موسوعة الأخلاق والسلوك

نماذجُ من المدحِ المذمومِ


- عن الرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوِّذٍ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخَلَ عليها غَداةَ بُنيَ عليها، وجُويرياتٌ يَضرِبنَ بالدُّفِّ، يَندُبنَ مَن قُتلَ مِن آبائِهنَّ يومَ بَدرٍ، حتَّى قالت جاريةٌ: وفينا نَبيٌّ يعلَمُ ما في غَدٍ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَقولي هَكذا، وقُولي ما كُنتِ تَقولينَ)) [497] أخرجه البخاري (4001). .
فلَمَّا بالَغَت في مَدحِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَسَبَت إليه العِلمَ بما في غَدٍ نَهاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَنعَها.
- ومِن الغُلوِّ في المَدحِ والإطراءِ قَولُ البوصيريِّ:
يا أكرَمَ الخَلقِ ما لي مَن ألوذُ به
سِواك عِندَ حُلولِ الحادِثِ العَمَمِ
إنْ لَم تَكُنْ في مَعادي آخِذًا بيدي
فضلًا وإلَّا فقُلْ: يا زَلَّةَ القدَمِ
فإنَّ مِن جودِك الدُّنيا وضَرَّتَها
ومِن عُلومِك عِلمُ اللَّوحِ والقَلَمِ [498] يُنظر: ((فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)) لعبد الرحمن بن حسن (ص: 414). .
- ومِن الإطراءِ في المَدحِ قَولُ مُحَمَّدِ بنِ هانِئٍ الشَّاعِرِ الأندَلُسيِّ مُغاليًا في مَدحِ المُعِزِّ حتَّى كَفَّرَه العُلَماءُ:
ما شِئتَ لا ما شاءَت الأقدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحِدُ القَهَّارُ [499] ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/ 305). .
- ومن ذلك أنَّ طَهَ حُسَين كان طالبًا بالجامِعةِ المِصريَّةِ القديمةِ، وتَقَرَّرَ إرسالُه في بَعثةٍ إلى أوروبَّا، فأرادَ السُّلطانُ حُسَين سُلطانُ مِصرَ ومَلِكُ السُّودانِ في حينِها أن يُكرِمَه بعَطفِه ورِعايتِه، فاستَقبَله في قَصرِه استِقبالًا كريمًا، وحباه هَديَّةً قيِّمةَ المَغزى والمَعنى. وكان من خُطَباءِ المساجِدِ التَّابِعين لوزارةِ الأوقافِ خطيبٌ فَصيحٌ مُتكَلِّمٌ، هو الشَّيخُ محَّمد المهدي، وكان السُّلطانُ حُسَين رحمه اللَّهُ مواظِبًا على صلاةِ الجُمُعةِ في حفلٍ فخمٍ جليلٍ يحضُرُه العُلَماءُ والوُزَراءُ والكُبَراءُ، فصَلَّى الجُمُعةَ يومًا ما بمسجِدٍ قريبٍ مِن قَصرِ عابدين العامِرِ، وندَبَت وزارةُ الأوقافِ ذاك الخطيبَ لذلك اليومِ، وأراد الخطيبُ أن يمدَحَ عَظَمةَ السُّلطانِ، ولكِنْ خانَتْه فصاحتُه، وغلَبَه حُبُّ التَّغالي في المَدحِ، فزَلَّ زَلَّةً لم تَقُمْ له قائمةٌ من بعدِها؛ إذ قال أثناءَ خُطبتِه: (جاءه الأعمى فما عَبَس في وَجهِه وما تولَّى!) وكان من شُهودِ هذه الصَّلاةِ الشَّيخُ محمَّد شاكِر وكيلُ الأزهَرِ سابقًا رحمه اللَّهُ. فقام بعدَ الصَّلاةِ يُعلِنُ النَّاسَ في المسجِدِ أنَّ صلاتَهم باطلةٌ، وأمَرَهم أن يعيدوا صلاةَ الظُّهرِ، فأعادوها؛ ذلك بأنَّ الخطيبَ كَفَر بما شَتَم رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تعريضًا لا تصريحًا؛ لأنَّ اللَّه سُبحانَه عَتَب على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ جاءه ابنُ أمِّ مكتومٍ الأعمى، وهو يُحَدِّثُ بعضَ صناديدِ قُرَيشٍ يدعوهم إلى الإسلامِ، فأعرَض عن الأعمى قليلًا حتَّى يَفرُغَ من حديثِه، فأنزل اللَّهُ عتابَ رَسولِه في هذه السُّورةِ الكريمةِ. ثمَّ جاء هذا الخطيبُ الأحمَقُ الجاهِلُ، يريدُ أن يتمَلَّقَ عَظَمةَ السُّلطانِ رحمه اللَّهُ، فمدحه بما يوهِمُ السَّامِعَ أنَّه يريدُ إظهارَ منقَبةٍ لعظَمتِه، بالقياسِ إلى ما عاتب اللَّهُ عليه رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [500] ((كلمة الحق)) لأحمد شاكر (ص: 149) . .
- ومن عادةِ الشُّعراءِ أن يمدَحوا أعيانَ أهلِ الدُّنيا، فإذا تضَعضَعوا واحتاجوا هَجَروهم وربَّما ذمُّوهم، وفي هذا يقولُ صالحُ بنُ جناحٍ اللَّخميُّ:
كم من صديقٍ لنا أيَّامَ دَولتِنا
وكان يمدَحُنا قد صار يَهجونا
إنِّي لأعجَبُ ممَّن كان يصحَبُنا
ما كان أكثَرُهم إلَّا يراؤُنا
لم نَدْرِ حتَّى انقضَت عنَّا إمارتُنا
من كان ينصَحُنا أو كان يُغوينا
من كان يُنصِفُنا ما كان يَصحَبُنا
إلَّا ليخدَعَنا عمَّا بأيدينا [501] ((الأدب والمروءة)) لصالح بن جناح اللخمي (ص: 31). .

انظر أيضا: