موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامِنًا: أخطاءٌ شائِعةٌ


- يظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أنَّ الأجرَ على قَدرِ المَشَقَّةِ مُطلَقًا، فكُلَّما أتعَبَ نَفسَه وعَسَّر عليها كان ذلك أعظَمَ لأجرِه! وهذا خَطَأٌ؛ فاقتِصادٌ في سُنَّةٍ خَيرٌ مِن اجتِهادٍ في بدعةِ، والفرائِضُ أعظَمُ أجرًا مِنَ النَّوافِلِ ولَو كثُرَت.
عن أبي بَكرِ بنِ سُلَيمانَ بنِ أبي حَثمةَ، أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ فقَد سُلَيمانَ بنَ أبي حَثمةَ في صَلاةِ الصُّبحِ، وأنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ غَدا إلى السُّوقِ -ومَسكَنُ سُلَيمانَ بَينَ السُّوقِ والمَسجِدِ النَّبَويِّ- فمَرَّ على الشِّفاءِ أمِّ سُلَيمانَ، فقال لها: لَم أرَ سُلَيمانَ في الصُّبحِ! فقالت: إنَّه باتَ يُصَلِّي، فغَلَبَته عَيناه، فقال عُمَرُ: لأن أشهَدَ صَلاةَ الصُّبحِ في الجَماعةِ أحَبُّ إليَّ مِن أن أقومَ لَيلةً [1752] أخرجه مالك في ((الموطأ)) (1/ 131). .
قال ابنُ عَبد البَرِّ: (في ذلك دَليلٌ على أنَّ أعمالَ الفرائِضِ والسُّنَنِ وإقامَتَها على وُجوهِها أفضَلُ مِنَ النَّوافِلِ والتَّطَوُّعِ كُلِّه. وكذلك قال عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ رَحِمَه اللَّهُ: أفضَلُ الفضائِل أداءُ الفرائِضِ واجتِنابُ المَحارِمِ.
وهذا شَيءٌ لا خِلافَ فيه، ولا يسَعُ جَهلُه) [1753] ((الاستذكار)) (2/ 147، 148). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُ بَعضِ النَّاسِ: الثَّوابُ على قَدرِ المَشَقَّةِ ليس بمُستَقيمٍ على الإطلاقِ، كما قد يستَدِلُّ به طَوائِفُ على أنواعٍ مِنَ الرَّهبانيَّاتِ والعِباداتِ المُبتَدَعةِ التي لم يَشرَعْها اللَّهُ ورَسولُه مِن جِنسِ تحريماتِ المُشرِكينَ وغَيرِهم ما أحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّباتِ، ومِثلُ التَّعَمُّقِ والتَّنَطُّعِ الذي ذَمَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَيثُ قال: ((هَلَك المُتَنَطِّعونَ)) [1754] رواه مسلم (2670). ، وقال: ((لو مُدَّ لي الشَّهرُ لواصَلتُ وِصالًا يدَعُ المُتَعَمِّقونَ تَعَمُّقَهم)) [1755] رواه البخاري (7241)، ومسلم (1104). ، مِثلُ الجوعِ أوِ العَطَشِ المُفرِطِ الذي يضُرُّ العَقلَ والجِسمَ ويمنَعُ أداءَ واجِباتٍ أو مُستَحَبَّاتٍ أنفَعَ مِنه، وكذلك الاحتِفاءُ والتَّعَرِّي والمَشيُ الذي يضُرُّ الإنسانَ بلا فائِدةٍ، مِثلُ حَديثِ أبي إسرائيلَ الذي نَذَرَ أن يصومَ وأن يَقومَ قائِمًا ولا يجلِسَ ولا يستَظِلَّ ولا يتَكلَّمَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مُروه فليجلِسْ وليستَظِلَّ وليتَكلَّمْ وليُتِمَّ صَومَه)). رَواه البُخاريّ [1756] رواه البخاري (6704). .وهذا بابٌ واسِعٌ.
وأمَّا الأجرُ على قدرِ الطَّاعةِ فقد تَكونُ الطَّاعةُ للَّهِ ورَسولِه في عَمَلٍ مُيسَّرٍ، كما يسَّر اللَّهُ على أهلِ الإسلامِ "الكلمَتَينِ" وهما أفضَلُ الأعمالِ؛ ولذلك قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كلمَتانِ خَفيفتانِ على اللِّسانِ، ثَقيلَتانِ في الميزانِ، حَبيبَتانِ إلى الرَّحمَنِ: سُبحانَ اللَّهِ وبحَمدِه، سُبحانَ اللَّهِ العَظيمِ)). أخرَجاه في الصَّحيحَينِ [1757] البخاري (6406)، ومسلم (2694). . ولو قيل: الأجرُ على قدرِ مَنفعةِ العَمَلِ وفائِدَتِه، لَكان صَحيحًا اتِّصافُ "الأوَّلِ" باعتِبارِ تَعَلُّقِه بالأمرِ. و"الثَّاني" باعتِبار صِفتِه في نَفسِه...
فأمَّا كونُه مُشِقًّا فليس هو سَبَبًا لفَضلِ العَمَلِ ورُجحانِه، ولكِن قد يكونُ العَمَلُ الفاضِلُ مُشِقًّا ففضلُه لمَعنًى غَيرِ مَشَقَّتِه، والصَّبرُ عليه مَعَ المَشَقَّةِ يزيدُ ثَوابَه وأجرَه، فيزدادُ الثَّوابُ بالمَشَقَّةِ، كما أنَّ مَن كان بُعدُه عنِ البَيتِ في الحَجِّ والعُمرةِ أكثَرَ: يكونُ أجرُه أعظَمَ مِنَ القَريبِ، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعائِشةَ في العُمرةِ: ((أجرُكِ على قَدْرِ نَصَبِك)) [1758] ينظر ما أخرجه البخاري (1787)، ومسلم (1211). ؛ لأنَّ الأجرَ على قدرِ العَمَل في بُعدِ المَسافةِ، وبالبُعدِ يكثُرُ النَّصَبُ فيكثُرُ الأجرُ، وكذلك الجِهادُ، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الماهِرُ بالقُرآنِ مَعَ السَّفَرةِ الكِرامِ البَرَرةِ، والذي يقرَؤُه ويتَتَعتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ)) [1759] أخرجه مسلم (798). . فكثيرًا ما يَكثُرُ الثَّوابُ على قدرِ المَشَقَّةِ والتَّعَبِ لا لأنَّ التَّعَبَ والمَشَقَّةَ مَقصودٌ مِنَ العَمَلِ، ولكن لأنَّ العَمَلَ مُستَلزِمٌ للمَشَقَّةِ والتَّعَبِ، هذا في شَرعِنا الذي رُفِعَت عنَّا فيه الآصارُ والأغلالُ ولم يُجعَلْ علينا فيه حَرَجٌ، ولا أُريدَ بنا فيه العُسرُ، وأمَّا في شَرعِ مَن قَبْلَنا فقد تَكونُ المَشَقَّةُ مَطلوبةً مِنهم. وكثيرٌ مِنَ العُبَّادِ يرى جِنس المَشَقَّةِ والألَمِ والتَّعَبِ مَطلوبًا مُقَرِّبًا إلى اللَّهِ؛ لِما فيه مِن نُفرةِ النَّفسِ عنِ اللَّذَّاتِ والرُّكونِ إلى الدُّنيا وانقِطاعِ القَلبِ عن عَلاقةِ الجَسَدِ، وهذا مِن جِنسِ زُهدِ الصَّابئةِ والهندِ وغَيرِهم؛ ولهذا تَجِدُ هؤلاء مَعَ مَن شابَهَهم مِنَ الرُّهبانِ يُعالجونَ الأعمالَ الشَّاقَّةَ الشَّديدةَ المُتعِبةَ مِن أنواعِ العِباداتِ والزَّهاداتِ مَعَ أنَّه لا فائِدةَ فيها ولا ثَمَرةَ لها ولا مَنفعةَ، إلَّا أن يكونَ شَيئًا يسيرًا لا يُقاوِمُ العَذابَ الأليمَ الذي يجِدونَه) [1760] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 620-623). .
وقال أيضًا: (مِمَّا ينبَغي أن يُعرَفَ أنَّ اللَّهَ ليس رِضاه أو مَحَبَّتُه في مُجَرَّدِ عَذابِ النَّفسِ وحَملِها على المَشاقِّ، حتَّى يكونَ العَمَلُ كُلَّما كان أشَقَّ كان أفضَلَ، كما يحسَبُ كثيرٌ مِنَ الجُهَّالِ أنَّ الأجرَ على قدرِ المَشَقَّةِ في كُلِّ شَيءٍ، لا، ولَكِنَّ الأجرَ على قدرِ مَنفعةِ العَمَلِ ومَصلَحتِه وفائِدتِه، وعلى قَدرِ طاعةِ أمرِ اللَّهِ ورَسولِه، فأيُّ العَمَلَينِ كان أحسَنَ، وصاحِبُه أطوعَ وأتبَعَ، كان أفضَلَ؛ فإنَّ الأعمالَ لا تَتَفاضَلُ بالكثرةِ، وإنَّما تَتَفاضَلُ بما يحصُلُ في القُلوبِ حالَ العَمَلِ) [1761] ((مجموع الفتاوى)) (25/ 281، 282). .
وقال الكَرْمانيُّ: (الثَّوابُ ليس بلازِمٍ أن يكونَ على قدرِ المَشَقَّةِ، ألا تَرى في التَّلَفُّظِ بكَلِمةِ الشَّهادةِ مِنَ الثَّوابِ ما ليس في الكثيرِ مِنَ العِباداتِ الشَّاقَّةِ، وكذا الكَلِمةُ المُتَضَمِّنةُ لتَمهيدِ قاعِدةِ خَيرٍ عامٍّ ونَحوِها) [1762] ((الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)) (5/ 191، 192). .

انظر أيضا: