ((تفسير السعدي)) (ص: 403). قيل: المُرادُ بقولِه تعالى: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أي: بالرُّجوعِ مع أخي إلى أبي. وقيل: بخُروجي وتركِ أخي، وقيل غير ذلك. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/508)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/462)، ((تفسير القرطبي)) (9/242)، ((تفسير ابن كثير)) (4/304). وقال ابنُ عطيةَ: (وقوله: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي لفظٌ عامٌّ لجميعِ ما يمكنُ أن يردَه مِن القدرِ كالموتِ أو النصرةِ وبلوغِ الأملِ وغيرِ ذلك). ((تفسير ابن عطية)) (3/270). .
وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.
أي: واللَّهُ أفضَلُ وأعدَلُ مَن حكَمَ بين النَّاسِ بالحقِّ [933] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/287)، ((البسيط)) للواحدي (12/205)، ((تفسير البغوي)) (2/508). .

الفوائد التربوية:

1- تأَمَّلْ قولَ يوسُفَ: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ ولم يقُلْ: (إلَّا مَن سرَقَ)، وهو أخصَرُ لفظًا؛ تحرِّيًا للصِّدْقِ، فإنَّ الأخَ لم يكُنْ سارِقًا بوجْهٍ؛ فإنَّه لم يفعَلْ في الصُّواعِ فِعْلَ السَّارقِ، ولم يقَعْ منه قبلَ ذلك ما يصِحُّ إطلاقُ الوصفِ عليه، وكان المَتاعُ عنده حقًّا؛ فالكلامُ مِن أحسَنِ المَعاريضِ وأصْدَقِها [934] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/169)، ((تفسير الشربيني)) (2/128). .
2- في قَولِه تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ دَلالةٌ على الأصلِ الكبيرِ الذي أعادَه اللهُ وأبداه في كتابِه: أنَّ لكُلِّ نفسٍ ما كسَبَت من الخيرِ والثَّوابِ، وعليها ما اكتسَبَت من الشَّرِّ والعِقابِ، وأنَّه لا تزِرُ وازِرةٌ وِزرَ أُخرَى [935] يُنظر: ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 48). .
3- قَولُه تعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ يؤخَذُ منه مسألةٌ دقيقةٌ: وهي أنَّ الإحسانَ إنَّما يكونُ إحسانًا إذا لم يتضمَّنْ فِعلَ مُحرَّمٍ أو تركَ واجِبٍ؛ فإنَّهم  طلبوا من يوسُفَ أن يُحسِنَ إليهم بتَركِ هذا الأخِ أن يذهبَ إلى أبيه، ويأخُذَ أحدَهم بدَلَه، فامتنَعَ وقال: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ، فالإحسانُ إذا تضمَّنَ ترْكَ العَدلِ كان ظُلمًا؛ ولهذا كان تخصيصُ بعضِ الأولادِ على بعضٍ، وبعضِ الزَّوجاتِ على بعضٍ- وإن كان إحسانًا إلى المُخَصَّص والمُفضَّل- غيرَ جائزٍ؛ لأنَّه تَركٌ للعدلِ، وكذلك ما أشبهَ ذلك [936] يُنظر: ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 56). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قولُ اللَّهِ تعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ خاطَبوه بما يليقُ بالأكابِرِ؛ ليَرِقَّ لهم [937] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/180). .
2- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا دلَّ بالفاءِ على قُرْبِ زمَنِ تلك المُراجعاتِ [938] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/191). .
3- قولُه: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ جعَلَ حَلِفَهم باللَّهِ مَوْثِقًا منه؛ لأنَّه بإذنٍ منه وتأكيد مِن جِهَتِه [939] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/173). .
4- قولُ اللَّهِ تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ أي: أُفارِقَ هذه الْأَرْضَ وإيصالُه الفعْلَ بدون حرفٍ دليلٌ على أنَّه صار شديدَ الالتِصاقِ بها [940] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/192، 193). .
5- الحُكْمُ المذكورُ في قولِه تعالى عنِ ابنِ يعقوبَ: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي هو الحُكْمُ الكونيُّ، ويقابلُه: الحُكْمُ الدينيُّ، كما في قولِه تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [941] يُنظر: ((التحفة العراقية)) لابن تيمية (ص: 47). المائدة: 1.
6- قولُه: حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ غَيَّا ذلك بغايَتَينِ، إحدَاهُما: خاصَّةٌ؛ وهي قولُه: حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي يعني: في الانصرافِ إليه، والثَّانيةُ: عامَّةٌ؛ وهي قولُه: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي؛ لأنَّ إذْنَ اللَّهِ له هو مِن حُكْمِ اللَّهِ له في مُفارقَةِ أرْضِ مصرَ، وكأنَّه لَمَّا علَّقَ الأمْرَ بالغايةِ الخاصَّةِ رجَعَ إلى نفْسِه فأَتى بغايةٍ عامَّةٍ؛ تَفْويضًا لحُكْمِ اللَّهِ تعالى، ورُجوعًا إلى مَن له الحُكْمُ حقيقةً [942] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/312). .

بلاغة الآيات :

1- قوله تعالى: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
- في قولِهم: إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا وصْفٌ لأبيهم بثلاثِ صِفاتٍ تقْتَضي التَّرقيقَ عليه؛ وهي: حَنانُ الأُبوَّةِ، وصِفْةُ الشَّيخوخةِ، واستِحقاقُه جَبْرَ خاطرِه؛ لأنَّه كبيرُ قومِه، أو لأنَّه انتهَى في الكِبَرِ إلى أقصاه، فالأوصافُ مَسوقَةٌ للحثِّ على سَراحِ الابنِ، لا لأصلِ الفائدةِ؛ لأنَّهم قد كانوا أخْبَروا يوسُفَ عليه السَّلامُ بخَبَرِ أبيهم [943] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/36). .
- وجُملةُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ تعليلٌ لإجابةِ المطلوبِ لا للطَّلَبِ، والتَّقديرُ: فلا تَرُدَّ سُؤالَنا؛ لأنَّا نراك مِن المُحسنينَ، فمِثلُك لا يصدُرُ منه ما يسوءُ أبًا شيخًا كبيرًا [944] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/37). .
2- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ
- وضمائرُ نَأْخُذَ ووَجَدْنَا ومَتَاعَنَا وإِنَّا ولَظَالِمُونَ مُرادٌ بها المُتكلِّمُ وحدَه دون مُشارِكٍ، فيجوزُ أنْ يكونَ مِن استعمالِ ضَميرِ الجَمْعِ في التَّعظيمِ حِكايةً لِعبارتِه في اللُّغةِ الَّتي تكلَّمَ بها؛ فإنَّه كان عظيمَ المدينةِ، ويجوزُ أنْ يكونَ استعمَلَ ضَميرَ المُتكلِّمِ المُشارِكِ تواضُعًا منه؛ تشبيهًا لنفْسِه بمَن له مُشارِكٌ في الفِعْلِ، وهو استِعمالٌ موجودٌ في الكلامِ [945] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/37، 38). ، وقيل: للإشعارِ بأنَّ الأخْذَ والإعطاءَ ليس ممَّا يُستبدُّ به، بل هو مَنوطٌ بآراءِ أُولي الحَلِّ والعَقْدِ [946] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/299). .
- قولُه: إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ تعليلٌ للامتناعِ مِن أخْذِ غيرِه بأنَّه لو فَعَلَه لكانَ ذلك ظُلمًا، ودليلُ التَّعليلِ شيئانِ: وُقوعُ (إنَّ) في صدْرِ الجُملةِ، والإتيانُ بحَرْفِ الجَزاءِ وهو (إِذًا) [947] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/37). .
3- قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
- قولُه: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ استيْأَسَ بمعنى: يَئِسَ، وزيادةُ السِّينِ والتَّاءِ للمُبالَغةِ [948] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/494)، ((تفسير أبي حيان)) (6/310)، ((تفسير البيضاوي)) (3/173)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/39). .
- قولُه: أَلَمْ تَعْلَمُوا الاستفهامُ تقْريريٌّ مُستعمَلٌ في التَّذكيرِ بعَدَمِ اطمئنانِ أبيهم بحِفْظِهم لابنِه [949] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/39). .
- قولُه: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ترْديدٌ بين ما رسَمَه هو لنفْسِه، وبين ما عسى أنْ يكونَ اللَّهُ قد قدَّرَه له ممَّا لا قِبَلَ له بدَفْعِه، فحَذَفَ مُتعلِّقَ يَحْكُمَ المجرورَ بالباءِ؛ لتَنْزيلِ فِعْلِ يَحْكُمَ مَنزِلةَ ما لا يطْلُبُ مُتعلِّقًا [950] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/40). .
- وجُملةُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ تذييلٌ، وإنْ كان على إرادةِ (وهو خيرُ الحاكِمينَ لي)؛ فالخبرُ مُستعمَلٌ في الثَّناءِ؛ للتَّعريضِ بالسُّؤالِ أنْ يُقدِّرَ له ما فيه رأفةٌ في رَدِّ غُرْبَتِه [951] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/40). .