موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- نماذِجُ مِن الإنصاتِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


مِن خُلقِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أن يُنصِتَ للمُتكلِّمِ، وسيرتُه المُبارَكةُ ملأى بأمثلةِ ذلك، ومنه:
1- أنصَت النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ رضِي اللهُ عنها تُحدِّثُه خبرًا طويلًا فيه ذِكرُ بعضِ أمورِ الجاهليَّةِ وأحوالِهم، حتى إذا فرغَت طيَّب قَلبَها بقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((كنْتُ لكِ كأبي زَرعٍ لأمِّ زَرعٍ)) [983] أخرجه البخاري (5189)، ومسلم (2448). .
2- واستمَع النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى تميمٍ الدَّاريِّ يُحدِّثُه عن الجسَّاسةِ، ثُمَّ جمَع النَّاسَ، فقال: ((أتدرونَ لِمَ جمعْتُكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: إنِّي واللهِ ما جمعْتُكم لرغبةٍ ولا لرهبةٍ، ولكن جمعْتُكم لأنَّ تميمًا الدَّاريَّ كان رجُلًا نصرانيًّا، فجاء، فبايَع وأسلَم، وحدَّثني حديثًا وافَق الذي كنْتُ أحدِّثُكم عن مسيحِ الدَّجَّالِ، حدَّثني أنَّه...)) [984] أخرجه مسلم (2942) من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها. .
3- ولم يكنْ يخُصُّ أهلَ الإيمانِ بإصغائِه، بل عمَّ إنصاتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جميعَ النَّاسِ؛ العَدوَّ منهم والصَّديقَ، فكان المُنافِقونَ يُؤذونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويقولونَ ما لا ينبغي، فيقولُ بعضُهم: لا تفعَلوا؛ فإنَّا نخافُ أن يبلغَه ما تقولونَ، فيقعَ بنا، فقال بعضُهم: بل نقولُ ما شِئْنا، ثُمَّ نأتيه فنُنكِرُ ما قُلْنا، ونحلِفُ فيُصدِّقُنا بما نقولُ؛ فإنَّما مُحمَّدٌ أُذُنٌ، أي: أُذُنٌ سامِعةٌ، يكثُرُ استعمالُه لها في الإصغاءِ بها، فيسمعُ كُلَّ ما يُقالُ له ويُصدِّقُه، قال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة: 61] [985] ((التفسير)) لأبي المظفر السمعاني (2/ 322)، ((معالم التنزيل)) للبغوي (4/ 67)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/ 272). .
بل كان يُنصِتُ للمُشرِكين؛ فقد أرسَلَت قُرَيشٌ عُتبةَ بنَ ربيعةَ -وهو رجُلٌ رَزينٌ هادِئٌ-، فذهَب إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : يا بنَ أخي، إنَّك منَّا حيثُ قد علِمْتَ مِن المكانِ في النَّسبِ، وقد أتَيتَ قومَك بأمرٍ عظيمٍ، فرقَّت به جماعتُهم؛ فاسمَع منِّي أعرِضْ عليك أمورًا لعلَّك تقبلُ بعضَها: إن كنْتَ إنَّما تُريدُ بهذا الأمرِ مالًا جمَعْنا لك مِن أموالِنا حتَّى تكونَ أكثَرَنا مالًا، وإن كنْتَ تُريدُ شرفًا سوَّدْناك علينا فلا نقطَعُ أمرًا دونَك، وإن كنْتَ تُريدُ مُلكًا ملَّكْناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئيًّا تراه لا تستطيعُ ردَّه عن نَفسِك طلبْنا لك الطِّبَّ، وبذلْنا فيه أموالَنا حتَّى تبرَأَ، فلمَّا فرَغ من قولِه تلا رسولُ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صَدرَ سورةِ فُصِّلَتْ: حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت: 1 - 7] [986] أخرجه البيهقي في ((دلائل النبوة)) (2/402)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (38/246) من حديث محمد بن كعب القرظي. وحسَّن إسناده الألباني في تخريج فقه السيرة (107). .

انظر أيضا: