موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ من وقارِ الصَّحابةِ ورزانتِهم رَضِيَ اللهُ عنهم


أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه:
لقد برَزَت رزانةُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه في مواقِفَ كثيرةٍ، لعَلَّ أعجَبَها حينَ جاءه نبَأُ وفاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجاء ودخَل عليه في سكونٍ ووقارٍ، وثبَّت اللهُ قَلبَه وعَقلَه، فخَرَج إلى الصَّحابةِ رابِطَ الجأشِ رزينًا، يُثَبِّتُهم في تلك الظُّروفِ العَصيبةِ.
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، زوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مات وأبو بَكرٍ بالسُّنْحِ -قال إسماعيلُ «أحدُ رواةِ الحديثِ»: يعني بالعاليةِ [9805] العاليةُ، والعوالي أماكِنُ بأعلى أراضي المدينةِ، وأدناها من المدينةِ على أربعةِ أميالٍ، وأبعَدُها من جهةِ نَجدٍ ثمانية. يُنظَر: ((عمدة القاري)) للعيني (16/185). - فقامَ عُمرُ يَقولُ: واللهِ ما مات رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! قالت: وقال عُمرُ: واللهِ ما كان يَقَعُ في نَفسي إلَّا ذاكَ، وليَبعَثنَّهُ اللَّهُ فليَقْطَعنَّ أيديَ رَجالٍ وأرجُلَهم، فجاءَ أبو بَكْرٍ فكَشَفَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقَبَّلَه، فقال: بأبي أنت وأمِّي طِبتَ حَيًّا وميِّتًا، والَّذي نَفسي بيدِه لا يُذيقَنَّكَ اللَّهُ المَوتَتَين أبَدًا، ثُمَّ خَرج فقال: أيُّها الحالِفُ على رِسْلِكَ [9806] على رِسْلِك: أي: على مَهْلِك. يُنظَر: ((إرشاد الساري)) للقسطلَّاني (6/217). ، فلَمَّا تَكَلَّمَ أبو بَكرٍ جَلسَ عُمرَ، فحَمِدَ اللَّهَ أبو بَكْرٍ وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يَعبُدُ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنَّ مُحَمَّدًا قد مات، ومن كان يَعبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَموتُ) [9807] أخرجه البخاري (3667، 3668). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (وفي الحديثِ قُوَّةُ جأشِ أبي بَكرٍ وكثرةُ عِلمِه) [9808] ((فتح الباري)) (8/146). .
وقال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه في خَبَرِ سقيفةِ بني ساعِدةَ: (... فتكَلَّم أبو بكرٍ، فكان هو أحلمَ مني وأوقَرَ، واللهِ ما تَرَك من كَلِمةٍ أعجَبَتْني في تزويري إلَّا قال في بديهَتِه مِثلَها أو أفضَلَ منها حتَّى سَكَت...!) الحديث [9809] رواه البخاري (6830) مطوَّلًا من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
رزانةُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه في فَصلِ النِّزاعاتِ:
فحينَ أتاه عليُّ بنُ أبي طالِبٍ والعبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عنهما للقَضاءِ بَيْنَهما في فَيءِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بني النَّضيرِ، قال لهما عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: (اتَّئِدوا) [9810] أخرجه البخاري (4033) مطوَّلًا. .
فأمَرَهما بالتَّأنِّي والرَّزانةِ أوَّلًا، ثمَّ تكَلَّم رَضِيَ اللهُ عنه بكلامٍ رَزينٍ حكيمٍ، فكان ممَّا قال: (ثمَّ جِئْتُماني كِلاكما، وكَلِمَتُكما واحِدةٌ وأمْرُكما جميعٌ، فجِئْتَني -يعني عبَّاسًا- فقُلتُ لكما: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا نُورَثُ، ما تَرَكْنا صَدَقةٌ))، فلمَّا بدا لي أن أدفَعَه إليكما قُلتُ: إنْ شِئْتُما دفَعْتُه إليكما، على أنَّ عليكما عَهدَ اللهِ وميثاقَه: لَتَعملانِّ فيه بما عَمِل فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ وما عَمِلتُ فيه منذُ وَلِيتُ، وإلَّا فلا تُكَلِّماني، فقُلْتُما: ادفَعْه إلينا بذلك، فدفَعْتُه إليكما، أفتلتَمِسانِ منِّي قضاءً غيرَ ذلك، فواللهِ الذي بإذنِه تقومُ السَّماءُ والأرضُ، لا أقضي فيه بقضاءٍ غيرِ ذلك حتَّى تقومَ السَّاعةُ، فإنْ عجَزْتُما عنه فادفَعَا إليَّ، فأنا أكفيكُماه) [9811] أخرجه البخاري (4033) واللفظ له، ومسلم (1757). .
رزانةُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
فقد كانت رَضِيَ اللهُ عنها ذاتَ ثباتٍ ورزانةٍ ورجاحةِ عَقلٍ، وقد قال حسَّانُ بنُ ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عنه في مَدحِها:
حَصانٌ [9812] الحَصانُ -بالفَتحِ-: المرأةُ العفيفةُ. ينظر ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (1/397). رَزانٌ [9813] يُقالُ: امرأةٌ رَزانٌ -بالفَتحِ-، ورزينةٌ: إذا كانت ذاتَ ثَباتٍ ووَقارٍ وسُكونٍ. والرَّزانةُ في الأصلِ: الثِّقَلُ. ينظر ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (2/220). ما تُزَنُّ [9814] تُزَنُّ: مِن أزنَنْتُ فُلانًا بكذا، أي: اتَّهَمْتُه، وهو يُزَنُّ به. يُنظَر: ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص: 432). برِيبةٍ [9815] أي: ما تُرمى وتُقذَفُ بأمرٍ يَريبُ النَّاسَ، كنَحوِ الزِّنا. يُنظَر: ((مجمع بحار الأنوار)) للفتني (2/439).
وتُصبِحُ غَرْثَى [9816] أي: جائِعةً. ينظر ((شمس العلوم)) لنشوان الحميري (8/ 4932). وقال الفتني: (أي: جائِعةٌ لا تأكُلُ لُحومَ الغافِلاتِ بالغِيبةِ لتَشبَعَ بها). ((مجمع بحار الأنوار)) (4/20). من لحومِ الغوافِلِ [9817] أخرجه البخاري (4146)، ومسلم (2488) مطوَّلًا.
وتأمَّلْ حالَها رَضِيَ اللهُ عنها حينَ اتُّهِمَت بالباطِلِ بتُهمةٍ مِن أشنَعِ التُّهَمِ، وصَبْرَها على ذلك وثباتَها بلا جَزَعٍ ولا طَيشٍ، حتَّى أنزل اللهُ سُبحانَه براءَتَها، وبَشَّرها بها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
تقولُ رَضِيَ الله عنها: (فلمَّا سُرِّي عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَضحَكُ، فكان أوَّلَ كَلِمةٍ تكَلَّمَ بها أن قال لي: يا عائشةُ، احمَدي اللهَ؛ فقد برَّأك اللهُ، فقالت لي أمِّي: قومي إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: لا واللهِ، لا أقومُ إليه، ولا أحمدُ إلَّا اللهَ) [9818] أخرجه مطوَّلًا: البخاري (2661) واللفظ له، ومسلم (2770). .
يقولُ ابنُ القَيِّمِ: (وللهِ ذلك الثَّباتُ والرَّزانةُ منها! وهو أحَبُّ شيءٍ إليها، ولا صَبْرَ لها عنه، وقد تنكَّرَ قَلبُ حبيبِها لها شَهرًا، ثمَّ صادفَت الرِّضا منه والإقبالَ، فلم تبادِرْ إلى القيامِ إليه، والسُّرورِ برِضاه وقُرْبِه مع شِدَّةِ محبَّتِها له، وهذا غايةُ الثَّباتِ والقُوَّةِ!) [9819] ((زاد المعاد)) (3/236-237). .   

انظر أيضا: