موسوعة الأخلاق والسلوك

ثانيًا: الفَرْقُ بَيْنَ البُخلِ والشُّحِّ


اختلف أهلُ العِلمِ في البُخلِ والشُّحِّ: هل هما مترادفانِ أو لكُلِّ واحدٍ منهما معنًى غيرُ معنى الآخَرِ، وقد بَيَّنَ الطِّيبيُّ أنَّ الفَرْقَ بَيْنَهما عسيرٌ جِدًّا [1008] يُنظَر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (28/ 94). ، وسنعرِضُ هنا بعضًا من أقوالِ العُلَماءِ في الفَرْقِ بَيْنَهما:
- فقد فَرَّق ابنُ عُمَرَ بَيْنَ الشُّحِّ والبُخلِ، فقال: (ليس الشُّحُّ أن يمنَعَ الرَّجلُ مالَه، ولكِنَّه البُخلُ، وإنَّه لشَرٌّ، إنَّما الشُّحُّ أن تطمَحَ عينُ الرَّجُلِ إلى ما ليس له) [1009] أخرجه عبدُ بن حُمَيد، وابن المنذر، وابن مردويه، كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/107). .
- وقيل: إنَّهما مترادِفانِ لهما المعنى نفسُه [1010] يُنظَر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/220). .
- (وقيل: البُخلُ: الامتناعُ من إخراجِ ما حصَل عندك، والشُّحُّ: الحِرصُ على تحصيلِ ما ليس عندك) [1011] يُنظَر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (4/293). .
- وقيل: (البُخلُ منعُ الواجِبِ، والشُّحُّ منعُ المُستحَبِّ) [1012] يُنظَر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/396). . واستدلَّ أصحابُ هذا القولِ على أنَّ البُخلَ هو منعُ الواجِبِ بأمورٍ:
أحَدُها: أنَّه قد جاء الوعيدُ الشَّديدُ في البُخلِ، ومنه قولُه تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 180] ، والوعيدُ لا يليقُ إلَّا بالواجِبِ.
وثانيها: أنَّه تعالى ذمَّ البُخلَ وعابه، ومنعُ التَّطوُّعِ لا يجوزُ أن يُذَمَّ فاعِلُه، وأن يُعابَ به.
وثالثُها: وهو أنَّه تعالى لا ينفَكُّ عن تَركِ التَّفضُّلِ؛ لأنَّه لا نهايةَ لمقدوراتِه في التَّفضُّلِ، وكلُّ ما يدخُلُ في الوجودِ فهو مُتناهٍ، فيكونُ لا محالةَ تاركًا التَّفضُّلَ، فلو كان تَركُ التَّفضُّلِ بُخلًا لَزِم أن يكونَ اللهُ تعالى موصوفًا بالبُخلِ لا محالةَ، تعالى اللهُ عزَّ وجَلَّ عنه عُلُوًّا كبيرًا.
ورابعُها: قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((وأيُّ داءٍ أدوَأُ [1013] داءٍ أدوَأُ: أيُّ عيبٍ أقبَحُ. يُنظَر: ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) للمناوي (2/ 482). من البُخلِ؟)) [1014] أخرجه البخاري (4383) مطوَّلًا من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. . ومعلومٌ أنَّ تارِكَ التَّطوُّعِ لا يليقُ به هذا الوصفُ.
وخامِسُها: أنَّه لو كان تارِكُ التَّفضُّلِ بخيلًا لوجب فيمن يملِكُ المالَ كُلَّه العظيمَ ألَّا يتخَلَّصَ من البُخلِ إلَّا بإخراجِ الكُلِّ.
وسادِسُها: أنَّه تعالى قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] ، وكَلِمةُ مِنْ للتَّبعيضِ، فكان المرادُ مِن هذه الآيةِ: الذين يُنفِقون بعضَ ما رزَقَهم اللهُ، ثمَّ إنَّه تعالى قال في صِفتِهم: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5] . فوصَفَهم بالهُدى والفلاحِ، ولو كان تارِكُ التَّطوُّعِ بخيلًا مذمومًا لَمَا صحَّ ذلك؛ فثبَتَ أنَّ البُخلَ عبارةٌ عن تَركِ الواجِبِ [1015] يُنظَر: ((مفاتيح الغيب)) للرازي (9 / 444). .
أمَّا الدَّليلُ على كَونِ الشُّحِّ منْعَ المستحَبِّ فقَولُه تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] ، والإيثارُ مُستحَبٌّ، وسُمِّي منعُه شُحًّا [1016] يُنظَر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/396). . واعتُرِض على ذلك وسيأتي بيانُه.
- وقيل: (البُخلُ هو المنعُ من مالِ نَفسِه، والشُّحُّ: هو بُخلُ الرَّجلِ من مالِ غيرِه ...) [1017] ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 42). .
- وقيل: (البُخلُ هو نفسُ المنعِ، والشُّحُّ الحالةُ النَّفسيَّةُ التي تقتَضي ذلك المنعَ) [1018] يُنظَر: ((الكليات)) للكفوي (1 /361). .
- وقيل: إنَّ الشُّحَّ هو البُخلُ مع زيادةِ الحِرصِ، وهو ما رجَّحه القُرطبيُّ، فقال: (وقيل: إنَّ الشُّحَّ هو البُخلُ مع حِرصٍ. وهو الصَّحيحُ؛ لِما رواه مُسلِمٌ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اتَّقوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ، واتَّقوا الشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلَك مَن كان قَبلَكم؛ حمَلَهم على أنْ سَفَكوا دِماءَهم، واستحَلُّوا محارِمَهم)) [1019] رواه مسلم (2578). . وهذا يرُدُّ قولَ من قال: إنَّ البُخلَ منعُ الواجِبِ، والشُّحَّ مَنعُ المُستحَبِّ؛ إذ لو كان الشُّحُّ مَنعَ المُستحَبِّ لَما دخل تحتَ هذا الوعيدِ العظيمِ والذَّمِّ الشَّديدِ الذي فيه هلاكُ الدُّنيا والآخرةِ. ويؤيِّدُ هذا المعنى ما رواه النَّسائيُّ عن أبي هُرَيرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يجتَمِعُ غُبارٌ في سبيلِ اللهِ ودُخانُ جهنَّمَ في مَنخِرَي رجلٍ مُسلِمٍ أبدًا، ولا يجتَمِعُ شُحٌّ وإيمانٌ في قلبِ رُجلٍ مُسلِمٍ أبدًا)) [1020] أخرجه النسائي (3111) واللفظ له، وأحمد (8512). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (3251)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3111)، وشعيب الأرناؤوط بطرقه وشواهده في تخريج ((مسند أحمد)) (8512)، وصحَّح إسنادَه الطبري في ((مسند عمر)) (1/102). ) [1021] يُنظَر: ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/293). .
- ويرى ابنُ القَيِّمِ أنَّ (الفَرْقَ بَيْنَ الشُّحِّ والبُخلِ: أنَّ الشُّحَّ هو شِدَّةُ الحِرصِ على الشَّيءِ، والإحفاءُ في طلَبِه، والاستقصاءُ في تحصيلِه، وجَشَعُ النَّفسِ عليه، والبُخلُ: منعُ إنفاقِه بعدَ حُصولِه، وحُبُّه وإمساكُه، فهو شحيحٌ قبلَ حُصولِه، بخيلٌ بعدَ حُصولِه؛ فالبُخلُ ثمَرةُ الشُّحِّ، والشُّحُّ يدعو إلى البُخلِ، والشُّحُّ كامِنٌ في النَّفسِ، فمَن بَخِل فقد أطاع شُحَّه، ومَن لم يبخَلْ فقد عصى شُحَّه ووُقِيَ شَرَّه، وذلك هو المُفلِحُ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] ) [1022] يُنظَر: ((الوابل الصيب)) (ص: 33). .

انظر أيضا: