موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجزِ والكَسَلِ، والجُبنِ والبُخلِ، وضَلَعِ الدَّينِ [1030] أي: ثِقَلُ الدَّينِ وشِدَّتُه، وذلك حيثُ لا يجِدُ مَن عليه الدَّينُ وَفاءً، ولا سيَّما مع المطالبةِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 174). ، وغَلَبةِ الرِّجالِ)) [1031] أخرجه البخاري (6369) واللفظ له، ومسلم (2706). .
يقولُ ابنُ القَيِّمِ تعليقًا على هذا الحديثِ: (...ثمَّ ذكَر الجُبنَ والبُخلَ؛ فإنَّ الإحسانَ المتوقَّعَ من العبدِ إمَّا بمالِه وإمَّا ببَدَنِه؛ فالبخيلُ مانعٌ لنفعِ مالِه، والجبانُ مانعٌ لنَفعِ بَدَنِه ...) [1032] يُنظَر: ((مفتاح دار السعادة)) (1/113). .
وقال: (والجُبنُ والبُخلُ قرينانِ؛ فإن عُدِم النَّفعُ منه إن كان ببَدَنِه فهو الجُبنُ، وإن كان بمالِه فهو البُخلُ) [1033] يُنظَر: ((الجواب الكافي)) (ص: 73). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((ضرب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَثَلَ البخيلِ والمتصَدِّقِ، كمَثَلِ رجُلَينِ عليهما جُنَّتانِ [1034] الجُنَّةُ: ما استُتِر به من سلاحٍ أو غيرِه. والجُنَّةُ: التُّرسُ. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 442). من حديدٍ، قد اضطُرَّت [1035] قد اضطُرَّت أيديهما: شُدَّت وعُصِرت وضُمَّت وأُلصِقَت. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) لملا علي القاري (4/1320). أيديهما إلى ثُدِيِّهِما وتَراقيهما [1036] التَّراقي: جمعُ تَرقُوةٍ، وللإنسانِ تَرقُوتانِ: وهما العظمانِ المُشرفانِ في أعلى الصَّدرِ. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 442). ، فجعَل المتصَدِّقُ كُلَّما تصدَّق بصَدَقةٍ انبسَطَت عنه، حتى تغشى أنامِلَه وتَعفوَ أثرَه [1037] أي: تستُرُ جميعَ بَدَنِه. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 442). ، وجعَل البخيلُ كُلَّما همَّ بصَدَقةٍ قلَصَت [1038] قلَصَت: أي: تضامَّت واجتَمَعت. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (3/ 442). ، وأخذَت كُلُّ حَلقةٍ مَكانَها، قال: فأنا رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ بإصبَعِه في جيبِه، فلو رأيتَه يُوسِّعُها ولا تتوَسَّعُ)) [1039] أخرجه البخاري (5797)، ومسلم (1021) واللفظ له. .
قال ابنُ القَيِّمِ تعليقًا على هذا الحديثِ: (لمَّا كان البخيلُ محبوسًا عن الإحسانِ، ممنوعًا عن البِرِّ والخيرِ، وكان جزاؤه من جِنسِ عَمَلِه؛ فهو ضَيِّقُ الصَّدرِ، ممنوعٌ من الانشراحِ، ضَيِّقُ العَطَنِ، صغيرُ النَّفسِ، قليلُ الفَرَحِ، كثيرُ الهَمِّ والغَمِّ والحُزنِ، لا يكادُ تُقضى له حاجةٌ، ولا يُعانُ على مطلوبٍ؛ فهو كرجُلٍ عليه جُبَّةٌ من حديدٍ قد جُمِعَت يداه إلى عنُقِه، بحيث لا يتمكَّنُ من إخراجِها ولا حركتِها، وكلَّما أراد إخراجَها أو توسيعَ تلك الجُبَّةِ، لَزِمَت كُلُّ حلقةٍ من حِلَقِها مَوضِعَها، وهكذا البخيلُ كُلَّما أراد أن يتصدَّقَ منعَه بُخلُه فبَقِيَ قلبُه في سِجنِه كما هو) [1040] يُنظَر: ((الوابل الصيب)) (ص: 33). .
- وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: لمَّا قَدِم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا بني سَلِمةَ مَن سَيِّدُكم قالوا: الجَدُّ بنُ قَيسٍ وإنَّا لنُبَخِّلُه! قال: وأيُّ داءٍ أدوى من البُخلِ؟! بل سَيِّدُكم الخيرُ الأبيضُ عَمرُو بنُ الجَموحِ)). قال: وكان على أضيافِهم في الجاهليَّةِ، قال: وكان يُولِمُ على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا تزوَّجَ [1041] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (296)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (2705)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (10859) واللفظ له.  صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (296)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (236)، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (329): (إسنادُه رجالُه رجالُ الصَّحيحِ غيرَ حُمَيدِ بنِ الرَّبيعِ، وهو ثقةٌ). .
قال المُناويُّ: (أيُّ عَيبٍ أقبَحُ منه؛ لأنَّ من تَرَك الإنفاقَ خَوفَ الإملاقِ لم يُصَدِّقِ الشَّارعَ، فهو داءٌ مُؤلِمٌ لصاحِبِه في الآخِرةِ، وإن لم يكُنْ مؤلِمًا في الدُّنيا) [1042] يُنظَر: ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (2/482). .
- وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اتَّقوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ، واتَّقوا الشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلَك من كان قَبلَكم، حمَلَهم على أن سفَكوا دماءَهم، واستحَلُّوا محارِمَهم)) [1043] أخرجه مسلم (2578). .
قال النَّوويُّ: (قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((واتَّقوا الشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلَك من كان قَبلَكم)). قال القاضي: يحتَمَلُ أنَّ هذا الهلاكَ هو الهلاكُ الذي أخبر عنهم به في الدُّنيا بأنَّهم سفَكوا دماءَهم، ويحتَمَلُ أنَّه هلاكُ الآخرةِ، وهذا الثَّاني أظهَرُ، ويحتَمَلُ أنَّه أهلكَهم في الدُّنيا والآخِرةِ) [1044] يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/134). وينظر أيضًا: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (8/ 48). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يتقارَبُ الزَّمانُ [1045] يتقارَبُ الزَّمانُ: أي: في الشَّرِّ حتى يُشبِهَ أوَّلُه آخِرَه، أو أحوالِ النَّاسِ في غَلَبةِ الفسادِ عليهم، أو المرادُ قِصَرُ أعمارِ أهلِه، أو تسارُعُ الدُّوَلِ في الانقضاءِ، والقُرونِ إلى الانقراضِ، فيتقارَبُ زمانُهم. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (9/ 33). ، ويَنقُصُ العَمَلُ [1046] ويَنقُصُ العَمَلُ: أي: بالطَّاعاتِ لاشتغالِ النَّاسِ بالدُّنيا. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (9/ 33). ، ويُلقى الشُّحُّ، وتظهَرُ الفِتَنُ، ويَكثُرُ الهَرْجُ. قالوا: يا رسولَ اللهِ، أَيُّمَ هو [1047] أي: أيُّ شيءٍ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (10/ 173). ؟ قال: القَتلُ القَتلُ)) [1048] أخرجه البخاري (7061) واللفظ له، ومسلم (157). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (أمَّا قولُه: ويُلقى الشُّحُّ. فالمرادُ إلقاؤه في قُلوبِ النَّاسِ على اختلافِ أحوالِهم؛ حتى يبخَلَ العالِمُ بعِلمِه، فيَترُكَ التَّعليمَ والفتوى، ويَبخَلَ الصَّانعُ بصناعتِه حتى يترُكَ تعليمَ غيرِه، ويبخَلَ الغنيُّ بمالِه حتى يَهلِكَ الفقيرُ، وليس المرادُ وجودَ أصلِ الشُّحِّ؛ لأنَّه لم يَزَلْ موجودًا) [1049] يُنظَر: ((فتح الباري)) (13/17). .
وقال ابنُ الجوزيِّ: (قولُه: يُلقى الشُّحُّ. على وجهَينِ: أحَدُهما: يُلقى من القُلوبِ، يدُلُّ عليه قولُه: ويَفيضُ المالُ. والثَّاني: يُلقى في القُلوبِ، فيُوضَعُ في قَلبِ من لا شُحَّ عِندَه، ويزيدُ في قلبِ الشَّحيحِ. ووجهُ هذا أنَّ الحديثَ خارِجٌ مخرَجَ الذَّمِّ؛ فوقوعُ الشُّحِّ في القلوبِ مع كثرةِ المالِ أبلَغُ في الذَّمِّ) [1050] يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (3/327). .

انظر أيضا: