موسوعة الأخلاق والسلوك

سادِسًا: الوَسائِلُ المُعينةُ على تَركِ الانتِقامِ


من الوَسائِلِ المُعينةِ على تَركِ الانتِقامِ:
1- أن يخَوِّفَ نفسَه من انتقامِ اللهِ إن أمضى انتقامَه؛ قال تعالى: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم: 5] . قال: (أيَّامُه التي انتَقَم فيها من أهلِ معاصيه من الأُمَمِ، خوِّفْهم بها، وحذِّرْهم إيَّاها، وذَكِّرْهم أن يُصيبَهم ما أصاب الذين مِن قَبلِهم) [950] ((جامع البيان)) للطبري (13/597). .
2- العَفوُ والصَّفحُ:
الإنسانُ إذا عفا وأحسَنَ، أورَثَه ذلك من سلامةِ القَلبِ لإخوانِه، ونقائِه من طَلَبِ الانتِقامِ وإرادةِ الشَّرِّ، وحَصَل له من حلاوةِ العَفوِ ما يزيدُ لذَّتَه ومنفعتَه عاجِلًا وآجِلًا [951] ((جامع المسائل)) لابن تيمية (1/170). .
قال ابنُ حِبَّانَ: (ولم يُقرَنْ شَيءٌ إلى شيءٍ أحسَنُ من عَفوٍ إلى مَقدِرةٍ، والحِلمُ أجملُ ما يكونُ من المقتَدِرِ على الانتِقامِ) [952] ((روضة العقلاء)) (ص: 208). .
عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (قَدِم عُيَينةُ بنُ حِصنِ بنِ حُذَيفةَ، فنزَل على ابنِ أخيه الحُرِّ بنِ قيسٍ، وكان مِن النَّفرِ الذين يُدنيهم عُمرُ، وكان القُرَّاءُ أصحابَ مجالِسِ عُمرَ ومُشاورتِه، كُهولًا كانوا أو شُبَّانًا، فقال عُيَينةُ لابنِ أخيه: يا بنَ أخي، هل لك وَجهٌ عندَ هذا الأميرِ؟ فاستأذِنْ لي عليه. قال: سأستأذِنُ لك عليه، قال ابنُ عبَّاسٍ: فاستأذَن الحُرُّ لعُيَينةَ، فأذِن له عُمرُ، فلمَّا دخَل عليه قال: هيْ يا بنَ الخطَّابِ! فواللهِ ما تُعطينا الجَزْلَ، ولا تحكُمُ بَينَنا بالعَدْلِ! فغضِب عُمرُ حتَّى همَّ أن يوقِعَ به! فقال له الحُرُّ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، إنَّ اللهَ تعالى قال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عِنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] ، وإنَّ هذا مِن الجاهِلينَ. واللهِ ما جاوَزها عُمرُ حينَ تلاها عليه، وكان وقَّافًا عندَ كتابِ اللهِ) [953] أخرجه البخاري (4642). .
وعن ابنِ السَّمَّاكِ أنَّ رَجُلًا من قُرَيشٍ عظيمَ الخَطَرِ في سالِفِ الدَّهرِ، كان يطالِبُ رَجُلًا بذَحْلٍ [954] أي: بثأرٍ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 112). ، وألحَّ في طلَبِه، فلمَّا ظَفِر به قال: لولا أنَّ المَقدِرةَ تَذهَبُ بالحفيظةِ لانتقَمْتُ منك، ثمَّ عفا عنه [955] ((المجالسة وجواهر العلم)) للدينوري (3/429). .
3- كَظمُ الغَيظِ:
قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133-134] .
قال السَّعديُّ: (قَولُه تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ أي: إذا حَصَل لهم من غيرِهم أذيَّةٌ تُوجِبُ غيظَهم، وهو امتلاءُ قُلوبِهم من الَحَنِق الموجِبِ للانتقامِ بالقولِ والفِعلِ، هؤلاء لا يعمَلون بمقتضى الطِّباعِ البَشَريَّةِ، بل يَكظِمون ما في القلوبِ من الغَيظِ، ويَصبِرون عن مقابَلةِ المسيءِ إليهم) [956] ((تيسير الكريم الرحمن)) (1/148). .
4- تجنُّبُ السُّخريةِ والاستِهزاءِ:
فشُيوعُ أمثالِ هذه الأخلاقِ يَبذُرُ بُذورَ العداوةِ والبغضاءِ بَيْنَ النَّاسِ، ويُولِّدُ الرَّغبةَ في الانتِقامِ.
5- الخَوفُ من ضَياعِ الزَّمانِ والعُمُرِ وفَوتِ المصالِحِ:
أن يَعلَمَ أنَّه إذا اشتغَلَت نفسُه بالانتِقامِ وطَلَبِ المقابلةِ، ضاع عليه زمانُه، وتفَرَّق عليه قلبُه، وفاته من مصالحِه ما لا يمكِنُ استِدراكُه [957] ((جامع المسائل)) لابن تيمية (1/170). .
6- العِلمُ بأنَّ في الانتِقامِ زيادةَ شَرِّ الخُصومةِ.
7- فراغُ القَلبِ من الاشتغالِ به والفِكرِ فيه:
وأن يقصِدَ أن يمحوَه من بالِه كلَّما خطَر له، فلا يلتَفِتُ إليه، ولا يخافُه، ولا يملأُ قَلبَه بالفِكرِ فيه [958] ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/465). .
8- الإقبالُ على اللهِ والإخلاصُ له، وذلك في كُلِّ وقتٍ وحينٍ.
9- دَفعُ أسبابِ الانتِقامِ، ومنها الغَضَبُ، ولا يأتي إلَّا عِندَ هَيَجانِه، فلا بدَّ من معرفةِ علاجِ الغضَبِ عِندَ هَيَجانهِ؛ حتى يتسَنَّى للمرءِ التَّخلُّصُ من الرَّغبةِ في الانتِقامِ، وإنَّما يُعالَجُ الغَضَبُ عِندَ هَيَجانِه بمعجونِ العِلمِ والعَمَلِ، وأمَّا العِلمُ فهو أمورٌ:
الأوَّلُ: أن يتفَكَّرَ فيما ورَد في فَضلِ كَظمِ الغيظِ والعَفوِ والحِلمِ والاحتمالِ، فيرغَبَ في ثوابِه، وتمنَعَه الرَّغبةُ في الأجرِ عن الانتِقامِ، وينطَفِئَ عنه غيظُه.
الثَّاني: أن يخَوِّفَ نفسَه بعقابِ اللهِ لو أمضى غضَبَه، وهل يأمَنُ مِن غضَبِ اللهِ يومَ القيامةِ، وهو أحوَجُ ما يكونُ إلى العَفوِ.
الثَّالِثُ: أن يحذِّرَ نفسَه عاقبةَ العداوةِ والانتِقامِ، وتَشَمُّرَ العَدُوِّ لمقابلتِه، والسَّعيَ في هَدمِ أغراضِه، والشَّماتةَ بمصائبِه، وهو لا يخلو عن المصائبِ، فيُخَوِّفُ نفسَه بعواقِبِ الغضَبِ في الدُّنيا، إن كان لا يخافُ من الآخِرةِ.
الرَّابعُ: أن يتفَكَّرَ في قُبحِ صورتِه عِندَ الغَضَبِ، بأن يتذكَّرَ صورةَ غيرِه في حالةِ الغَضَبِ، ويتفَكَّرَ في قُبحِ الغضَبِ في نفسِه، ومشابهةِ صاحِبِه للكَلبِ الضَّاري والسَّبُعِ العادي، ومشابَهةِ الحليمِ الهادي التَّارِكِ للغَضَبِ للأنبياءِ والأولياءِ والعُلَماءِ والحُكَماءِ، ويخيِّرَ نفسَه بَيْنَ أن يتشَبَّهَ بالكِلابِ والسِّباعِ وأراذِلِ النَّاسِ، وبَينَ أن يتشَبَّهَ بالعُلَماءِ والأنبياءِ في عادتِهم؛ لتميلَ نفسُه إلى حُبِّ الاقتداءِ بهؤلاء إن كان قد بَقِيَ معه مُسْكةٌ من عَقلٍ.
الخامِسُ: أن يتفَكَّرَ في السَّبَبِ الذي يدعوه إلى الانتِقامِ، ويمنَعُه من كَظمِ الغيظِ، مِثلُ قولِ الشَّيطانِ له: إنَّ هذا يُحمَلُ منك على العَجزِ والذِّلَّةِ وتصيرُ حقيرًا في أعيُنِ النَّاسِ! فيقولُ لنفسِه: (ما أعجَبَكِ! تأنفينَ من الاحتمالِ الآنَ، ولا تأنفينَ مِن خزيِ يومِ القيامةِ، ولا تحذَرينَ من أن تَصغُري عِندَ اللهِ والملائكةِ والنَّبيِّين!). فمهما كظَمَ الغيظَ فينبغي أن يَكظِمَه للهِ، وذلك يُعَظِّمُه عِندَ اللهِ، فما له وللنَّاسِ؟!
السَّادِسُ: أن يَستشعِرَ لذَّةَ العَفوِ، فلو عَلِم النَّاسُ أنَّ لذَّةَ العَفوِ خيرٌ من لذَّةِ التَّشفِّي؛ لأنَّ العفوَ يأتي بالحَمدِ، والتَّشَفِّيَ يأتي بالنَّدَمِ، لو عَلِموا هذا ما انتقم لنفسِه إنسانٌ؛ لأنَّه لو فعَل كُلُّ إنسانٍ هذا وانتقم لنفسِه، لانحطَّ عالَمُ الإنسانِ إلى دَرَكِ السِّباعِ والوُحوشِ.
وأمَّا العَمَلُ فأن تقولَ بلِسانِك: أعوذُ باللهِ من الشَّيطانِ الرَّجيمِ، وإن كنتَ قائمًا فاجلِسْ، وإن كنتَ جالِسًا فاضطَجِعْ، ويُستَحَبُّ أن يتوضَّأَ بالماءِ البارِدِ؛ فإنَّ الغَضَبَ من النَّارِ، والنَّارُ لا يطفِئُها إلَّا الماءُ [959] ((موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين)) للقاسمي (ص: 208) وما بعدها، بتصَرُّفٍ وزيادةٍ. .

انظر أيضا: